مساحة ود محمد عباس شعبان

مساحة ود

"زاهية"

لم يبق أحد من الشهود.. تبددوا.. كلهم قبضوا أعمارهم واستراحوا.. ولكن الرواة كثيرون.. ويصورون التفاصيل بدقة، وبثقة كأنهم رأوا ذلك عصر أمس، أو قبله بأيام.

في "عش البلبل "، قرية "زاهية" بستان واسع كان يملكه أحد الأعيان وقد توفي دون أن يخص به أحداً من ورثته الكثيرين، اختلف الورثة وتناحروا، ولكن البنت الكبرى أصرت أن والدها كتبه لها بوثيقة وبحضور شهود، وكان هدية زواجها.

- أين الوثيقة؟!

مفقودة مع أشياء أخرى كثيرة وغالية ضمن حاجيات ابنها البكر، الذي هاجر إلى أمريكا ولم يعد.. ولا أحد يعرف عنه شيئا.. ونظرا لقوة عائلة زوجها لم يشأ إخوتها الذكور تجاوز ذلك، رغم أتساع البستان وجودة تربته، فظل دون ولاية من أحد، نبتت به الأعشاب، وصار مرعى للقرية كلها.

"زاهية" صغيرة تفترش الصهوة دون سرج! وترمح الفرسان، تتحسس كل واحدة منهما الأخرى.

"ابنة عشر سنين، تسابق الفرسان.. وتسبقهم.. عيب!! ".

وفي الصيف نفسه، أو الذي يليه، اختلف الرواة في التاريخ ولكنهم اتفقوا على ما سمعوه، فقد تناقلت العجائز- أولا- نبأ مجلجلا عن "زاهية"! ثم سرى في هشيم القرية: كانت تنسحب من تحت النوم، وتنسل بين البساتين، كما يفعل جميع نساء القرى لقضاء حوائجهن مبكرا في مخابئ خاصة، يرتدنها مخافة المتلصصين.. "زاهية" ذهبت إلى النهر، تغوص في مياهه بثيابها، وتلهو بنافورة صغيرة، من صنعها.

تضحك.. تضحك "زاهية" ملء روحها، وملء النهر، وملء البساتين، وملء القرية كلها.. !! بعد سبع إشارات، ينكسر غصن ريان، وتدخل أحد بيوت الجيران عروسا. لم تخالف؛ أنجبت في العام الأول وفي الثاني والثالث، وفي الموسم الرابع يموت الزوج وهي حامل، كان ذلك في موسم حصاد ذهبي، نار "زاهية" ونار التعب والهجير.. تناوله السطل ليشرب، فيكرع الماء كله، ولا يطلع عليه الصبح فيذهب بشربة ماء...!!

مشوار العناء لم يبدأ من هنا فحسب، ولكنه سد مدارج الرحيل أيضا. وعندما طرق باب العمر عريس جديد، كان الصغار الأربعة حصنا على قمة قلب "زاهية".

أربعة، وخامسهم أمهم، أفواه فاغرة للطعام والشراب في دنيا عز فيها الهواء..!

وتدخل "زاهية" سباقات من أنواع أخرى: تسابق الشمس لتلحق بالذاهبين إلى الحقول في كل المواسم، وتسابق الغروب لتعود إلى فراخها، وتسابق الليل للهبوط في الفراش، وتسابق الضوء والنار والحطب والطعام والهواء. والريح لتسد منافذها وتدفأ مع صغارها.

إشارات كثيرة لا تعد، ووحدها "زاهية" تعرف كيف مرت.. يفر الأولاد إلى تضاريس جديدة اختاروا أمكنتهم فيها، ويظل الفؤاد المكلس وحيدا.. لا الأيام تمضي ولا العين تغمض ولا القلب يكف.. آه كم هي زاهية نهاراتك ولياليك يا "زاهية".

احتجبت في بيتها منذ عهد بعيد، قيل بسبب عجزها عن الحركة، إنه حكم الزمن.. ثم أضاعت ملامح الوجوه ونبرات الأصوات - حتى الغالية منها - قيل المرض، أمراض الشيخوخة تنسى المجوسي المجوس .. ثم كفت عن الكلام فقيل بسبب توقف لسانها عن الحركة.

عندما شاع نبأ موتها، اجتمع الأحبة، لم يحدث خلاف كبير على أي شيء ولا حزن كبير أيضا! غسلت وكفنت.. وها هو رتل المشيعين يتعرج كخط العمر في راحة الكف اليسرى، كرأس رمح معوج على شكل هلال يتجه إلى خارج الكف.

 

محمد عباس شعبان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات