..قصيدة قالها عمرو بن كلثوم! (شاعر العدد)

..قصيدة قالها عمرو بن كلثوم! (شاعر العدد)
        

          ألهى بني تغلب عن كل مكرمة.. قصيدة قالها عمرو بن كلثوم .. هذا بيت شعر قاله شاعر عربي قديم عندما بلغ به الضيق - من تلك القصيدة المعنية - أشده، فجعلها وسيلته لنقد الشاعر وقومه وربما قصيدته..وليس هناك دليل غير شعري على أن تلك القصيدة التي نظر إليها ذلك الشاعر بما يشبه الاستخفاف على أنها ألهت بني تغلب عن كل مكرمة، ولكنها، كما يبدو من سير الشعر وتواريخ الشعراء، كانت لهم حافزا أبديا على الإقبال على كل ما يمكن أن يجعلهم يستحقون ذلك المجد الأسطوري، الذي صورته تلك القصيدة الكلثومية بكثير من الانحياز.

          لم تكن القصيدة التي قالها عمرو بن كلثوم قصيدة عادية ولم يكن عمرو بن كلثوم شاعرا عاديا، ولكنهما معا كانا تلك العلاقة بين الشعر والشاعر، وبين القصيدة وقائلها. فقد صار الشاعر هو القصيدة وصارت القصيدة هي الشاعر، وعلى ضفاف تلك القصيدة لذلك الشاعر رسمت القبيلة تاريخ مجدها المدوي جيلا بعد جيل... حتى جاء الزمن الجديد فصارت عناصر الفخر القديم مجرد أدوات للسخرية من القول والقول. وسارع كثيرون، متجاهلين المناخ الزمني للقول، إلى الحكم على القائل بقسوة، متخذين من قصيدته الصادمة لمعايير العصر جسما للجريمة المزعومة. لكنهم أبدا لم يستطيعوا أن يغادروا شعرية الشاعر ولا موهبته الفذة، وأنا لهم ذلك. فبقيت السخرية من الموضوع وأدواته هي أقصى القسوة، لكن الإعجاب بالبلاغة والبيان في تلك المعلقة بقي دائما عنصرا مشتركا بين المعجبين القدامى والمحدثين معا.

          إنها إحدى معلقات العرب المعلقة على أستار الكعبة في ذلك الزمن الجاهلي البعيد، والتي لا يخلو منها كتاب للمعلقات في سبعتها أو تسعتها أو عشرتها لاحقا. وهو عمرو بن كلثوم بن عتاب التغلبي المولود في شمال الجزيرة العربية بتاريخ بقي مجهولا لمؤرخي الأدب وموثقي السيرة، لكننا نعرف على أية حال أنه توفي في أرض العراق شيخا طاعنا في السن العام 39 للهجرة(584م)، وقد عاش معظم حياته سيدا لقومه، عزيزا بينهم متنعما بإعجابهم الشعري ومستمتعا بثنائهم القبلي، ليس على  ما أورثهم من شعر أبرزه تلك المعلقة وحسب، بل على ما أورثه لهم من أمجاد أخرى خلدته المعلقة وأخواتها  ولو كره الكارهون.

          وللمعلقة قصة تستحق أن تروى للوقوف على معيار أخلاقي من معايير ذلك العصر والمناخ الإنساني الذي أنتجها أيضا مما يجعلنا لا نقرأ موضوعها إلا في سياقه الأخلاقي.  وعلى الرغم من اختلاف الرواة والروايات في التفاصيل فإن الخلاصة تبقى واحدة، وهي أن عمرو بن كلثوم سيد قبيلة تغلب كان في زيارة بصحبة والدته لملك الحيرة عمرو بن هند، الذي لا يقل عنه أنفة وزهوا بالنفس والمجد الرفيع، عندما أوجس ما يشبه الإهانة لوالدته التي كانت عنصرا من عناصر مجده العائلي التليد. فالأم هي ليلى بنت المهلهل التغلبي المعروف بالزير سالم وعمها سيد تغلب الذي أقامت حربا مدتها أربعين عاما ضد قبيلة بكر من أجل الأخذ بالثأر من قاتله، ولم يكن ليرضى عمرو بن كلثوم بتلك الإهانة أو حتى ببادرة خفية من بوادرها، فقام من لحظته وقتل مضيفه قبل أن يرحل, مدندنا ببقية أبيات المعلقة التي كان قد بدأها قبل تلك الحادثة, فاكتملت بعد أن تحققت لها بؤرتها الدرامية بذلك القتل المهيب. ويقال إن عمرو بن كلثوم لم يرض أن ينهي معلقته إلا بعد أن بلغت ألف بيت، لكن الزمن أهمل الكثير منها فلم يصل إلينا إلا عشرها. ولسنا مضطرين للموافقة على هذا القول ، فالمعلقة التي بقي أفراد قبيلة بني تغلب يحفظونها ويتدارسونها حتى أنها - كما قال منتقدوهم - ألهتم عن كل مكرمة، لا يمكن أن تتلاشى  حتى لا يبقى منها إلا مائة بيت هي التي بين أيدينا الآن. ولعل العكس هو الصحيح أي أن اهتمام معجبي هذه المعلقة بها هو ما جعل البعض المبالغ في إعجابه منهم يحاول أن يقنع نفسه ويقنع الآخرين أنها مجرد جزء صغير من قصيدة طويلة تعج بكل ما يبعث على الإعجاب، ليس لدى قوم الشاعر أو مريديه أو المعجبين بقصيده وحسب، بل أيضا لدى المناوئين له والمنتقدين لتجربته الشعرية والإنسانية والأخلاقية، ربما ردا على من انتقدها ولم ير فيها ما يستحق الإعجاب القبلي الجماعي المتوارث شعريا وأخلاقيا.

          ومعلقة عمرو بن كلثوم مرآة صافية لتاريخها، فهي تحتشد بمعاني الوعيد والتهديد والفخر والحكمة والغزل بعض تفاصيل الأحداث التي شهدها الشاعر برؤيته. فإضافة إلى حادثة قتله لعمرو بن هند هناك إشارات لحوادث أخرى ذكرتها كتب التاريخ الأدبي كشواهد على حكمة عمرو بن كلثوم التي تجلت في إصلاحه بين القبائل المتحاربة في بضعة حوادث. وليست هي كل ما ترك الشاعر من شعر على الرغم من أنه من المقلين، فله أيضا بضع قصائد متفرغة لا تخرج موضوعاتها في الأغلب الأعم عن موضوعات المعلقة التي صبغت هوية الشاعر بهويتها وصار الجميع يستمع إلى قصيده على أنغام قافيتها الممدودة على حد السيف.
-----------------------------
* شاعرة وكاتبة صحفية من الكويت

 

 

سعدية مفرح*