وعي الهزيمة

وعي الهزيمة
        

          قرأت في صحف الحادي عشر من يونيو 1967 بيان الرئيس عبد الناصر بالعدول عن التنحي، ألقاه، نيابة عنه، رئيس مجلس الأمة محمد أنور السادات وعرفت أن الرئيس قرر الاستجابة لرغبة الجماهير المصرية والعربية والبقاء رئيسا للجمهورية، وأنه أرسل بذلك إلى رئيس مجلس الأمة، مؤكدا أن صوت جماهير الشعب أمر لا يرد بالنسبة إليه، وأنه قرر أن يبقى في مكانه، وفي الموضع الذي يريد الشعب أن يبقى فيه وقد صفق مجلس الأمة لما استقر عليه الرئيس بعد رغبة جماهيرية عارمة، وصادقة بلا شك، وقرر المجلس أن يضع في يدي الرئيس كل السلطات التي تخوّل له التعبئة الكاملة والشاملة لكل قوى الشعب العامل، وإعادة البناء العسكري والسياسي بما يعزز قدرته على مواجهة كل التحديات.

          بناء على هذا القرار، أصبح عبد الناصر الحاكم المطلق الذي أعطاه الشعب كل السلطة ليعيد بناء ما أفسده من حوله، وما أفسده هو بثقته برجاله وبعدم استماعه إلى صوت القلة التي حملت على عاتقها مسئولية الإنذار والتحذير والحدس بالهول الذي ابتدأت كوابيسه في صباح الخامس من يونيو.

          الغريب أنني لم أتلق هذا كله بالفرح الذي توقعته من مشاعر، فقد قرأت صحيفة الأهرام في وجوم لم يفارقني بعد الانتهاء، فقد انكسر شيء في داخلي، ولم يعد قابلا لأي علاج، وكان هذا شعور الكثيرين من زملائي في الجامعة وخارجها فقد نفذت الهزيمة إلى قرارة القرار من وعينا الذي لم يعد يجد البرء فيما حوله، وبدا عبد الناصر نفسه في أعيننا أسدا جريحا يستحق الشفقة للتعاطف ولولا بقايا الحب القديم، والتعلق به منذ العام السادس والخمسين لما اهتممنا ببقائه ورحيله ولكن شيئا في داخلنا، كان لا يزال يأمل أن المسئول عن الكارثة سوف يخرجنا منها لكن كيف؟ وعلى أي أساس؟ وفي أي اتجاه؟ اتجاه الحرية والاشتراكية التي أعاد مجلس الأمة بيعته له على أساسهما؟ لم نكن نعرف شيئا سوى أننا خاوون، فارغون، محبطون، نعاني من عالم كابوسي، يتحول إلى مدار مغلق، يضيق علينا وبنا وحولنا.

نفق طويل وضوء خافت

          حقا، بدأ بصيص من ضوء يخترق الجدار مع مؤتمر القمة الرابع في الخرطوم الذي انعقد في التاسع عشر من أغسطس في العام المشئوم وذهب الأسد الجريح، عبد الناصر، متوقعا أن تنهشه أنياب الغاضبين عليه، لكنه استقبل بالحفاوة التي خففت من ألم جراحه، وأعلن المؤتمر لاءاته الثلاث لا للاعتراف بإسرائيل، لا للتفاوض معها، لا للصلح. وأضاف إلى ذلك تأكيد وحدة الصف العربي، والالتزام بميثاق التضامن العربي، والعمل على انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية، والإسراع بتصفية القواعد الأجنبية في البلاد العربية.

          حملت هذه القرارات بعض ما يخفف نيران الحزن والغضب في نفوسنا، لكن أعماقنا التي سكنها كابوس الهزيمة لم تكن تستجيب إلى أي مسكن يخفف الألم. أما الغضب فقد ظل باقيا، نابعا من داخل أعماق الأنفس التي لم تستطع الانصياع لأي مسكن يعرض لها، أو يحاول التخفيف عنها وجاء خطاب عبد الناصر في افتتاح دورة الانعقاد الخامس لمجلس الأمة في الثالث والعشرين من نوفمبر ليؤكد أننا عبرنا مرحلة قاسية بالغة القسوة، وخرجنا إلى مجال أوسع نستطيع فيه أن نستعيد قدرتنا على الحركة، وأننا نملك إمكانات المقاومة المادية لكن عبد الناصر ما كان يمكن أن يتجاهل مشاعرنا، وقد شعرنا بذلك، عندما تحدث عن التمزق النفسي الذي كان الشباب يعانيه على وجه الخصوص، وهو يرى وصول القوات الإسرائيلية إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، وكان واعيا أن هذا التمزق سوف يبقى زمنا، في نفوس الجميع، إلى أن تشعر هذه النفوس أن القيادة عادت إلى الطريق المؤدي إلى النصر، عازمة على الثأر، ومقاومة توابع الهزيمة التي زلزلت الجميع بلا استثناء، ولا أذكر أن نار الغضب قد بدأت تعرف طريقها إلى نفوسنا الممزقة إلا مع الحادي والعشرين من شهر أكتوبر عندما سمعنا عن تدمير السفينة الحربية إيلات، وقرأنا أخبار معركة الزوارق الحربية التي نجحت في اقتناصها وتدميرها. وقد ذكّرتنا بطولة شباب ضباط البحرية من قادة الزوارق الحربية بمعارك 1956 التي استشهد فيها شقيقنا السوري جول جمال الذي التحق بالكلية البحرية، وتخرج فيها، وتسلم شهادة التخرج من عبد الناصر نفسه وكان من الطبيعي أن يلتحق بالبحرية المصرية، مدفوعا بشعوره القومي، ويستشهد في الرابع من نوفمبر سنة 1956، في أثناء العدوان الثلاثي، وذلك بعد أن تطوع بقيادة عملية لزوارق الطوربيد المصرية، واستطاع تدمير المدمرة الفرنسية ان بار وإغراقها قبل استشهاده وقد رُدَّت إلينا الروح هونا في تدمير إيلات، وأخذنا ندرك فيها علامة من علامات المقاومة التي ستنبثق منها حرب الاستنزاف.

          وكان من الطبيعي أن يعي نظام عبد الناصر ما تنطوي عليه نفوس الشباب من غضب عارم، فمنح مجالا أوسع لحرية الكتابة، كي تخرج النفوس المتمردة بعض لهيبها فبدأنا نقرأ كتابات غاضبة، ما كان يمكن نشرها من قبل، خصوصا كتابة الشيوعيين الذين غيبتهم السجون الناصرية في السنوات من 1959 إلى 1964، وما كادوا يرتبون حياتهم، ويتصالحون مع الناصرية، حتى جاءت الهزيمة لتضيف ما هو أكثر وأوجع من المرارة المتبقية من سنوات الاعتقال وأعتقد أن أعوام ما بعد هزيمة 1967 هي التي اكتمل فيها نضج جيل الستينيات، فأخذنا نسمع عن جيل بلا أساتذة، كافر بكل الكبار الذين تسببوا في الهزيمة الكبرى على نحو مباشر أو غير مباشر.

بين الغيطاني ودنقل

          وبدأت أقرأ عن جمال الغيطاني الذي أقام الدنيا ولم يقعدها عندما كتب عن معتقل المقشرة، مستهلا سبيله الإبداعي إلى الرمزية التاريخية التي ردّت الهزيمة إلى عسس الدولة وزبانية سجونها وقد كانت «نهاية الورى فيما جرى في المقشرة» مع «تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم علامتين فارقتين على تحول جذري، حدث في الكتابة الروائية والسردية، وذلك بالقدر الذي كانت قصائد أمل دنقل إدانة لديكتاتورية عبدالناصر ولقيادات الجيش بوجه خاص. وكما كتب أمل قناعه القديم عن سبارتاكوس بمناسبة انتخابات رئيس الجمهورية في مطلع الستينيات، ضمن تيار الرفض لتسلطية الدولة العسكرية، كتب ما بعد الهزيمة رائعته «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، بعد الهزيمة بأيام (تحديدا في 13/6/1967) وبعدها كتب «السويس» و«من مذكرات المتنبي في مصر».

          وقد فتنني ديوان «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» بعد أن قرأت قصائده قبل جمعها في ديوان، أصدرت «دار العودة» اللبنانية طبعته الأولى سنة 1969، وأصبحت وأمل صديقين منذ هذه السنة، وربطت بيننا علاقة أخوّة نادرة إلى أن توفاه الله في الغرفة رقم (8) بالمعهد القومي للأورام في الحادي والعشرين من مايو 1983 عن ثلاثة وأربعين عاما، فحملناه نحن المقربين إليه إلى قرية القلعة، حيث دفناه في قبر أبيه، حسب وصيته لي - رحمه الله - فقد افتقدت بموته معاني كثيرة، جميلة وجليلة، وشهدت معه توالد قصائده الغاضبة بعد ديوانه الأول الذي جعل منه رمزا للغضب القومي، وبعد قصيدته «لا تصالح» التي جعلت منه رمزا للرفض القومي. والحق أنه من لهيب الغضب على ما حدث سنة 1967 تولدت أعمال إبداعية بالغة الكثرة، على امتداد الوطن العربي، كانت بمنزلة رفض للهزيمة وتمرّد على الذين تسببوا فيها وإدانة كاملة شاملة للعالم الذي صنعوه والذي وضعه وعي النكسة المتمرد موضع المساءلة الجارحة التي تغوص إلى قرارة القرار من أعماق الجرح، كي يبرأ الوعي ويسترد عافيته، وينتبه إلى ما لم ينتبه إليه من قبل، في المدى الطويل والمتراكم للأخطاء.

          هكذا، انتبهنا إلى الديكتاتورية العسكرية التي أعدمت العاملين خميس والبكرى اللذين دعما إضرابا نظمه عمال مصنع كفر الدوار للنسيج، طلبا لتحسين أوضاعهم، فحكمت عليهم محكمة عسكرية بالإعدام الذي تم التصديق عليه وتنفيذه باسم الثورة التي زعمت أنها صوت المظلومين من العمال والفلاحين سنة 1952، وتذكرنا محكمة الثورة التي حاكمت رجال العهد البائد، وخلطت بين الأبرياء والمذنبين، وكذلك ما حدث سنة 1954 عندما قام مجلس قيادة الثورة بالتصديق على فصل أكثر من خمسين أستاذا من الجامعات المصرية لأنهم عارضوا الديكتاتورية العسكرية، وطالبوا بجمهورية ديموقراطية. وكان من هؤلاء محمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، ولويس عوض، وعبد المنعم الشرقاوي، وفوزي منصور وعشرات غيرهم، ولم ندهش عندما سمعنا أن عبد الناصر نفسه تحدث عن الانحرافات في جهاز المخابرات، حين قال في افتتاح دورة الانعقاد الخامس لمجلس الأمة، إنه كان يرى بعض مظاهر الانحرافات قبل يونيو، لكنه لم يكن يتصور مداها، وحاول مواجهتها بكل ما يستطيع، ونجح أحيانا، ولم ير الحقيقة كلها في أحيان أخرى. وكنا نقول لأنفسنا هذا الكلام يدعو إلى التعاطف، لكنه لا يعفي قائله من المسئولية، فلو منح الرئيس الحرية للناس لعرف ما لم يكن يعرف، وتجنبنا الوقوع في الكارثة، والحق أن مشاعري إزاء عبدالناصر أخذت في الارتباك بعد هزيمة 1967، فصرت أحبه، موضوعيا لما حققه من إنجازات لم يحققها سواه، ولأنه عمل المستحيل، بالرغم من مرارة النكسة وحقق في أشهر ما لا يمكن إنجازه إلا في سنوات عسكريا واقتصاديا وسياسيا. ويكفيني أنه ظل يردد أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وشخصيا لأنه لولاه ما دخلت الجامعة، ولا تعلمت وتفوقت، وتعينت معيدا فيها.

حتمية التغيير

          ولذلك كان من الطبيعي أن أنفجر مع الطلاب، احتجاجا على النتيجة الهزيلة التي انتهت إليها محاكمة قادة الطيران المصري الذي دمرته إسرائيل على الأرض، وقد تقبل عبد الناصر المظاهرات التي حدثت في 1968 بصدر رحب، وحاور القيادات الطلابية، وأقنعها بأنه يؤمن مثلها بحتمية التغيير وضرورة استمراره إلى الأمام وبدأ التغيير بإعادة تشكيل مجلس الوزراء، معلنا عن تغييرات أخرى في قيادات الإنتاج، وفي السلك الدبلوماسي وفي المحافظين ورؤساء المدن واعترف عبد الناصر في «بيان 30 مارس 1968» بأن الكثيرين من الذين كانوا يشغلون المناصب القيادية والوزارية لم يكونوا على مستوى المسئولية سياسيا وتنفيذيا، وأنه من الضروري إفساح المجال للأقدر والأجدر. ويمضي بيان 30 مارس في تأكيد عدد من النقاط التي استمعنا إليها باهتمام، وقرأناها بعناية، وناقشناها طويلا بجدية ومن هذه النقاط.

          1 - أنه من الضروري والحيوي حشد كل القوى الشعبية، وبوسيلة الديمقراطية وعلى أساسها، وراء أهداف نضالنا البعيدة والقريبة.

          2 - إن صيغة الاتحاد الاشتراكي هي أكثر الصيغ ملاءمة لحشد القوى الشعبية بوسيلة الديمقراطية وعلى أساسها.

          وأذكر أن تكرار صيغة «الديمقراطية وعلى أساسها» جذب انتباهنا وفرحنا به، نحن الذين كنا نحلم بإتمام بناء المجتمع الاشتراكي الذي لم يكتمل تحقيقه بعد، وما أكثر ما تعاركنا حول بيان «30 مارس» مع إيماننا بشعارات الحرية والاشتراكية والوحدة، وكنا نقول لأنفسنا، بعد أن نزعنا ثوب القداسة عن عبد الناصر، وأخذنا نراه زعيما عظيما من زعماء التحرر الوطني والعداء للاستعمار ومقاومة التبعية، لكنه بالرغم من ذلك أصبح كائنا بشريا، قادرا على الخطأ الجسيم، كما فعل، ولم يعد الإمام المنتظر ولا المخلص المنزه عن الخطأ، وكانت النتيجة أننا لم نكن نكف عن التساؤل كيف يمكن بناء مجتمع الاشتراكية دون اشتراكيين حقيقيين، وبأعداء الاشتراكية أحيانا؟ ولماذا نقدّم أهل الثقة على أهل الخبرة؟ صحيح أن قيادات اليسار المصرية وطلائعه قد تركت المعتقلات القاهرية الرهيبة التي هي وصمة عار في جبين أي نظام سياسي مهما كان، وتولى قادة اليسار عددا من الوزارات وقيادة بعض المؤسسات المهمة، وتبوأوا مقاعدهم في التنظيم الطليعي، وعملوا على دفع عجلة التحول الاشتراكي إلى الأمام، لكننا لم نكف عن السؤال هل نمضي في طريق التحول الاشتراكي؟ أم رأسمالية الدولة؟ ولماذا التمسح بالدين والحديث عن اشتراكية الإسلام؟ وهل ما نحن فيه اشتراكية حقة أم اشتراكية عربية؟ أم تطبيق عربي للاشتراكية؟

حوار مع الرئيس

          وكان عبد الناصر يحاول أن يجيب عن بعض هذه الأسئلة في خطبه، وفي الحوارات التي كان يحرص على القيام بها، لكنه ظل جاهلا بالكثير من الفساد الموجود في القطاع العام، ونموذج «سرحان البحيري» الاشتراكي الانتهازي التي صاغها نجيب محفوظ، باقتدار، في روايته «ميرامار» وهي الرواية التي رصدت نماذج بقايا الإقطاع الذي ظل موجودا ومتجددا، كما ظهر في أحداث «كمشيش» التي كتب عنها أمل دنقل قصيدة «أشياء تحدث في الليل»، ولاتزال تجربة ذهابي إلى منظمة الشباب الاشتراكي ماثلة في ذاكرتي، وكيف أنني لم أقنع المسئولين عن تقييمي لأني كثير الأسئلة، نزاع إلى الشك، كما لو كانت كثرة الأسئلة والحرص على التيقن سمة سلبية في الإنسان، وزاد الطين بلة أن أخبار اعتقال من نعرفهم لم تنقطع. أما الديمقراطية فقد ظلت شعارا وحلما بعيدا، يتكرر معها كيف يمكن أن نتحدث عن الديمقراطية وليس لدينا سوى حزب واحد أحد؟ وكيف يجمع هذا الحزب كل قوى الشعب دون إلغاء التنوع والاختلاف في سبيل الوحدة؟ صحيح أن المدخل الاقتصادي أساس للديمقراطية، لكن ألا تكون الحرية، أحيانا، أثمن من رغيف الخبز؟ أذكر أن عبد الناصر تحدث إلى أعضاء مجلس الشعب مرة، لعلها في جلسة افتتاح دورة الانعقاد الخامس في أواخر عام الكارثة، عن إمكان وجود أكثر من حزب، أو تعددية حزبية، ولكن الواقع كان يؤكد غير ذلك، ولم يكن هناك من معارضة حقيقية سوى صوت الإبداع الأدبي الذي لجأ إلى الرموز والكنايات والأمثولات لينطق المسكوت عنه من الخطاب السياسي والاجتماعي المقموع.

          وسوف يسجل التاريخ الأدبي بأحرف بارزة الدور الذي قام به جيل الستينيات في الدفاع عن الحرية بكل أشكالها، فقد كانت النسمة العفية التي أثارها أدب جمال الغيطاني ويوسف القعيد ومحمد البساطي وجميل عطية إبراهيم وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان ومحمد روميش ومجيد طوبيا ويحيي الطاهر عبدالله، وغيرهم من الذين أفلتتهم الذاكرة، هي قوة التجدد الحيوي إلى أن انتقلت إلى كتابات يوسف إدريس الذي كتب «العملية الكبرى» وغيرها من القصص الرمزية التي تهاجم ديكتاتورية عبد الناصر، ابتداء من مسئوليته عن الكارثة في «العملية الكبرى» وانتهاء بقبوله مبادرة روجرز في «أكان لابد أن تضيئي النور يا لي لي» الطريف أنني عندما أتذكر، الآن، كتابات الستينيات، أجد أنها هي التي غرست في وعيي الأدبي فكرة أننا قد انتقلنا إلى زمن الرواية، فقد كانت الرواية والقصة القصيرة هما الفنين السرديين الغالبين على شباب الستينيات الذين انتميت إليهم بشكل أو بآخر. صحيح أنه كان هناك فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة صاحب «غزاة مدينتنا» ومحمد عفيفي مطر، لكن كان أمل دنقل أكثرهم توهجا في قصيدة الرفض السياسي والعداء للديكتاتورية بوجه عام والدولة التسلطية بوجه خاص، ولذلك يمكن أن أقول - مطمئنا - إن سنوات ما بعد النكسة هي السنوات التي وصل توهج أمل دنقل فيها، في قصيدة الرفض, إلى ذروته. فهي السنوات التي حمله غضبها إلى الأعناق، ذلك على الرغم من استمرار صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وغيرهما من الشعراء العرب الذين ينتسب حجازي وصلاح إلى جيلهم، والحق أن صوت أمل دنقل الشعري كان هو الصوت الأعلى والأكثر موهبة، ولكنه كان الصوت الشعري الوحيد البارز بين كوكبة عديدة من منتجي السرد، وأعني السرد الذي يتراوح بين طرفي متصل واحد، يصل إلى درجة بالغة من الكثافة في القصة القصيرة، أو إلى درجة من الامتداد الزماني والانفساح المكاني في الرواية.

جيل التمرّد

          وأعتقد أن جيل الستينيات الذي تم تعميده بدأ التمرد على الدولة التسلطية الناصرية، بالرغم من إيمان أغلبه بشعارات الحرية والعدل الاجتماعي ووحدة القوى التقدمية هو الذي كان طاقة للأجيال السابقة، ابتداء من يوسف إدريس صاحب «العملية الكبرى» مرورا بنجيب محفوظ الذي كتب عن التعذيب في «الكرنك» وعبد الرحمن الشرقاوي الذي كتب «الفتى مهران» قبل «وطني عكا» وصلاح عبد الصبور الذي كتب «مسافر ليل» و«مأساة الحلاج» مسرحيته الأولى التي أعقبتها «الأميرة تنتظر» و«ليلى والمجنون» ولم يتوقف إلا مع مسرحية «بعد أن يموت الملك» بعد وفاة عبد الناصر، وتتبلور مسرحياته حول تيمة أساسية هي الحرية التي يطلبها المثقف بوصفها حقه الطبيعي الذي يدفع ثمنه غاليا على أيدي مغتصبي هذه الحرية. وكم كنت أحب مونولوج الحلاج الذي لا أزال أحفظه:

«أنا رجل من غمار الموالي
فقير الأرومة والمنبت
فلا حسبي ينتمي للسماء
ولا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون
بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيرا بذات مساء
سعى إلى حضن فقيره
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
سعيت وراء العلوم سنين
ككلب يشم روائح صيد
فيتبعها ثم ينهال عليها»

          ولا أزال أترنم بهذه الأبيات بيني ونفسي، وأتحد وجدانيا مع الحلاج فيها، فأنا مثله رجل من غمار الموالي، وما أكثر ما قرأت في هذه الفترة التي أعقبت عملي في الجامعة، كأني كنت أريد تعويض ما فاتني في سنوات رهبنة المذاكرة من أجل التفوق، أما وقد تحقق حلمي وأصبحت معيدا بفضل عبد الناصر، فقد بدأت أقرأ كل شيء، وأحاول معرفة كل شيء وقد أكسبتني مرارة هزيمة 1967 رغبة عارمة في وضع كل شيء موضع المساءلة، ابتداء من عبد الناصر الذي كنت أرى فيه زعيمنا المنتظر، وانتهاء بالحس الديني العميق الذي لا أزال منطويا عليه.

 

 

جابر عصفور