ظاهرة الاستشراق.. مساحات رمادية وأخرى بيضاء

ظاهرة الاستشراق.. مساحات رمادية وأخرى بيضاء
        

          الاستشراق هو علم الشرق أو العلم الشرقي. وكلمة «مستشرق» بالمعنى العام تطلق على كل عالم غربي يشتغل بدراسة الشرق كله : أقصاه ووسطه وأدناه، في لغاته وآدابه وحضارته وأديانه. أما المعنى الخاص لمفهوم الاستشراق، الذي يعني الدراسات الغربية المتعلقة بالشرق الإسلامي في لغاته وآدابه وتاريخه وعقائده وتشريعاته وحضارته بوجه عام.

          وهذا المعنى هو الذي ينصرف إليه الذهن في عالمنا العربي الإسلامي، عندما يطلق لفظ استشرق ومستشرق، وهو الشائع أيضا في كتابات المستشرقين المعنيين. وعلى الرغم من أن الاستشراق يمتد بجزوره عند البعض إلى ما يقرب من ألف عام مضت، فإن مفهوم «مستشرق» Orientalis لم يظهر في أوربا إلا في نهاية القرن الثامن عشر، وأدرج مفهوم «الاستشراق» Orientalism  في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام1838م.

          قدم الاستشراق التقليدي في مجال الآداب والتاريخ والآثار والعلوم الإنسانية والاجتماعية بعض الدراسات المهمة والمتعمقة، خاصة تلك المتعلقة بالحضارة العربية الإسلامية. فقد ظهرت كتابات كثيرة متعددة على يد «سليفستر ساس»، و«نولدكه» و«إدوارد وليم لن» و«كارل بروكلمان» و«جولدسيهر» و«جوستاف لوبون» وغيرهم.

          إن الجهد الواضح الذي قام به المستشرقون لدراسة تاريخ الحضارة العربية الإسلامية يحمل قيمة كبرى، وإن كانت تشوبه الأهداف الاستعمارية كما يقول «إدوارد سعيد ومكسيم رودنسون Maxime Rodinson»، فقد اهتم عدد من المستشرقين اهتماما حقيقيا بالحضارة الشرقية الإسلامية، وحاولوا أن يتعاملوا معها بموضوعية، وقد نجح عدد قليل منهم في هذا المجال. إن الهدف العلمي كان الدافع الأساس في هذه العملية، لكن وجدت الدول الأوربية في المعلومات والدراسات اللغوية والأنثروبولوجية والفقهية والفلسفية والأدبية والتاريخ الواقعي لبلاد الشرق مساعدا قويا لها في بسط هيمنتها على هذه البلاد ونهب خيراتها طوال أكثر من قرن.

          وكما كان المستشرقون أجيالا وموجات، فهم كذلك أنماط بشرية شتى، حسب البواعث التي حركتهم والآفاق التي يسعون إليها، فهناك الاستشراق الأكاديمي في خدمة برنامج سياسي لدولة محددة. في هذا الشكل يتقن الدارس لغة المجتمع المدروس، وقد يؤلف كتبا لتعليم لغته أو يترجم بعض آثاره الأدبية القيمة، ولهذا التيار ممثلوه في كل بلد يتصّور أن له مصالح في الفضاء العربي الإسلامي.

استشراق الرحالة

          وهناك تيار استشراقي آخر يمثله بعض الأدباء والرحالة الذين لم يكونوا في الأصل يعملون في مؤسسة أكاديمية، ولم يصاحبوا أو يستكشفوا لحساب جيش غاز أو شركة مناجم. يبحث هؤلاء في الأصل عن الفرار من عالم يخنقهم ويتصورون أنهم في عصر الثورة الصناعية والعقلانية الخانقة سيجدون في الشرق العربي الإسلامي ما يفتقدونه في مجتمعاتهم، ويبحثون عن الغرائب والطرائف والعجائب في بلاد الشرق بين ذخائره وآثاره. ولكن مهما اختلفت التيارات وتباينت الشخصيات فإن قاسما مشتركا يجمع بين آثار كل (المستشرقين) وهي مساهمتهم في نحت ملامح الشرق وفق مخيلتهم بما تحتويه هذه المخيلة من رغبات ومخاوف.

          لذلك حفلت الكتابات (العلمية) الاستشراقية بالصور النمطية عن الإنسان الشرقي كما يتوقعه الغرب أو كما يريده أن يكون. وهناك للاستشراق اتجاهان مختلفان فيما يتعلق بالأهداف والمواقف إزاء الإسلام من خلال ضباب كثيف من الخرافات والأساطير الشعبية. أما الاتجاه الثاني فقد كان نسبيا بالمقارنة إلى الاتجاه الأول أقرب إلى الموضوعية والعلمية. ونظر إلى الإسلام بوصفه مهد العلوم الطبيعية والطب والفلسفة.

          وعلى الرغم من سيطرة الاتجاهات التنصيرية على الاستشراق في القرن 17، فإن نهاية القرن شهدت من ناحية أخرى اتجاها آخر مختلفا استمر في القرن 18، حيث نظر إلى الإسلام نظرة موضوعية محايدة، فيها شيء من التعاطف مع الإسلام. وقد شجع على ذلك ظهور النزعة العقلية الجديدة التي بدأت تسود أوربا آنذاك، والتي كانت في عمومها مخالفة للكنيسة.

نموذج رائد للمستشرقين

          شهد القرن الثامن عشر نموذجا آخر رائدا في عالم الاستشراق الألماني ممثلا في «يوهان.ج. راسيكه» J.J.Reiske  (1716 - 1774) الذي كان واحدا من عباقرة علماء اللغة العربية في عصره، وإليه يرجع الفضل في إيجاد مكان بارز للدراسات العربية في ألمانيا. ولكن عصره ومعاصريه تجاهلوه وحاربه رجال اللاهوت متهمينه بالزندقة، ولعل ذلك يرجع إلى موقفه الإيجابي من الإسلام.

          لكن هذه الأمثلة من المحاولات الجادة في التعرف على الإسلام عن قرب وبلا أحكام سابقة لم تستطع أن ترسخ في الفكر الأوربي تيارا عاما. ولم تستطع بالتالي أن تقضي على الصورة المشوهة عن الإسلام في أذهان الأوربيين بصفة عامة، تلك الصورة التي رسختها القرون الوسطى في الأذهان ولا تزال آثارها  عالقة بالعقول حتى اليوم.

          ولا شك أنه مع الاتصال المباشر الذي حدث في القرن التاسع عشر بين فرنسا وبلدان العالم العربي انطلاقا من حملة نابليون على مصر، واحتلال فرنسا للجزائر عام 1832م ولتونس عام1881م ثم وجودها في المغرب والشام فيما بعد. فقد نجح قنصل فرنسا في مصر «أسلان دي شرفيل»، وحده في أن يجمع 1500 مخطوطة، وكذلك فعل «شارل شيفر» من خلال موقعه في السفارة الفرنسية في استنبول، فأهدى للمكتبة الوطنية  بباريس مجموعة كاملة من المخطوطات العربية والفارسية والتركية  لاتزال  تحمل اسمه حتى الآن. وفي الربع الأخير من القرن 19 بلغ عدد المخطوطات العربية في مكتبة باريس الوطنية وحدها  ثلاثة آلاف وخمسمائة مخطوط، وقد تضاعف هذا الرقم أضعافا كثيرة، صنفت تصنيفا جيدا، وحفظت بأحدث الوسائل العلمية.

          وقد واكب عمليات الجمع والتصنيف والحفظ دراسات علمية للمستشرقين الفرنسيين عن علوم المخطوطات العربية من أشهرها كتاب بلاشير وسوفاجييه Reyles pour edition et Traduction de Texes  «قواعد تحقيق المخطوطات العربية وترجمتها». ولقد أثمر هذا الاستعداد العلمي المكثف على امتداد هذه القرون كثيرا من الدراسات المفيدة حول الشرق العربي وتراثه كتبها مستشرقون بالفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية أو الروسية وغيرها من اللغات الحية، وإن تلون بعضها أحيانا بجانب من سوء النية أو نقصان الأداة، ولكنها في مجملها، تشكل رصيدا ضروريا لا يمكن أن يتجاهله الباحثون.

          وقد ساعدهم على تطبيق منهجهم العلمي في دراسة وتحقيق مخطوطات التراث العربي الإسلامي أخذهم بأمهات اللغات - سامية كانت أو آرية - فدرسوا الكلدانية والآشورية والآرامية والسريانية والعبرية والعربية والحبشية والأرمنية والفارسية والتركية وسائر لغات الشرق الأقصى، وصنفوا في قواعد كل منها وفقهها ومعاجمها ولهجاتها وتاريخها، وقارنوا بينها، وحددوا صلاتها باللغات الأخرى واللغات الآرامية، وحللوا الكتابات الهيروغليفية والمسمارية والفينيقية والنبطية وغيرها، فأدى ذلك إلى اكتشافات غيرت وجه التاريخ.

          وأشتهر كثير من المستشرقين بكثرة معرفتهم باللغات والتي كانت تربو أحيانا على الثلاثين لغة، هذا فضلا عن سعة ثقافتهم بمختلف هذه اللغات وأصولها مما خولهم تناول التراث الإنساني من لغاته السامية والآرية في الأديان والفنون والآداب والعلوم، فحققوا أصوله وتأثره وتفاعله وتطوره، وأثره من منابعه حتى عصرنا هذا: كتاريخ الفلسفة بأصولها اليونانية والسريانية والعربية والعبرية واللاتينية وسائر اللغات الغربية، وعلم الكلام لدى جميع الشعوب على مر العصور، ومقارنة الفقه الإسلامي بالقوانين الدينية والمدنية العالمية.

          وقد تخصص الواحد منهم بلغة أو دين أو علم أو أدب أو فن أو سلالة أو عصر أو أديب: فهذا تخصــــص باللغة وفقــــهها وبلاغـــــتها، وذاك بالتشريع في الإسلام ونشأته وتأثره وتطوره، وثالث بالمواليد الطبيعية عند العرب والجغرافيا والتاريخ، وسواه بالموسيقى العربية ومصادرها وآلاتها ومصنفاتها، وغيرها من الموضوعات المتصلة بالشعر والفلسفة والطب والحكمة.

          وقد كان المستشرقون أصحاب جلد على العمل يضرب به المثل، وربما قضى الواحد منهم عمره في تحقيق مخطوط أو تصنيف كتاب أو موسوعة دون كلل أو ملل. فـ«أدموند كاستل» قضى في وضع مجمل معجم اللغات السامية ثماني عشرة سنة، و«إدوارد لين» رحل في سبيل  معجمه ثلاث رحلات إلى مصر، وكان يعمل فيه اثنتي عشرة ساعة في اليوم. وأنفق «بارانوف» في تأليف القاموس العربي الروسي عشرين عاما من عمره. و«فلوجيل» جمع مخطوطات فهرست ابن النديم من مكتبات فيينا وباريس ولندن طوال خمس وعشرين سنة. وظل «فايل» ست عشرة سنة في تصنيف كتابه«تاريخ الخلفاء»، و«هامر - بورجشتال» ست سنوات في تاريخ الآداب العربية، و«يد كورناي» عشر سنوات في تحقيق وترجمة مروج الذهب للمسعودي. ونيفت آثار كثير من المستشرقين على المئات من الكتب والأبحاث من أمثال : إدوارد براون، وأسين بالاثيوس، وبروكلمان، وكراتشكوفيسكي، وسارتون، وماسينيون.

مرحلة ما بين الحربين

          وقد شهدت المرحلة فيما بين الحربين العالميتين نشاطا كبيرا وواسعا للحركة الاستشراقية، فوجدنا «كانتيتو» وهو من أبرز دارسي اللهجات العربية من المستعربين في النصف الأول من القرن العشـــرين، يعد رائدا في الجغرافية اللغوية العربية وأطالسها وكتابه«لهجة عرب تدمر» الذي أصدره في جزأين ضمن منشورات المعهد الـفــــرنسي عام1934، كما نشر كتاب«بعض لهجات بدو العرب في الشرق» بالجزائرعام 1937م وتوالت مؤلفاته في الظهور في باريس والعالم العربي.

          كما وجدنا لـ«هنري فليش» مؤلفات في ذات الاتجاه مثل «مدخل إلى اللغات السامية » بباريس عام 1974م.

          وقد اهتم الاستشراق الفرنسي بمجال الدراسات الجغرافية العربية التي أهملها المصنفون للدراسات الأدبية العربية، فكتب«أندريه ميكيل» دراسته الشهيرة عن«الجغرافية البشرية للعالم الإسلامي حتى القرن الحادي عشر الميلادي»، وكانت قد سبقته دراسات وتحقيقات لكتب العجائب والغرائب في التراث الجغرافي العربي.

          وعلى الرغم من هذا المجهود العلمي الضخم  والذي قام به كثير من المستشرقين لأسباب وأغراض متعددة منها البحث الموضوعي واستجلاء حقيقة الشرق والإسلام وتراثه، إلا أنه ونظرا لما يمثله الشرق الأوسط من أهمية كبرى بسبب موقعه الجغرافي السياسي (الجيوبولتيك Geopoltical) مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية تكثف من وجودها وهيمنتها على الأماكن التي كانت تهيمن عليها بريطانيا وفرنسا في السابق.

          ولذلك عملت أمريكا على تأسيس المراكز العلمية للدراسات الإقليمية خاصة التي تهتم بمنطقة الشرق الأوسط.  

          بعبارة أخرى، ما تم تأسيسه هو نوع جديد من الاستشراق لا ينحصر على الدراسات التقليدية أو الكلاسيكية للمستشرقين، بل تساهم فيه أيضا العلوم الاجتماعية والسياسية مستخدمة مفاهيم جديدة متطورة، أو مطورة لتصورات قديمة في شكل جديد. ولعل التحول التدريجي من الاستشراق القديم إلى الاستشراق الجديد يفسر الحجم المتزايد من الدراسات والمؤلفات الأكاديمية التي تحمل عنوان (الاستشراق الجديد) New Orientalism، والاستشراق الأمريكي American Orienatalism . وقد كانت هناك تمهيدات لهذا النوع من الاستشراق ظهر جليا عندما كتب «برنارد لويس» مقالا في الخمسينيات من القرن المنصرم عن «الشيوعية والإسلام » في فترة التحرر من الاستعمار وسيادة المد الشيوعي.

          وفي الاستشراق الأمريكي وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي سعى إلى خلق نمط جديد من الاستشراق يتوخى استبدال القانون الدولي بقانون يفترض الهيمنة الأمريكية المطلقة، وصارت أمريكا القوة الوحيدة المهيمنة على العالم، وطرحت النظام العالمي الجديد، ثم نظام العولمة، وهو نظام تتلاشى فيه الخصوصيات والصراعات، وتتوحد فيه المعايير. ومن هنا - وبالرغم من فشل هذا النظام - تم خلق نظام اقتصادي يعتمد على ثورة التقنية بغرض فرض منظومة قيمية على العالم تتعلق بالثقافة والسياسة والاجتماع.

بعد أحداث سبتمبر

          وبعد الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م وأحداثه يظهر المنهج الاستشراقي الجديد في التركيز الشديد، ليس على الشرق، بل على الإسلام، وليس على الاستشراق (التقليدي) بل على «الإسلاموية» Islamism  وما يرتبط بها من تيارات توصف بالأصولية والتوجهات الإرهابية، وغيرها من نعوت سلبية. ولذلك ظهرت كتب ودراسات غربية وأمريكية تحمل عناوين مثل «التهديد الإسلامي» و«الإرهاب الإسلامي»، و«الحرب في عقول المسلمين» و«الإمبريالية الإسلامية» ونشطت الوسائل والقنوات الفضائية والإنترنت التي ركزت كل جهودها على الجهاد الإسلامي، بحيث أصبح الإسلام يعني نهاية الحضارة وأنه نسق ديني معاد للإنسانية، ومعاد للسامية، ومعاد للمرأة، ومعاد للعقلانية، ومعاد للديمقراطية أو على حد تعبير «جورج بوش الابن» «إسلام فاشيستي».

          ومن هنا فليس غريبا أن معظم أشكال التنظير العلمي والتفسيرات الأكاديمية حول الإرهاب ظهرت في أمريكا، وهذا التنظير لا يخلو من اتهام الإسلام والعرب، ولذلك أصبحت «الحرب على الإرهاب» وكأنها تعني الحرب على الدول الإسلامية خاصة تلك التي تدعو إلى مواجهة النفوذ الأمريكي وسيطرته على المنطقة كأفغانستان وإيران. هذا فضلا عن دخول الإسلام السياسي في مواجهة مع أصحاب نظريات الحداثة التي تحاول تحجيمه وإظهاره على أنه غير متسق مع توجهاتها.

          من هنا يتبين لنا ـ وبعد هذا التاريخ الضخم والحافل ـ أن البحث في أصول الخطاب الاستشراقي  وفروعه أمر محفوف بالمخاطر نظرا لتعقيدات هذا الخطاب وتشابكاته المختلفة الضاربة جذورها في التاريخ، ولإمكان السقوط في التغريبية Looccidentalisme أي الاستشراق المعكوس والإثنولوجية اللغوية، أي أنه معرفة مكونة عن العالم العربي الإسلامي في مختلف أشكال التفكير والتعبير العربي الإسلامي، أي أنه خطاب الآخر Discours de la Loautre  الذي يوجهه الغرب إلينا بوصفنا غيرية له.

------------------------------------

          أأجـمع صحبتي سحر ارتحالا
                                        ولم أشعـر ببين منـك هـالا
          ولم أر مثـل هالـة في معـد
                                        تشبـه حسنهـا ألاّ الهـلالا
          ألا أبلغ بنـي جشم بن بكـر
                                        وتغلـب كلها نبـأ جـلالا
          بأن الـماجد البطل ابن عمرو
                                        غداة نطاع قد صدق القتـالا
          كـتيبتـه مـلملمـة رداح
                                        إذا يرمونـها تنبـي النبـالا
          جزى الله الأغـر يزيد خيـرا
                                        ولقـاه الـمسـرة والجمـالا
          بمأخذه ابن كلثـوم بن سعـد
                                        يزيـد الخيـر نازلـه نـزالا
          بـجمع من بني قـران صيـد
                                        يـجيلون الطعـان إذا أجـالا
          يزيـد يقـدم الشقـراء حتـى
                                        يروي صدرها الأسـل النهـالا

عمرو بن كلثوم

 

 


بركات محمد مراد