500 عام على الخروج من الأندلس: اكتشاف أمريكا الطاهر أحمد مكي

ملف خاص
في نفس العام الذي سقط فيه آخر معاقل العرب في الأندلس، تم اكتشاف قارة جديدة. اكتشفها الغزاة، وعانوا فيها نفس درجة الفساد. وكان عام 1492 عاما فاصلا في تاريخ البشرية ، تغير فيه وجه العالم كما لم يحدث من قبل. غربت فيه حضارة قامت على التسامح والسلام. وبدأ فيه عصر جديد لحضارة قاسية لا تعرف الرحمة.

خمسة قرون على..
الخروج من الأندلس

ثمة قاعدة انتهى إليها علماء التاريخ: إن الإسلام إذا بلغ أرضا استقر فيها إلى الأبد، وكانت إسبانيا وصقلية الاستثناء الوحيد في هذه القاعدة! فكيف كانت بداية الفتح.. وكيف انتهى أفول الخروج؟

الحق أن إزاحة الإسلام عن إسبانيا بعد عمر طويل وحضارة زاهرة، ظاهرة تستأهل الدرس العميق، والغوص وراء أسبابها الخفية والظاهرة، لأن لأسباب إذا تشابهت- مهما تكررت- تؤدي إلى نتائج متقاربة، وإذن فنحن مهددون بأكثر من أندلس أخرى إذا لم نكن في يقظة حذرة مما حولنا، أو يدبر لنا.

وقبل أن آتي إلى بعض هذه الأسباب- ولا أزعم أنني سأتناولها كلها أو أقدر وحدي على استقصائها جميعها في هذه العجالة- أود أن أصحح لبسا تقع فيه الكثرة الغالبة من المثقفين، وهو أن إسبانيا كانت بلدا مستقلا، جاء العرب فاحتلوه زمنا، ثم تجمع الإسبان فحرروه منهم، وهي مقولة مغلوطة من أولها إلى آخرها.

لم تجئ حركة الفتح الأولى عفوا، ولا كانت مجرد مغامرة، بل جاءت وليدة تخطيط محكم، ودراسة واعية، وإدراك جيد بما كان يجري على أرض إسبانيا نفسها، وكان عبور طارق بن زياد، بعد عبورين سبقاه، وحملة استطلاع تبينت الواقع، ومعلومات تؤكد أن الدولة القوطية تتفكك، والصراع بين أمرائها على أشده، وهم ليسوا بأقرب إلى السكان من البربر المسلمين، فقد جاءوها من الشمال جموعا وثنية همجية، ثم استقروا فيها حاكمين، ومن ثم فإن قطاعا عريضا من المجتمع الإسباني كان يغذي عملية العبور هذه، والبقية الأخرى لم يكن الأمر كله يعنيها في شيء على الإطلاق، قلة فحسب كانت خائفة ومذعورة: الإقطاعيون وملاك العبيد. وكان هؤلاء، مع رقيق الأرض، يمثلون الأغلبية الساحقة من الشعب، ويئنون تحت ضغوط شخصية ونفسية ومادية هائلة، ويتمنون الخلاص على يد أي مخلوق.

كان هناك صراع قوي بين الأجناس والطبقات والأديان، فلم تكن إسبانيا مسيحية كلها في ذاك الوقت، بل كان فيها إلى جانب الكاثوليك طوائف أخرى، من الوثنيين والأريوسيين واليهود، في فترة أبعد ما تكون عن التسامح الديني أو التعايش بين الطوائف.

ولم تكن الدولة على وفاق مع المجتمع، وتفتقد القاعدة الاجتماعية التي تقوم عليها.

وحتى رجال الدين الكاثوليك كانوا يطمحون إلى تغيير النظام القائم، ولم يرعبهم في شيء أن يعيشوا في ظل الإسلام.

كان لا بد إذن من قارعة، من الداخل أو الخارج، تذهب بهذا النظام الذي ينتمي إلى العصر القديم، تتمثل في جنس جديد، أو موجة جديدة من الشمال أو الجنوب، تذهب بهؤلاء القائمين في طليطلة من القوط. وكان محالا أن تجيء من الداخل، لأن المجتمع عاجز عن خلق أي شيء، تعوزه الحيوية والحماسة، مريض بلا علاج، وما كان ممكنا أن تجيء من الشمال، لأن فرنسا كانت تعاني من المشكلات نفسها تقريبا، فكان الإسلام هو القارعة!.

ويمكن القول إذن، (والقول لمؤرخ إسباني)، إن المسلمين عبروا المضيق في مهمة قدرية للقضاء بعنف على نظام قائم لا توجد قوة غيره قادرة على أن تأتي عليه في ضربة قاضية، وأن تشغل مكانه.

ومن المؤكد أن تخطيطا على مستوى عال تم في مدينة سبتة بين أبناء الملك الذي أزيح عن العرش وحاكم المدينة، وكان صديقا لهم، وبين موسى بن نصير القائد العام، وطارق بن زياد قائد الحملة، وفيه تم تحييد جانب كبير من النبلاء والقواد حتى لايقاوموا، وآخرون أخذوا جانب المسلمين صراحة، وتعكس الخطة معرفة واعية بطبيعة الأرض التي سوف يجري القتال فوقها، فبعد اثني عشر قرنا من الفتح الإسلامي سلكت قوات الجنرال فرانكو- حين ثار على النظام الجمهوري عام 1936 وكان في المغرب- في طريقها إلى إسبانيا، الطريق نفسه الذي سلكه موسى بن نصير: الجزيرة الخضراء، فإشبيلية، فماردة، فطليطلة.

الجميع مواطنون سواء

كان البربر أول من دخل الأندلس، فقد كان جيش طارق بربريا كله، واحتملوا صدمة الفتح الأولى، واتصلت هجرتهم إليه لقرب بلادهم منه، وتشابه مناخ أوطانهم به، وكثرة القلاقل عندهم. وبعدهم جاء العرب، يمنيين، أو مضريين، مع موسى بن نصير أولا، ومع بلج بن بشر القيسي فيما بعد، وفي أفواج قليلة مع عبد الرحمن الداخل أخيرا، وبقيت الأغلبية الساحقة من السكان من أهل البلاد الأصليين، ايبيريين أو سلتيين أو قوطا أو أفارقة أو فينيقيين، إلى جانب قلة من اليهود قدمت إلى إسبانيا قبل المسلمين بزمن طويل. وقد أسلمت الأغلبية العظمى من أهل البلاد، واحتفظت قلة محدودة بعقيدتها الكاثوليكية، ولكنها تعربت فيما عداها، لغة وعادات وحياة وسلوكا، ولذلك عرفوا باسم المستعربين وكان المسلمون الذين من أصل إسباني أشد الجميع تحمسا للدين الجديد.

بعد أقل من نصف قرن من الزمان، مع قدوم عبد الرحمن بن معاوية، وتوليه الإمارة، استقل الأندلس، وأصبح دولة لا سلطان لأحد عليها غير أبنائها. نعم كان الأمير عربيا قرشيا جاء من المشرق، لكن ألم يكن لذريق ملكها قبيل الفتح قوطيا جاء من شمال أوربا؟.

في ظل الأمن والاستقرار والتعايش والرخاء، سوف تتأصل الحضارة الإسلامية وتزدهر، وتعطي خير ثمارها، وسوف تصبح قرطبة العاصمة من كبريات مدن العالم، ويضرب بها المثل فى العلم والرفاهية والرقي، وتبلغ شهرتها الخافقين.

بداية الوهن

مع أول القرن الثامن الميلادي جاء العرب إلى الأندلس، ومع نهاية القرن العاشر أصبح بهم دولة مرهوبة الجانب، مركزية السلطة، يسودها الأمن، وتفيض بالخير: الحقول خضراء زاهية، والبيوت أنيقة مريحة، والحمامات كثيرة ونظيفة، وأنظمة الري دقيقة ومحكمة، والأقوات موفورة بأرخص الأسعار، ويتحرك الناس في صحة بادية وملابس نظيفة، وانكمش الفقر أو تلاشى.

وقد صنع هذا المجد عربيان عظيمان، كان الأول خليفة، وهو عبد الرحمن الناصر، وكان الثاني حاجبا أو رئيسا للوزراء فى لغتنا المعاصرة، وهو المنصور بن أبي عامر، وكما تكون إنجازات العباقرة عظيمة تجيء أخطاؤهم من المستوى نفسه.

كان الخطأ الذي وقع فيه الاثنان- والتبعة على الأول- أكثر، لأنه الذي بدأ، والثاني سار على طريقه- أنهما لكي ينفردا بالأمر، ويتمكنا من السلطة، أتيا على النفوذ العربي تماما، استغنيا عن أبناء البيوتات، وأذلا كبار الرجال فيها، واستعاضا عنهم بولا الرقيق من الصقالبة، والنازحين من الأفارقة، وأولئك ولاؤهم مأجور، وهؤلاء إحساسهم بالوطن واهن، ولم يكن للقاعدة العريضة من الجماهير دور طليعي، بل مجرد مادة مهيأة للثورة، حين يبلغ السوء مبلغه، وتنحدر الحال إلى قدر لا يحتمل، ويجيء الزعيم المنتظر ليقودها، في الحال تلبي نداءه، وتصطف وراءه، وتمضي معه بلا تردد إلى نهاية الطريق، دون أن تعرف بدءا ماذا يريد.

حين توفي المنصور بن أبى عامر خلفه ابنه من بعده، وكان دون أبيه قدرة وموهبة، ولم يبق غير سنوات ثم لحق به، وكانت هذه السنوات القليلة كافية لكي يتجمع كل أولئك الذين يريدون أن ينقضوا على السلطة، يريدونها لهم، أو لأناس يرضون عنهم، وتحول الأمر إلى فوضى، وكل الذين في الأندلس بدأوا يتقاتلون لغير سبب، أو لسبب مفرط في الأنانية، يهجمون ويرتدون، وخلال التقدم والانسحاب يدمرون وينهبون، حتى عاد كل شيء أسود قاتما في العين وفي الأمل، وخرائب وأنقاضا في الواقع وفي الحياة، وماتت الضمائر في النفوس، وانحلت عقدة الولاء للجماعة، واستبيحت كل الحرمات، وانقض كل خوّان على جانب من الدولة، وأعلن نفسه أميرا، ووسط هذه المصائب برزت طائفتان- إن كان مثل هذا يعد تميزا- جماعة من الفقهاء، وللحق والتاريخ ليسوا كلهم، يقدمون لكل حدث فتوى ولكل جريمة مبررا، وفي خدمة الأقوى دائما، وطوائف من الشعراء، وكانوا صحفيي ذلك الأمس البعيد، يتغنون بمن يدفع أكثر، ولمن يقدم لهم رفاهية أعظم، وتحول الفن الجميل والنبيل على أيديهم إلى سلعة تباع وتشترى، وغرقوا في الأنانية فأخذوا يدورون حول أنفسهم غزلا وخمرا ومديحا، وفي جو كهذا أمسك الخيّرون بأنفسهم، وتواروا خجلا، أو هاجروا إلى أرض بعيدة، أو دفعوا الثمن معاناة وسجنا وقتلا.

واهتزت السلطة المركزية، وتهاوت الخلافة وسطا على أمجادها جماعة من السفهاء، وقام على أنقاضها قرابة ثلاثين من الأمراء، يتقاتلون طمعا، ويتدافعون حول أشبار، ويعلنون الحرب من أجل أمتار، ويدفعون كلهم الجزية للعدو المسيحي الرابض على الحدود في الشمال وهم صغار، ولم يكن بأقوى منهم لو اتحدوا.

وقد ورثوا في كل مكان ذهبوا إليه أمجاد الأمس الباذخة، ولم يضيفوا إليها جديدا، ومضوا يبعثرونها بلا حساب، شأن السفيه حين يتلقى ثروة لم يبذل فيها جهدا، ولا كلفته مشقة، وتحول الأندلس على امتداده العريض إلى مجتمع مستهلك، ينفق في بذخ دون أن ينتج شيئا، أو شيئا قليلا لا أهمية له.

الاستعانة بالأعداء

طوال أيام "الفتنة"، وعلى امتداد عصر الطوائف، كانت الاستعانة بالأعداء من نصارى الشمال شيئا مألوفا، وكان هؤلاء يقاتلون إلى جانب كل المتصارعين، ويذكون بينهم روح العداوة والبغضاء، فهم هنا أو هناك إنما يقتلون أعداءهم على المدى البعيد، ويقبضون ثمن ذلك ذهبا وفضة نقدا، وسلاحا وملابس ومواشي وأغذية وخيلا وبغالا تساق إليهم عينا، وقبل ذلك كله حصونا وقلاعا يتنازل عنها الأمراء المسلمون لصالحهم، فيحتلونها بلا قتال، ويستولون على ما حولها من أراض دون أن يرسلوا سهما أو يخسروا جنديا واحدا.

في بداية عصر الفتنة كان في قرطبة العاصمة أكثر من فرد يتنازعون على الخلافة، ووراء كل واحد جموع جائعة، وأجانب مفسدون، وغوغاء مخربون، يلتفون حوله، و يغذون أطماعه. وبينما واضح الصقلبي يتولى الحجابة بعد مصرع الخليفة المهدي في ظل الخليفة هشام المؤيد، وكان محاصرا وضعيفا، ويطمح أن يصبح ما كانه المنصور بن أبي عامر من قبل، كان سليمان المستعين- مطالب آخر بالخلافة- يطلب عون ملك قشتالة، ويعده بأن يتنازل له عن عدد من القلاع والحصون تقع على الحدود بين الدولتين، واستولى عليها المنصور من قبل تأمينا لحدود الدولة، فوجد الكونت القشتالي الفرصة مواتية لتوسيع رقعة مملكته دون حاجة إلى القيام بحملة حربية ضد الأندلس، فأرسل إلى واضح يعلمه بعرض سليمان المستعين، ويطلب إليه أن يتنازل له عن هذه الحصون والقلاع لأنها في قبضته، وإلا فسوف يساعد المستعين وأنصاره البربر.

لم يجرؤ واضح على اتخاذ القرار وحده، فدعا قاضي الجماعة والفقهاء والعدول، وأبلغهم رسالة شانجة كونت قشتالة، وطلب منهم الرأي، فأخرس الخوف من البربر والقشتاليين الإحساس بالشرف القومي في أعماق هؤلاء السادة، وكان رأيهم أن يستجيب لمطالب النصراني.

وفي شهر سبتمبر من عام 1010م، وقع واضح معاهدة مع شانجة تنازل له فيها عن أكثر من مائتي حصن وقلعة، واتخذ بقية الأعداء من نصارى الشمال من الحادث مثلا يحتذى، وأصبحوا بشيء من التهديد والصخب يستطيعون أن يأخذوا ما يريدون من حصون وقواعد، ولم يجرؤ أحد على أن يرفض لهم طلبا، وكان على القرطبيين، وقد وقعوا في قبضة حكام ضعاف مستبدين، أن يحنوا رءوسهم أمام أعداء دينهم، وأن يعانوا من نزوات حكامهم، وأن يتعرضوا للنهب والمظالم، وأن يتحملوا كل النتائج التي تعرض للشعوب حين تذهب للثورة، وتلقي بنفسها في أتون الفتن، دون أن يكون على رأسها قائد عظيم محنك، ووراءها هدف واضح محدد، ودون أن تدفعها أفكار سامية عظيمة.

وعلى أنقاض الخلافة قام عصر الطوائف وبلغ الغاية في الشر والخير على السواء، ومع التفرقة ضاعت القوة الواحدة الموجهة للسياسة الأندلسية العامة، واختفى المثل الأندلسي الأعلى، وظهر اليهود على المسرح السياسي، ومكنوا لأنفسهم في إمارة غرناطة زمنا، وتغيرت الأمور حول الأندلس تغيرا حاسما، فقد استيقظت إسبانيا النصرانية ومدت يدها إلى أوربا، ونظم أهل المغرب أمورهم وأقاموا دولة المرابطين القوية، وبين النصارى في الشمال والمغاربة في الجنوب، وقف ملوك الطوائف، وقد وهن أمرهم، وأضعفهم الترف والبذخ، لا يكاد سلطان أحد منهم يتخطى حدود مدينته، وسادت العصر كله روح من البذخ المسرف، والإجرام السافر الذي لا يتورع عن شيء من المطامع والغزوات إلى الخناجر والسموم.

وبين صخب الحياة اللاهية، وعربدة اللحظات الماجنة، وغيبة الوعي بالغد والمصير، استيقظ الأندلس كله على كبرى القوارع.

سقوط طليطلة

وقدر لها أن تكون أولى المدن الكبرى الذاهبة، ورغم أنها لم تسقط في حرب، ولم يخسرها المسلمون في قتال، بل ذهبت نتيجة خدعة ماكرة من ألفونسو السادس، واستسلام مهين من القادر يحيى بن ذي النون أمير المدينة، كانت الضربة القاصمة التي شالت بعدها كفة المسلمين ورجح جانب الكاثوليك، وكانت محنة حقيقية لما تمثله طليطلة من ثقل في حياة الأندلس السياسية والحربية والشعورية، فقد كانت عاصمة إسبانيا على أيام القوط، وأحيط فتحها على يد طارق ابن زياد بأساطير جميلة، ذات خيال ممتع، عما لقي فيها من كنوز وثروات وسلاح، ولم تفقد أهميتها حتى بعد أن أصبحت العاصمة قرطبة.

في البدء آلى ألفونسو على نفسه أن يحافظ على حياة مسلمي طليطلة، وحياة نسائهم وأطفالهم، وألا يلحق ضررا بأملاكهم، وتعهد بأن يسمح لمن يريد أن يخرج بالخروج، ولمن يريد البقاء أن يبقى، ولا يطلب من هذا إلا أن يدفع ضريبة الرأس، ومن يهاجر يمكنه أن يعود فى الحال، ويسترد أملاكه مهما عظمت قيمتها دون معارضة، وأجاب أهل طليطلة إلى كل الضمانات التي طلبوها فيما يتصل بحرية ممارسة شعائرهم الدينية، والحفاظ على جامعهم الكبير.

غير أن الكاثوليك مالبثوا أن تنكروا لعهودهم، ونقضوا المعاهدة لأسابيع من دخولهم طليطلة (6 من مايو سنة 1085 م)، فحولوا المسجد إلى كنيسة في يوليه من العام نفسه، وحيل بين المهاجرين والعودة إلى ديارهم، وضيق على المسلمين في أداء شعائرهم أولا، ثم أكرهوا على اعتناق الكاثوليكية فيما بعد، حين أزفت شمس الإسلام الأندلسي على المغيب.

ولم يجد المعتمد بن عباد بداً، وقد رأى الخطر الأجنبي ماثلا، أن يستعين بدولة المرابطين القوية في المغرب، وعندما حذره ابنه الرشيد من أن المرابطين إذا جاءوا قد لا يذهبون، كانت جملته التي لصقت في ذاكرة التاريخ حتى يومنا: "لأن أرعى الجمال في الصحراء خير من أن أرعى الخنازير في قشتالة". وقد استجاب المرابطون لدعوته، كان انتصار المسلمين باهرا في معركة الزلاقة، وجاءت بعد سقوط طليطلة بعام واحد، وقاتل المعتمد في بسالة نادرة، وصبر في المعركة صبرا لم يعهد مثله لأحد، وألقى عليه ملك قشتالة بثقل جيشه كله، لأنه رآه وراء هذه الحرب، واشتد عليه ومن معه البلاء، وأثخن جراحا، وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه، وعقرت تحته ثلاثة أفراس، كلما هلك واحد قدم له آخر، وظل يقاسي حياض الموت، ويضرب يمينا وشمالا، وحين أطبقت جيوش المسلمين على جيش ألفونسو وأصحابه ونصرائه من كل بقية دول أوربا، وصدقوا الحملة عليهم، ولوا ظهورهم، وأعطوا أعناقهم، والسيوف تصفعهم، والرماح تطعنهم، وتفرق جيش ألفونسو شذر مذر، وغطت جثث جنوده ساحة المعركة، فلا يستطيع المرء أن يتحرك خلالها إلا على الجثث خوضا في الدماء.

ومع ذلك ارتكب المسلمون خطأ قاتلا، فقد قنعوا بالنصر في المعركة، ولم يتابعوا العدو في ارتداده، ولم يحرروا حتى طليطلة نفسها، ومن أجلها عبرت قوات المرابطين إلى الأندلس، مما أتاح الفرصة لألفونسو لكي يضمد جراحه، ويستجمع قواه، وتظل دولته شوكة في ظهر المسلمين طوال حياته وحياة خلفائه من بعده.

لكن أمير المرابطين يوسف بن تاشفين قرر، لأسباب سياسية ارتآها، وليس هنا موضع مناقشتها، أن يزيح أمراء الطوائف جميعا عن عروشهم، وبذلك تحول الأندلس إلى مقاطعة في إمبراطورية المرابطين، ثم الموحدين من بعدهم، وهي فترة بدأت مع آخر القرن الحادي عشر الميلادي واستمرت حتى الربع الأول من القرن الثالث عشر.

ثم جاءت وقيعة العقاب

ورغم إحساس الأندلسيين القوي بأن حكامهم أجانب عنهم، ودونهم حضارة ورقيا وثقافة، كان عزاؤهم الوحيد على الدوام مقولة المعتمد التي ألمحنا إليها: لأن يخضعوا لإخوانهم في الدين خير من أن يقعوا في أنياب حكم أجنبي جائر لقوم كافرين، لا يرعون فيهم إلاً ولا ذمة، وظل رضاهم عن الموحدين ما بقي هؤلاء يدفعون عنهم عدوان النصارى في الشمال، حتى كانت وقيعة العقاب، وكانت بين الموحدين ومعهم الأندلسيون من جانب، والجيوش الكاثوليكية مجتمعة من جانب آخر، تضم ملوك قشتالة وليون ونبرة وأرغون وتساعدهم قوات أجنبية، ومن ورائهم البابا يخطط ويمنح البركات للجنود الذاهبين للميدان، ويمنح القتلى منهم قصورا في الجنة بلا حساب.

وهي معركة خسرها المسلمون، وحصد الموت أبرياء المقاتلين والمتطوعة، وبلغ الشهداء عددا لم تعرفه أية معركة أخرى في تاريخ الإسلام، حتى أن السائر في ريف المغرب - كما يقول ابن أبي زرع المؤرخ - كان يقطع المسافات الطويلة دون أن يرى رجلا، لأن زهرة الرجال ذهبت صرعى ذلك اليوم الأسيف.

وعندما يعجز أي نظام عن حماية حدوده فإن ذلك بداية النهاية، وقد ولدت هذه الهزيمة إحساسا عميقا لدى الأندلسيين بأن الموحدين أصبحوا عاجزين عن حماية الحدود الأندلسية في مواجهتهم اليومية مع نصارى الشمال، وقد مات الخليفة الموحدي غما بعد المعركة بقليل، وبدأت فترة من الفوضى، وظهرت طوائف تقاوم حكم الموحدين وتثور عليه، ويتقاتلون فيما بينهم أيضا، وبدأ المتنافسون يستعينون بملوك الشمال من النصارى، كما صنع أسلافهم ملوك الطوائف من قبل، دون أن يتعظوا والفارق أن ملوك النصارى في الشمال أصبحوا في القرن الثالث عشر أعز سلطانا وأقوى جيوشا، وأوسع أرضا، وبدأوا يتخطفون المدن الأندلسية واحدة وراء أخرى، انهارت الجبهة الشرقية فسقطت بلنسية، ومرسية، وجيان، وشاطبة وفي الوسط سقطت قرطبة عاصمة الخلافة من قبل، وإشبيلية بعدها، ولم يأت منتصف القرن الثالث عشر الميلادي حتى كانت معظم بسائط الأندلس وقواعده المهمة قد سقطت في قبضة الدولة الكاثوليكية خلال ظروف دامية من المحن والاختلافات والفوضى والشقاء، وانكمشت رقعة الإسلام في الأندلس.

عصر الطوائف الثاني

كان الإحباط الذي أصاب المسلمين في هذه الفترة مرا، فقد رأوا العديد من القلاع الإسلامية تنتقل إلى قشتاله المسيحية، ورأوا كيف خربت هذه أراضيهم وحقولهم وبساتينهم، وأدركوا أن عليهم، إذا أرادوا الحياة، أن يدافعوا بأنفسهم عن وطنهم وأراضيهم وأعراضهم، ومن هنا تفجرت الثورات في كل مكان، ثم تركزت حول شخصيتين: ابن هود وابن الأحمر.

في البدء كانت الأحداث إلى جانب الأول منهما، فانضمت إليه أغلب المدن الباقية في قبضة المسلمين، وطمح أن يستقل بالأندلس تحت راية الخليفة العباسي، واتخذ لنفسه لقب "المتوكل"، وقبله الأندلسيون كراهية في الموحدين لا حباً فيه، فلم يكن الرجل الذي يبحثون عنه، فقد تعاون منذ البدء مع أعدائهم، وكانوا ينفرون في أعماقهم من الحكام المسلمين الذين يتعاونون مع الكفار، ويستعينون بهم على بقية إخوانهم المسلمين، وبعد قليل اغتيل ابن هود في مدينة ألمرية لأسباب نسائية، فخلا الجو لابن الأحمر، فأسرع الناس إليه رغبة في الوحدة والأمان، وما إن استقر به الحال قليلا حتى عقد هدنة مع ملك قشتالة ثم معاهدة أصبح ابن الأحمر بمقتضاها رعية له، ويدفع له الجزية، وتنازل له عن قلعة جيان.

وبدأ التأثير القشتالي يجتاح المجتمع الإسلامي، في الملابس والجيش والسلاح وأنماط السلوك وحياة الناس، مما أزعج المواطنين، وطوى جوانحهم على غضب مكتوم، وتوزعهم القلق والاضطراب، وبدأت الخيانات تعمل عملها، وأخذ النصارى يغذون كل أسباب الفرقة والفساد. ولكن قوة الرأي العام التي تجمعت استطاعت أن تغير هذه السياسة، وأن تحمل الحكام على التخلى عن قشتالة المسيحية، والتوجه إلى المسلمين في المغرب والمشرق والاعتماد عليهم.

غير أن الأندلس كان قد بلغ المرحلة التي أشار إليها ابن خلدون وشهد الأحداث عن قرب، وهو ما يدعوه بوهن العصبية، أو إن شئت تدهور الولاء للجماعة، فقد شهد العصر ألوانا من التمزق والخيانة لا يعرف لها العالم الإسلامي مثيلا، فقد أصبح من المألوف أن يتآمر الأخ على أخيه، وأن يقتل الابن أباه لكي يخلفه في الحكم، وكلهم يلوذون بالعدو المسيحي، لاجئين حين يهزمون، ويطلبون عونه جيوشا وسلاحا وأموالا، وهو يرحب بهم، ويعينهم حين يكون ذلك في صالحه، ويسلمهم لأعدائهم حين يدفع له هؤلاء الأعداء الثمن، ومع الخيانة شاعت الرشاوى، وبدأ الأندلس يسلك طريقه نحو النهاية مهرولا، ويتلفت حوله فلا يجد من أحد عونا ولا نصيحة فالمغرب مشغول باضطراباته، ومصر متدهورة اقتصاديا، وعاجزة عن عون أحد، والأتراك أقوياء في الحرب، قصار النظر و السياسة، ومشغولون بحروبهم في البلقان، فلم يعيروا الأندلس أي انتباه، وفيما بعد سوف تجيء هزيمتهم القاصمة في معركة "لبانتي" على يد إسبانيا التى كانت يوما شعبا مسلما.

النهاية

في 2 من يناير 1492، وكان الوزراء الخونة، والمستشارون المرتشون من قبل الأعداء، قد أقنعوا أبا عبدالله الصغير ملك غرناطة بألاّ فائدة، وأن الشروط التي يقدمها لهم العدو ليس هناك أفضل منها، وكلهم قبضوا في الخفاء، فقبل أن يسلم مقابل ضيعة سوف يطرد منها فيما بعد، فجاء في الصباح الباكر الممطر يسلم مفاتيح المدينة للزوجين: إيزابيل ملكة قشتالة وفرناندو ملك أرغون، ورحل بعدها مباشرة هو وحريمه وجواريه، وحين اجتاز القصور والحدائق، وألقى النظرة الأخيرة وهو على قمة الجبل على غرناطة عاصمة ملكه بكى، وجاءه الرد من أمه عائشة الحرة: ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه كالرجال.

وما حدث بعد التقسيم كان مرعبا، ولما يدرس، ولم تكتب صفحاته- بعد، لأننا لا نملك وثائقه بين أيدينا، فقد تنكر المنتصرون لكل حرف خطوه في المعاهدة، وحملوا الناس على اعتناق الكاثوليكية كرها، والإعدام والحرق ينتظر من يرفض، أو يراوغ، أو يشك في عمله، وبعد قرن وربع قرن من الزمان تقرر طرد المسلمين جميعا من إسبانيا، وكانوا قانونا في الأقل قد أصبحوا كاثوليكا، ولم يكن هؤلاء المطرودون عربا ولا غزاة، بل ينحدرون من أصول إسبانية بعيدة في جملتهم، وكل جريمتهم أنهم كانوا يتكلمون العربية- ويدينون بالإسلام. لقد استؤصلوا ماديا وجسميا، وويل للضعيف الذي يطمئن إلى وعد القوي أو يركن إلى حمايته، لقد ذهبوا، ولم يعد لهم أثر:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

لحظات من الزمن العربي
عرب ما بعد السقوط
بقلم: الدكتور محمد المنسي قنديل


نحن جميعا عرب ما بعد السقوط. منذ أن تهاوت آخر معاقلنا في غرناطة وفي كل يوم تنفتح في جلودنا ثغرة جديدة. تسقط مدننا من الداخ قبل أن تنطلق المدافع. وقبل أن يفكر العدو في أقتحامها. كنا نأخذ الجزية فأصبحنا ندفعها. وكنا نشحذ السيوف فتركناها صدئة على الجدران. وكنا نملك ناصية الخيل فهبطنا نسوسها. استباح الجميع أسوارنا فأصبحنا نعيش في مدن آيلة للسقوط.

