الوجه الأخير للقرحة الهضمية
الوجه الأخير للقرحة الهضمية
يختص مرض القرحة الهضمية بتطورات غربية تتبدل باستمرار منذ أوائل هذا القرن. وفي كل مرة يخال الباحثون أنهم قد كشفوا أسبابها الحقيقية، ليتجلى فيما بعد اكتشاف جديد وعوامل جديدة تضاف إلى المعرفة السابقة وتطورها دون أن تقدم الجواب الحاسم الأخير، مادامت القرحة الهضمية تخضع لعامل النكس المتردد. ولهذا كازال مرض القرحة الهضمية يتأرجح في أسبابه العديدة، وحتى الاكتشافات الأخيرة التي تطلق أسبابا جرثومية انتانية لتكون القرحة، تترك بعض التساؤلات التي تجعل العنصر الانتاني في تكون القرحة سببا مهما وأساسيا دون أن يكون العامل الوحيد الوصول إلى الحلزون منذ مطلع القرن العشرين، كانت القرحة الهضمية مرتبطة بعنصر الشدة وعامل الحمية، وكانت المعالجة تنحصر في أبعاد الأسباب العصبية وفي تأمين جمية قاسية تفرض أحيانا تناول الحليب فقط لعدة أسابيع، ثم التدرج في جداول ضيقة تخنق المريض بشدتها. ثم انطلقت الأبحاث التي تؤكد أن القرحة الهضمية هي وليدة ازدياد الحموضة المعدية ووفرة الخلايا الجدارية في المعدة المولدة لحمض كلور الماء، وكانت مضادات الحموضة السلاح الرئيسي في المعالجة. وأتى الطبيب الفرنسي "غوتمان" Gutman في العقد الرابع من هذا القرن يؤكد أن القرحة الهضمية وليدة عنصر تحسسي عصبي، وأن عنصر الحموضة سبب مرافق وليس أساسيا، وأوضح معالجته الشهيرة التي تتضمن المعالجة الموضعية بالبزموت والمعالجة العامة بالصدمة الهيولية، وكان ارتفاع نسبة الشفاء لديه وفلة النكس حجته الدامغة في صحة دراساته. وفي عام 1971 أوضح الطبيب الإنجليزي بلاك Black أن أحد أقسام مستقبلات الهيستامين 2H Receptor هو العنصر الوسيط في إفراز الحموضة المعدية وتركزت المعالجة على إعطاء مضادات الهيستامين الخاصة. وخلال عشر سنوات كاملة أو أكثر كانت هذه الأدوية بأقسامها المتعددة حجر الرحى في شفاء أكثر النوبات القرحية، إلا أنه اتضح فيما بعد أنها لاتمنع عودة القرحة وإن كان تناولها بشكل بسيط داعم ودائم، يخفف كثيرا من عامل النكس. وفي أوائل العقد التاسع من هذا القرن، اتجهت الأنظار إلى أن تثبيط الإفراز في الخلايا الجدارية المعدية يقدم الشفاء السريع من النوبة القرحية. وكنا نرى خلال هذه الأمواج العلمية المتلاحقة أن بعض الأدوية تعمل بشكل موضعي فعال في التئام القرحة كالسوكر الفات Sucr Alfate والبروستاغلاين Prostaclandin وذلك من خلال تقويه المقاومة في الغشاء المخاطي المعدي. ولم تنجح أي من هذه المحاولات العلمية في منع نكس النوبة القرحية، وبقي عنصر رجوع القرحة العامل الأول الذي يمنع قبول النظريات العلمية السابقة بشكل مطلق. وفي عام 1983 قدم الطبيب الأسترالي باري مارشال، وكان طبيبا مقيما في أحد مستشفيات "برث" Perth في أستراليا اكتشافه لجرثومة حلزونية الشكل ذات أهداب تتوضع غالبا في قسم الغار "قبل بواب المعدة" من الغشاء المخاطي المعدي وأورد دورها المهم في إطلاق القرحة الهضمية وكان ذلك خلال مؤتمر طبي في بروكسل يتعلق