مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

الشعر الذي يُشبه صاحبَه

مادام المطلوب ليس مرفأ الذاكرة بأكمله، بل بعضاً منه فأنا لا أجد أفضل من أن أتحدّث عن أهم ما يرسو في هذا المرفأ - بالنسبة لي على الأقل - من سفن ومراكب لها رحلاتها وتجاربها، بصفتي شاعراً قبل أن أتحلى بأي صفة أخرى.

لقد كان الشعر هو حياتي باختصار شديد، وبتواضع أبلغ، كان صورة طموحا عن حياتي الشخصية، بحلوها ومرّها. غير أنه يجب الاعتراف مسبقاً أن التجارب الأدبية لا تورّث، وعلى صليب الإبداع لا يمكن أن يعلّق أكثر من مسيح واحد. لكل صليبه إذن. إننا نتحدث عن تجاربنا للآخرين وكأنه من الممكن أن يبدأوا من حيث انتهينا. وهذا مستحيل، وإذا كان ثمة جدوى من هذه المراجعة، فإن صاحبها هو المستفيد الأول وبعده - بمسافة تطول أو تقصر - يصل الآخرون.

قد تكون هي متعة الاعترافات، وفي كل اعتراف متعة ما، وتنفّس مريح، ونفاذ جديد في البصيرة، فالمعترف، أو المستعيد ذكرياته، محتاج من حين لآخر إلى محطة استراحة يتوقف فيها كي يراجع حساباته، ويحصي الخسائر والأرباح في مسيرته، وهذه الحاجة بقدر ما تكون صادقة أصيلة تقتضي الكثير من النزاهة في التقصّي، والمزيد من الجرأة في اكتشاف الحسنات والسيئات. وربما كانت الحاجة إلى هذه المكاشفة مع الذات جهاراً أبلغ وأعمق ضرورة في تحسين تقنياتها الفنية وأدواتها في التعبير. أما الآخرون، فلقد تختلف المسألة من حيث دورها في تحريض فضول الذين يجهلون الشخص للتعرّف عليه، أو الذين يعرفونه إلى مراجعة قراءاتهم السابقة له في ضوء ما سمعوا أو قرأوا منه. وربما بهذا المعنى وحده تتواصل التجارب البشرية، وتتقاطع، وتتداخل، ويغدو الإبداع بمعنى من المعاني محصّلة جهود كثيرة معقّدة يصعب فيها التفريق بين ما هو جماعي وما هو فرديّ.

لا أحد من المبدعين - إذن - يستطيع الإدّعاء أنه بدأ من نقطة الصفر، وأنه صنع نفسه بنفسه، وأن لغته بكر أو هبطت عليه بوحي من الآلهة كلغة أولى تخصّه وحده. إننا نتوهّم - ولأمد طويل - أن الواحد منا مختلف متميّز عن الآخرين منذ سطوره الأولى، وهي حرية قد لا نمارسها بمعناها المطلق طوال وجودنا على قيد الحياة، فمنذ أن نُقذف من دهليز رحم الأم المعتم إلى فضاء الوجود المشع، تبدأ فوراً على يد الآخرين عملية اغتصاب روحنا إلى أن ندرج في أكفاننا كي نتخلى عن خصوصيتنا ونغدو نسخة نظامية عنه.