سمع محمد بن الغافل الأذان وهو يجتاز الأسوار، يسري في هداة الليل مختلطا بتأوهات الطيور. فيه شيء من الانكسار. الأسوار ترتعش ، والمدافع متأهبة. ورغم ذلك لم ير أحد الباب الصغير وهو يفتح وآخر ملوك غرناطة يخرج منه. كان ابن الغافل - عين عيون الملك - هو الذي يعرف سر وجود هذا الباب هو الذي يحمل حلقة مفاتيحه الصدئة.

كان الباب صغيراً حتى أن الملك وحاشيته اضطروا للترجل ومروا أولا ثم مرت الجياد خلفهم وعلى مدى الأفق كانت جيوش " قشتالة" التي حاصرت المدينة طويلا كتلة من الظلام الرمادي. كانوا معهم على نفس الأرض دون أسوار. توقف الملك أبو محمد الصغير وتوقف خلفه أمه وزوجته وهما تتبادلان نظرات الكراهية كأنما لم يكفهما ما حدث. التفت الملك إلى المدينة التي تخلى عنها وبدأ يبكي. كان نشيجه هو الصوت الوحيد الذي يخدش صمت الفجر المهيب. وقالت الأم في صوت حانق:

- ابك كالنساء، على ملك لم تصنه كالرجال.

وأحس أبن الغافل فجأة أنه يجب ألا أن يتبع هذا الملك. كانت المفاتيح في يده والمدينة خلف ظهره، ومهما فعلت بها المدافع الإيطالية فلن يتبع هذا الملك. ملك مهزوم، قاد المدينة إلى الموت ولم يكف عن البكاء عليها. استدار ابن الغافل بجواده. لم يلتفت خلفه، ولم يعرف إن كانوا قد فطنوا إلى تراجعه أم لا.

لم يعترض الباب الضيق على عودته ، واستقبلته غرناطة بنفس الصمت المرتجف. ترجل من على جواده ونزع خوذته وألقى سيفه. محا من على جسده كل شارات الملك السابقة ، وداعا يا بني الأحمر، هذه أيام الإسبان، ملوك قشتالة بسيوفهم وصلبانهم ، لن يفعل شيئا، كل ما في الأمر أنه لن يغادر غرناطة أبداً، ولن يوقن بشيء بعد اليوم.

الناس يخرجون من صلاة الفجر منكسي الرءوس، والقناديل داخل المساجد تشع مثل شموس صغيرة مختبئة. فكر أن يدخل ويؤدي هذه الصلاة الأخيرة يودع بها كل الأيام الماضية ولكنه لم يجرؤ على مواجهة القبلة والمحراب ونظرات الشيخ الزبيري. لم يكن أمامه إلا أن يذهب إلى منزله ويجلس منزويا في أحد الأركان حتى يتقرر مصيره في ضوء النهار.

وجاء الصباح يعري لحم المدينة الخانقة. فتحت غرناطة أبوابها ولم يكن أمامها إلا أن تفتحها. انهارت الأسوار التي صمدت على مدى 22 شهراً تحملت فيها الحصار والجوع ودوي المدافع. كانت المدافع الإيطالية الضخمة من طراز " لومباردو" قد جاءت عبر عشرات الطرق والجسور والموانع الجبلية. قادها المرتزقة من فرنسا وألمانيا وإسبانيا، وقام بتمويل رحلتها كل يهود أوربا. كانت غرناطة تبدو كأنها لن تسقط أبداً. تدفق إليها عشرات الآلاف من سكان الأندلس يحاولون إنقاذ آخر المدن من السقوط والتمسك بآخر أهداب الحلم، ولكن الحلم الأندلسي تحول إلى كابوس. عجزت مدافع المدينة التي جاءت من دمشق عن رد المهاجمين، كانت واسعة الفوهات، تتقيأ البارود أكثر مما تقذف به. كانت معركة غرناطة محسومة مهما طالت المدة، فقد تساقطت كل المدن الأخرى وكفت جيوش المغرب عن عبور "العدوة" وأصاب الصمم آذان مماليك مصر. وبدت غرناطة بعيدة كأنها لم تكن.