بالأمراض الانتانية. ويذكر كل ما سمع الدكتور مارشال في ذلك الحين الضحك والسخرية البعيدة بهذا الاكتشاف، وعلا الصخب والاستهتار بكل ماقدمه الطبيب الاسترالي من صفة انتانية جرثومية جديدة في أسباب القرحة الهضمية. ومنذ ذلك الحين عكف عدد من الباحثين الطباء في أطراف العالم على التحقق من هذا الاكتشاف زكانت صدمة علمية كبيرة لكل من سخر من الدكتور مارشال حين تأكدت جميع المراكز الطبية في أطراف العالم أن هذه الجرثومة موجودة في المعدة تتوضع في غشائها المخاطي وبين خلاياها المفرزة لحامض، وأن دورها مهم جدا في أسباب القرحة، وتأكد أهمية هذه الجرثومة في آثار عامل نكس القرحة وقد كان غامضا حتى الأن. لقد كانت الفكرة السائدة بفعل حموضة المعدة واتضح من خلالها هذا الاكتشاف أن هذا النوع من الجرثوم الحلزوني يتقبل الوسط الحامض، وأن الجرثوم يطلق خميرة من الممكن معايرتها والصادات "المضادات" Antibiotics قادرة على إبادته. لقد تم كشف هذا الجرثوم المسئول من الدكتور الأسترالي Robin Warren عام 1979 خلال فحص خزعات مأخوذة من أقسام معدية استؤصلت لمدواة القرحة، وأعطى الدكتور Warren الطبيب المقيم المبتدئ باري مارشال قائمة بـ 258 مريضا وجد في خزعات معداتهم الجرثومية الحلزونية Spiral، وعمل الطبيب المذكور على دراسة سجلات هؤلاء المرضى ليجد أن أعراضهم لا تعود إلى عوامل إنتانية بل تتأرجح بين حالات قرحية أو التهابية أو تخمة عادية. ثم أجرى دراسة عميقة لمائة مريض تم تنظيرهم وأخذ خزعات من غار المعدة، وكانت المصادفة وحدها كافية لاكتشاف هذه الجرثومة المقرحة، إذ إن الزرع الجرثومي كان دائما سلبيا في حل الحالات في الأيام الثلاثة الأولى، وهذه المدة كافية لإقرار سلبية الزرع. غير أن مستنبتات الجرثوم تُركت عفوا في الحاضنة خلال أيام عيد الفصح، وعاد الدكتور مارشال لرمي المستنبتات المتروكة في الحاضنة، ودهش أنه وجد فيها نموا واضحا لجرثوم. وأدرك أن هذا النوع من الجرثوم يحتاج إلى خمسة أيام على الأقل لينمو في المستنبت الخاص به، وتأكد لديه وجود هذا الجرثوم في معدة "11" مريضا يشكون من آفات قرحية والتهابية. جرب الجراثيم على نفسه ولدى العودة إلأى ألدب الطبي، اتضح أن الأطباء "إيتو وصحبه" قد أوضحوا هذا الجرثوم عام 1967 وتلاهم الدكتور ستير عام 1975 إلآ أنهم لم يربطوا بين وجود الجرثوم والأعراض الهضمية المعدية المرافقة ذات الطابع القرحي. وكان أقصر طريق لهذا الإثبات أن يتناول الدكتور مارشال بنفسه جرعة من هذا الجرثوم ليثبت علاقته بالأعراض الهضمية، وتم ذلك ليقدم أعراضا هضمية طفيفة بعد بضع ساعات من تناول الجرثوم ثم يزول كل شىء لتعاوده أعراض هضمية حادة في اليوم الثامن لتناول الجرثوم وانطلقت رائحة خاصة من فمه، وأجرى الدكتور مارشال التنظير وأخذ الجرعات وتأكد من وجود حالة التهابية حادة في المعدات، وأبانت الخزعات توضع الجرثوم بين خلايا الغشاء المخاطي المعدي. وتتالت الأبحاث والدراسات في أنحاء العالم بشكل سريع، وتأكد للوسط الطبي صحة ما جاء به الدكتور مارشال من