يبدأ هذا التدخل في حياتنا الخاصة ضمن إطار الأسرة أولاً، ثم تتسع دائرته كي تشمل الشارع، والمدرسة، والنادي، ومكان العمل، والحزب وبيوت العبادة، حتى يكاد لا يبقى للفرد فسحة يطلق فيها روحه على هواه كي يكون هو ذاته فعلاً لا غيره. وهو تدريب يتطوّع لإخضاعنا له جميع من حولنا دونما استثناء تقريباً، وبكثير من حسن النيّة، كي نتحوّل إلى أعضاء نظاميين مدجّنين حسب الأصول والتقاليد والأعراف السائدة في ظل النظام الاجتماعي الذي ننتمي إليه بالولادة. وهكذا سوف نتشابه ونتماثل إلى حد بعيد، ليس في تجمّعنا وتكاتفنا فقط، وإنما أيضاً في تنابذنا وصراعاتنا. لن ينجو أحد من هذه الآلة الجبّارة التي تتقن عملها جيّداً في صهر البشر وتحويلهم إلى كتلة متجانسة وهم يتوّهمون أنهم أفراد أحرار في مجتمع حر. لن ينجو أحد حتى الموهوبون إبداعياً في التعبير الأدبي أو الفني عامة. لن ينجو أحد منهم من طغيان هذه الآلة، بل ربما كان هؤلاء الموهوبون أكثر من غيرهم تعرّضاً لحماسة الآخرين في الوصاية عليهم خوفاً على مواهبهم من الضياع - كما يزعمون - والموهوب هو أكثر الناس إحساساً بهذا المأزق وضرورة التحرّر منه. وقد ينقضي العمر من دون أن يُتاح له أن يستقل بوجوده الخاص وكيانه الشخصي كي يكون هو ذاته فيما يكتبه أو يقوله أو يصوّره. وحين ينتبه أحدهم إلى لعبة التماثل الرهيبة هذه، سيجد - عادة - أنه قد غدا صعباً عليه إعلان عصيانه وتمرّده على السلطة الخارقة للنظام السائد، كي يمارس حقه الطبيعي في خصوصيته المتفرّدة، ولكي يغدو (عدنان) هو (عدنان) ذاته فعلاً، و (سعاد) هي (سعاد) ذاتها وليس أيّ شخص آخر.

إن خير ما يقال في تلخيص السيرة الإبداعية لأي مبدع موهوب هو أنها المحصلة للصراع الأبدي والمتوارث بين (الذات) و (الموضوع) أو بين (الأنا) و (الآخر)، وأين وكيف تتوازن المعادلة بين الطرفين في أن لا يطغى أحدهما على الآخر، وصولاً إلى إبداع حقيقي أصيل. إن طغيان (الذاتي) على (الموضوعي) يهدد بالغموض المجّاني والميوعة العاطفية أو الفكرية والتسيّب، بقدر ما يهدد طغيان الموضوعي على الذاتي بالنمطيّة، واليباس، وفقدان النكهة.

ومن هن يكتمل القول بأن تجربتي الإبداعية كشاعر كانت صورة نموذجية لهذه المسيرة محتدمة الصراع، فبالرغم من أنني بدأت أكتب في الثانية أو الثالثة عشرة ما يمكن تسميته بالشعر بالنسبة لتلك السن المبكّرة، فلقد كانت البدايات مثقلة بأصوات الأوصياء الكبار الذين حفظنا أشعارهم عن ظهر قلب بكثير من المتعة، وإلا فكيف أستطيع نكران عباءة أبي فراس الحمداني - أو المتنبي إذا أردتم - وهي تغطي هذه الأبيات التي نظمها الطالب الإعدادي أو الثانوي الذي كنتُه ذات يوم:

ولي همّة شمّاء يشعلها الدهر

فلا هو يطفيها، ولا الصد والهجر

تمور بألوان الإباء كأنما

عوالمها بحر، وشاطئها سرّ

وكيف أخفي النزعة المجونية الظريفة التي استهوتني لدى أبي فراس فيما كتبته آنذاك بكثير من السذاجة:

ثلاث كؤوس على المائدة تراق على معد واحدة
وحول الخوان ثلاث رجال من السكر كالجثث الهامدة

مع أنني كنت في ذلك العهد لم أحضر إطلاقاً مجلساً للسكارى كي أصفه.

وهل تخفى نبرة ابن الرومي، أو خليل مطران في هذا الوصف الذي نظمته وأنا غرّ لغروب الشمس:

بحنان قبلت شمس السماء الأفقا
ثم ذابت بهـدوء وسـكون للقـا
وامتحت من عالم الأحياء إلاّ شفَقا

أو بدوي الجبل وعمر أبو ريشة معاً في هذه القصيدة الرنّانة التي نُظمت كي تُنشد في احتفال مدرسيّ لتحيّة العلم الوطني وأنا بعد في صفّ الكفاءة:

أسفر الصبحُ باسماً في حمانا
بعد ليل، لو لمْ نُفق لطـوانا
نَفَحـتنا أنفـاسـُه فنهضنـا
ننفضُ النوم، فاستحال دُخانا
فمضى الريحُ بالدخان، فبانتْ
رايةُ النصر عند ذاك وبانا... إلخ..