أن جرثوما حلزوني الشكل يقع خلف الالتهابات المعدية والقرحات المعدية الانثى عشرية واتفق على تسميتها Campylo Bacter Pylori باعتبارها من زمرة الجراثيم الإنتانية التي يمكن أن توجد في الأمعاء ثم أعطيت للتسمية الصفة المعدية للجرثوم، وأصبح اسمها المتعارف عليه علميا الحلزونية البوابية Hclicobacter Pylori . إذ إن موطنها الأول يقع في غار المعدة الواقع بين بواب المعدة أمامه وقاع المعدة خلفه. وتسابقت المراكز الطبية لدراسة علاقة هذا الجرثوم الأغراض المعدية الالتهابية والقرحية وتخطت هذه للدراسات مائتي بحث، وكان من أهمها دراسة علمية دقيقة لعدد من علماء الطب في النمسا، وكان قرارهم الأخير في فبراير 1993، أكدت الدراسة أن أغلب القرحات سببها جرثوم وتشفى بإعطاء الصادات. وكانت المرحلة الثانية في متابعة هذا التطور الجديد في مفهوم القرحة الهضمية والالتهابية المعدية أن عمل الباحثون على إيجاد أفضل وأسهل الطرق لكشف الجرثوم، الذي تأكد أنه يصيب جميع الأعمار، ويندر في السن المبكرة، إلا أنه يصل إلى 20% لدى من هو في سن العشرين و30% في سن الثرثين و50% في الأعمار المتقدمة. ومن الطرق المباشرة لكشف الجرثوم إجراء تنظير هضمي علوي، وأخذ خزعات من غار المعدة ومن البصلة الاثنى عشرية "بعد المعدة مباشرة" وتجرى الجرثوم في النسيج المأخوذ. أما الطرق غيير المباشر فهي دراسة مصل المريض وتحري الأجسام الضدية فيه بالطرق الناعية المخبرية، ومن الطرق المألوفة والسريعة تحري خميرة Urease في الخزعة المأخوذة أو باستعمال مواد الكربون المشع الذي يتناوله المريض عن طريق الفم فتتحد مع خميرة الـ Urease في المعدة وينطلق مع هواء الزفير خلال التنفس ليكشف جهاز قياس الطيف Spectrometet . ولقد عقدت في فبراير عام 1994 ندوة موسعة في المعاهد الوطنية للصحة في واشنطن ضمت أكثر من أربعين باحثا من أوربا والولايات المتحدة لدراسة ومناقشة علاقة هذا الجرثوم بالآفات الهضمية المعدية وتم إقرار وجود علاقة مؤكدة مع المرض القرحي والالتهابات المعدية بل وسرطانها، وتم استعراض وسائل المعالجة ومن أهم أدوارها منع نكس القرحة وذلك بمعالجة الجرثوم بشكل جذري قاطع. واتفق على دور الصادات في إبادة الجرثوم ولذا وجب مشاركة هذا النوع من المعالجة للأدوية المضادة لإفراز الحامض، إذ أوضحت الدراسات المتتابعة أن 90% من الشفاء يأتي بعد استعمال مستقبلات مضادات الهيستامين مضافا إليها الصادات من أنواع Amoxicllin و Metronidazole لمدة لاتقل عن أسبوعين يتم بعدها تخفيف الدواء بشكل تدريجي. وكانت المدرسة الطبية الفرنسية قد اعتمدت مادة البزموت في معالجة القرحة والتهابات المعدة منذ أوائل القرن من نتائج مؤكدة دون أن تعرف السبب المباشر لتأثير هذه المعالجة، كان اكتشاف الجرثومة الحلزونية في المعدة موضحا لهذا التأثير، إذ أصبح دواء البزموت من جديد إحدى المواد الأساسية في معالجة القرحة إذ إنه يدخل إلى الجرثوم ويفتته كما تبين ذلك في المجهر الإلكتروني، ويعطى مع الصادات مما يؤمن شفاء طويلاً ويمنع النكس