هذه أبيات أستقيها لا على التعيين من دفاتر مدرسية قديمة ماأزال أحتفظ بها حتى الآن، كي أثبت أنه كان عليّ أن أنتظر أيضاً كي أخلّص صوتي الداخلي من دوّامة الأصوات الأخرى. وكان الشعر حتى ذلك الحين لايزال لعبة أسلّي بها فطرتي المتحفّزة، غير أن لعبة الشعر لم تبق هواية مسلية أمداً طويلاً، إذْ سرعان ما شرعت تتحوّل إلى مغامرة خطرة في مرحلة (الثانوي) عبر الوطنيّات التي كتبناها عهدئذ ونحن نخوض معاركنا الطلابية مع السلطة الوطنية في بدايات عهد الاستقلال أواخر الأربعينيات، فأتحرّر نسبياً - بالطبع - من سلطان أصوات الشعراء والكبار، ربما بسبب من التأثير الفاجع للمعاناة الشخصية للطالب المشاغب النشـيط الذي كنـته آنئذ،حين واجهت لأوّل مرة في حياتي صدمة الموت المباشر في مشهد رفيق لي في المدرسة يسقط أمامي مضرجاً بدمائه بعد إصابته بطلق ناريّ من مسدس لأحد رجال الشرطة، وكنا في مظاهرة طلابية، وركضي نحوه لحمله مع آخرين إلى ثانوية تجهيز البنين الأولى بدمشق التي انطلقنا منها، حيث أسلم الروح بين أيدينا، فكتبت بعد أيام قصيدة كي تلقى في حفل تأبينه الحاشد يوم الأربعين في المقبرة التي دُفن فيها، حيث اعتليت قبراً وألقيتها في ألوف الطلبة حولي متهّماً السلطات التي قتلتْه:

الأربعون وهل فيها سوى ألم

يحزّ بالذكريات السود وجداني

من للمسدس والبغضاء تُطلقه

حجارة الأرض أم تلويح صبيان

ربّما بسبب من هذه المعاناة، وما حدث بعدها من صراعات وطنية شاركت فيها بحماسة تسرّبت إليّ فيما بعد نزعة الالتزام، حين تأثّرت بالفكر الاشتراكي، وأنا بعد طالب في كلية الآداب، فأومن وقتئذ بما كان يسمّى تيّار (الواقعية الاشتراكية) في الأدب الملتزم، فتتفاقم خطورة الوصاية الفكرية وقد ازدادت قداسة وكأنها دين من الأديان، لاعتقادنا أننا نُسهم تحت قيادتها في تغيير العالم القاسي إلى جنّة وادعة تكاد تفتح أبوابها لنا جميعاً على أرض البشر، وتتفاقم معها بالتالي خطورة اللعبة الشعرية أفدح فأفدح، وأدفع ثمنها باهظاً حين حُشرت في الحبس أكثر من مرّة بسبب من المواقف أو القصائد التي أنشدتها أو نشرتها، ولم ترض عنها السلطات الحاكمة في تلك العهود.

كانت معارك الحياة القاسية وحدها كما يبدو هي الأقدر على تحرير أصواتنا الداخلية وليس القراءات وحدها. أو كما قال الكاتب الفرنسي المعروف كطيّار استُشهد في الحرب العالمية الثانية (أنطوان ده سان أكسوبري) في رائعته (أرض البشر): (تُعلّمنا الأرض عن نفسها أكثر مما تعلّمنا الكتب، ذلك أنها تقاومنا...)، وبتعديل بسيط ومن دون أن نبتعد عن هذا المعنى، يمكن القول إننا نكتشف أنفسنا، أو أسلوبنا الخاص في التعبير من خلال اصطدامنا مع ذاتنا وهي تبحث عن فجوة للخلاص من كابوس المعاناة اليومية المباشرة أكثر مما تقدّمه لنا النظريات المكتوبة والتجارب المنشورة.

كنت أنضج - إذن - فكرياً ونفسياً وممارسة، وأتحرّر يوماً بعد يوم من طغيان الوصاية (الأبوية) - إذا صحّ التعبير - في الفكر والإبداع، ولكن دونما نجاحات كبيرة. ربما تحرّرت قليلاً أو كثيراً من سلطان المتنبي وأبي تمام وأحمد شوقي وبدوي الجبل وأبي ريشة وآخرين من الأصوات الشعرية العربية الكبرى، ولكني لكي أنتقل يساراً في اتجاه شعراء أجانب عالميين، ويساريين على الأغلب، مثل ناظم حكمت، وبابلو نيرودا، وأراغون وبول إيلوارد، ولو كان في هذا المجال متسّع لإجراء المقارنات الميدانية - إذن - لفككتُ - من التفكيك - عدداً من قصائدي في ذلك العهد كي أشير إلى بعض التناص هنا أو هناك بين ما كنت أكتبه في الخمسينيات ونماذج شعرية معيّنة لأولئك الشعراء العالميين.

وحتى في شعر الحب، لم يتخل الآخرون عن وصايتهم، فإذا كانت البدايات قد تمّت بصحبة عشّاقنا العذريين القدامى، فلقد أفسحت فيما بعد لتيّار الرومانسية أن يشغل بإخلاص ركناً من وجداني مع جبران وعلي محمود طه وأمين نخلة والياس أبي شبكة وسعيد عقل وغيرهم، كما لم أنج بعد كل هذا من وصاية نزار قباني الذي كان صديقاً شخصياً عدداً من السنوات بالرغم من تفاوت الأعمار بيننا، ومَن يقرأ بعضاً من النماذج الشعرية التي نشرتها في مجلة (النقّاد) في مطلع الخمسينيات، لابدّ أن يلاحظ بوضوح تأثّري بألاعيب نزار في تواصله مع الأشياء الأنثوية، وحين تحرّرت من هؤلاء - نسبياً بالطبع دائماً - كنت أعوّض عنهم بالمهارات المحدثة التي بهرتني وقتئذ لدى قراءتي جاك بريفير وبول جيرالدي وقبلهما بودلير بالفرنسية، مع تباين هذه الشخصيات، بل أكاد أقول إنني في عدد من قصائد الحب حين تحوّلنا إلى خانة اليسار الماركسي وقعت أيضاً - بشكل أو بآخر - تحت تأثير الشعراء العشّاق من اليساريين مثل أراغون ونيرودا ولوركا.

كنا نكتب في الخمسينيات وقد غُصنا في بحران الكتابات الجدانوفية والوصايات الأيديولوجية، ولكن الطريف في الأمر أنني حين أراجع إنتاج تلك العهود، أجد فيه الكثير من النماذج الطليقة التي لا يمكن إدراجها في خانة الجدانوفية إطلاقاً، بل ربما كانت خارجة عليها في الشعر كما في القصة، وفي استطاعتي أن أبرهن على ذلك بالشواهد الكثيرة، غير أن المجال لا يسمح هنا إلا باستخلاص المغزى العميق والأساسي لأي تجربة إبداعية أن هذه الشواهد من غزل رومانسي مثلاً خال من خلفيات الصراع الطبقي أو التفاؤل الثوري، وغيرها من مستلزمات المدرسة الجدانوفية كانت محكومة بمضاعفات الصراع الفني - وليس الطبقي وحده - بين الذاتي والموضوعي، وأنه لم يحدث أبداً أن استطاع الموضوعي - أو المؤدلج بتعبير آخر - حين أراد أن يحلّ محل الموضوعي الواقعي- أي دونما أي مزايدات أو أوهام - لم يحدث أبداً أن استطاع هذا (الموضوعي) إزاحة الذاتي جانباً.

وهذا ما يعزّيني الآن أن صوتي الجوّاني لم يختف تماماً، بل كان حاضراً باستمرار، وبقوة ملحوظة في بعض الأحيان، وأن شوقي بغدادي كان هو فعلاً شوقي بغدادي حتى في أقصى حالات الانتماء أو الالتزام العقائدي. وخير مثال على هذه الحقيقة أنني اضطررت مرّة بعد لجوئي إلى لبنان في أواخر الخمسينيات هرباً من التعسّف السلطوي، اضطررت إلى استخدام اسم مستعار أوقّع به قصائد جديدة نشرتها في إحدى الصحف اللبنانية، فكتب عدد كبير من القرّاء إلى الجريدة يسألون عن صاحب الاسم الحقيقي لهذه القصائد لاعتقادهم أن الاسم المنشور مستعار، بل لقد صرّح بعضهم أنه يظن بأنها لشوقي بغدادي بسبب التشابه الكبير بين أسلوب تلك القصائد وأسلوب الشاعر المذكور. وهذا عزاء آخر، غير أنه صار قديماً الآن.

هذا الحديث لا ينطبق على المضامين وحدها، بل على الشكل الفني أيضاً، مما يثبت أن العلاقة بين الشكل والمضمون علاقة جدلية بحق، وبخاصة حين ألاحظ تحوّلي أكثر فأكثر من إطار الرائد الخطيب المحرّض أو المعلّم، إلى إطار المغني البسيط المتوحّد أو بتعبير آخر من دور الممثل المسرحي المتوجّه بحديثه نحو الجمهور إلى الممثل الذي يلقي مونولوجاً لنفسه.

لن يتغيّر الأسلوب مع هذا التحوّل تغيّراً كلياً، هذا مستحيل، وغير مطلوب أصلاً، فالأسلوب هو الإنسان - كما قال (بوفون) - وإنما قد تتغيّر طريقة الأداء، أو أنماط التخيّل والتوجّه أو درجة تكثيف اللغة، أو كلها معاً، فيكتسب الأسلوب بعضاً من الغموض الشـفّاف، ويغتني أعمق فأعمق بالرؤية الذاتية، غير أن الروح تبقى واحدة، ولا أحد يدري كيف، وبهذا المعنى ينسحب الموضوعي قليلاً أو كثيراً إلى الخلف كي يترك الواجهة للذاتي ويكتفي بالكمون وراءه كمهد يحتضنه من دون أن يبتلعه.

وحين اخترت هذا العنوان (شيء يخصّ الروح) لمجموعتي الشعرية، فلربّما كنت أعبّر بشكل عفويّ عن هذه التحوّلات من دون أن أعني - بالطبع - أن إنتاجي السابق كان خالياً من الروح أو لا يخصّ الروح، وإنما للتنبيه فقط على أن الصوت الداخلي للشاعر بات أكثر قدرة على التحرّر من الجاهز، والموصى عليه، والمألوف، وبالتالي أقوى في التعبير عن خصوصيته.

وهاهوالقطار يقترب من محطته الأخيرة، فما عساني صنعت بعد كل هذا العناء الممتع المديد? يخيّل لي وأنا أراجع شريط العمر أنني شاعر - أو إنسان - لا يُطيق الخضوع الأعمى لأي سلطة، غير أنني في الوقت ذاته لست من الشعراء الذين يتباهون بتمرّدهم متعمّدين خرق النظام مجّاناً في أغلب الأحيان.

إننا أولاً وأخيراً، وبالرغم من تميّزنا كأفراد، لا يمكن لوجودنا الشخصي، وبالتالي الفني أن يكتمل من دون إطاره الاجتماعي. ولكن إلى أيّ حدّ يُسمح لهذا الإطار أن يبسط سلطته على الموهبة الفردية. تلك هي المسألة كما يقولون.

إن عزائي الأكبر هو أنني أومن كل الإيمان بالتغيّر والتجدّد، وإنني أتصـرّف مـدفوعاً بهذه القناعة بشكل تلقائي تمليه طاقة ذاتـية تسـاعدني باسـتمرار على أن أعترف بعثراتي وأخطائي من دون الوقوع تحت كابوس أيّ من مركّبات النقص أو التفوّق. إنني - باختصار - أحبّ الشعر قراءة وإبداعاً، وأشعر حقّاً بنشوة الولادة الأولى مع كل نصّ جـديد، ولا أطمح فيما تبقّى لي في الحياة بأكثر من أن أكتب شعراً يُشْبهني أكثر فأكثر.

 

شوقي بغدادي

 
 




شوقي بغدادي