الذي هو من أهم صفات القرحة المرضية، وأصبحت المعالجة المقبولة للقرحة الهضمية وفق المعطيات الطبية العلمية الحديثة ترتكز على ثلاثة عناصر: الصادات ومضادات الإفراز، بالإضافة إلى البزموت وهو ما يؤمن شفاء يتعدى التسعين في المائة. ولما كان بعض المرضى لا يتحملون مادة Metronidazol لأسباب تحسسيه أو لمقاومة الجرثوم للدواء، فإن مادة البزموت تقدم فعلا موضعيا مهما في التأثير في الجرثوم. هل نقترب من اللقاح؟ وفي العمين الأخيرين تبين أيضا ان إشراك Omeprazole وهو من البروستاكلاندين الواقي للغشاء المخاطي المعدي، مع مضادات الإفراز يفيد في أكثر من 70% من حالات القرحة، ويحول دون نكسها. ومن أهم ما اتضح من نتائج هذه المعالجات أن عنصر النزف القرحي وتردده يخف كثيرا في القرحة، إذ تأمن إزالة الجرثوم الحلزوني في المعدة. ونتج عن هذه الاكتشافات الشك الكبير بعلاقة مشبوهة بين وجود هذا الجرثوم لمدة طويلة في المعدة وتكون الإصابة السرطانية فيها، إذ تأكد وجود العنصر الانتاني لدى عدد من مرضى سرطان المعدة في قاعها وغارها ويوضح ذلك تزايد سرطان المعدة في المجتمعات التي اتضح أن نسبة إصابة أفرادها بهذا الجرثوم عالية. وفي إحدى الدراسات لمصل مرضى سرطان المعدة اتضح وجود الجرثوم لديهم سابقا خلال حقبة من الزمن. ويؤكد ذلك أن سرطانات فؤاد المعدة أو اتصال المعدة بالمرئ لاترتبط بهذا الجرثوم الذي يتوضع دائما في قاع المعدة وغارها على الأخص. وإلى وقت قريب، كان طب الجينات يبحث دائما عن القرحة الوراثية مادام توارد القرحة في العائلة مؤكدا وممكنا، وخاصة أن كل من شكا من تناذر قرحي قبل سن العشرين نجد دائما في عائلته من يشكو من تناذر مماثل أو حموضة مزمنة، وحين اتضح لنا العنصر الانتاني بدأنا ندرس إمكان وجود الجرثوم في العائلة الواحدة، مما يجعل للإصابة القرحية العائلية قاعدة انتانية قد تكون الأساس في توارث القرحة عن طريق انتقال الجرثوم بين أفراد العائلة الواحدة. وقد أوضحت الدراسات الحديثة أن استعمال الصادات منذ عام 1950 في معالجة الكثير من الأمراض الانتانية في فترات متباينة من حياة الإنسان على مدى السنين، قد أثر كثيرا في تحديد انتقال الكثير من الجراثيم، والحلزونية البوابية Helicobacter Pylori إحداها، وهذا ما خفف كثيرا من وجود الجرثوم لدى الأطفال الذين يأخذون الصادات في معالجة الكثير من أمراضهم الوبائية. أثر اكتشاف هذا الجرثوم الحلزوني في غشاء المعدة المخاطي، ودوره الأساسي في تكوين أمراض معدية، من قرحة أو التهاب أو تخمة، انطلق سؤال على الشفاه: إن الكثير من الأمراض الانتانية تحظى بلقاح للوقاية منها، وهل سنرى لقاحا تتناوله المجتمعات ويقي من هذه الأمراض الهضمية؟ سؤال ذو قاعدة علمية يحددها تداخل العناصر الأساسية في تكون القرحة: العنصر الجرثومي والسبب التحسسي والطاقة الإفرازية والتربة العصبية. والكلام عن اللقاح يفرض دقة في معرفة انتقال الجرثوم من شخص إلى شخص وطريقة انتشاره وعدواه، وهو مايسعى إلى تحديده الباحثون الأطباء في الأعوام المقبلة.
|