أصدرت مفاصل أبواب غرناطة وهي تفتح صوتا كالأنين، واندفع جنود قشتالة مثل الجراد. اقتحموا المدينة بدروعهم البراقة وأعلامهم الملونة ورائحتهم الثقيلة التي تشبه العطن. ثم اندفع القساوسة يرفعون الصلبان ويرددون الصلوات. ثم أقبلت الملكة إيزابيلا وبجوارها الملك فرناندو. كانت نحيفة وطويلة وشاحبة. عيناها لا تكفان عن الدوران في محجريهما، تحاولان تقدير قيمة الغنيمة التي حصلت عليها، والملك بجانبها ينؤ تحت ثقل الدروع التي يرتديها. أسد حبيس لن يرتاح حتى يفلت منها ويهدم المدينة على رءوس أهلها. التراتيل تعلو وشوارع المدينة خالية من سكانها. أغلقوا الأبواب وحاولوا ألا يروا وألا يسمعوا كأنهم ينفون عن أنفسهم وصمة السقوط. وصل الملك والملكة إلى قصر الحمراء. كان خاليا، فيه بهاء حزين. مازال يحمل شعار بني الأحمر الذين فروا هاربين "ولاغالب إلا الله..". كان القصر مغلوبا على أمره، وحمل القساوسة صليبا كبيراً من الفضة وصعدوا به إلى أعلى وثبتوه في مقدمة القصر حتى يراه أهل المدينة أجمعون، ويعلموا أن آخر الاحلام الأندلسية قد ماتت.

في حضرة الكاردينال

اقتحموا بيت ابن الغافل مع اقتحام المدينة. كان متأهبا، خبأ كل شيء ولم يعد هناك ما يدل على هويته. التف الجنود حوله وحاصروه برماحهم. وجوه غاضبة ولحى حمراء تتوهج وسط العتمة. كانت أسنة الرماح على وشك أن تنغرس في لحمه. تقدم أحد القساوسة وحدق فيه باشمئزاز قائلاً:

- أنت مسلم نتن.. أليس كذلك..؟

قال ابن الغافل: أجل، ولكن جدي الأول كان مسيحيا طيبا، ولابد أن جدي الثاني كان كذلك، ولا أعرف شيئا عن جدي الثالث.

انفرجت أسارير الراهب عن ابتسامة متشككة وقال:

فماذا أنت في أعماق قلبك؟

قال ابن الغافل: إنني لا أؤمن بشيء، ولكن ربما استيقظت داخلي خلايا الإيمان التي ورثتها عن أجدادي.

ظل القس ينظر إليه غير مصدق، ثم أشار له أن يتبعهم فتبعهم. ضوء الشمس قوي والهواء راكد والمدينة عفنة كأن بيوتها قد امتلأت بالقتلى. كان هناك من هم مثله، يتبعون الجند والقساوسة. لا بد أنهم رددوا نفس الكلمات وكذبوا ذات الكذبة. ساروا إلى ساحة المسجد الكبير وابن الغافل منكس الرأس، لايريد أن يتعرف على أحد ولا يريد لأحد أن يتعرف عليه. أوقفهم القس صفا واحداً وهو يهتف بهم:

- سوف تنتظرون قدوم نيافة الكاردينال "خمينث".

رفع ابن الغافل رأسه فرأى معاول الهدم وهى تهوي على مئذنة المسجد، ورأى عمالا آخرين يشدون حبلا يرفعون به جرساً ثقيلاً فوق قبة المسجد، وآخرين يواصلون محو الآيات المحفورة على الملاط. ثم خيم صمت مفاجئ، وخرج من باب المسجد قس آخر، بالغ الطول والنحافة يمتاز عن بقية القساوسة بعباءته الحمراء في لون الدم. سار ببطء يتبعه رتل من الرهبان. فكر ابن الغافل، لاشك أن هذا هو الكاردينال. نظراته ثاقبة كالصقر يسلطها عليهم يبحث في داخلهم عن ذلك المسيحي القديم أو المسلم المرتد.

أشار الكاردينال فاندفعت من داخل المسجد مجموعة من الجنود يحملون أكواماً من الصحاف، ذخيرة مكتبة المسجد الكبير، نسخ القرآن والأحاديث والفقه والسير. ألقوا بها على الأرض وظلوا يوالون إخراجها من المسجد حتى صنعوا منها كومة عالية، ثم تقدم الكاردينال بنفسه وتناول شعلة من أحد الجنود وأضرم النيران في الكومة. ارتجف ابن الغافل. تلوت الأوراق وتصاعدت رائحة المداد المختلطة بالزعفران وخشب الصندل. تذكر آخر صلاة للجمعة، والمصلين بملابسهم البيضاء، والصحاف مفرودة أمامهم، وهم يتمتمون بالآيات في همس خافت فيتكون من جماع هذا الهمس ما يشبه حفيف أجنحة الطيور وهى تنطلق للسموات البعيدة. ألسنة اللهب تزداد اتقاداً والدخان تحرق خلاياهم والسناج يسود وجوههم، وهم جميعاً واقفون عاجزين عن الحركة، والكاردينال يحدق فيهم أكثر مما يحدق في النار التي تبدو كأنها لن تخمد أبداً.

وأخيراً، بعد أن تحول كل شيءإلى سناج التفت الكاردينال إليهم. كانت النار قد عمدتهم وطمس السناج ملامحهم القديمة وقال:

- ستنقلون من بيوتكم القديمة إلى بيوت أفضل، بعيداً عن أحياء المسلمين القذرة. سوف نساعدكم حتى تكونوا مسيحيين طيبين.

ثم توقف أمام ابن الغافل، كأنه يحفظ ملامحه، ثم قال له في اهتمام:

- ماذا كنت تعمل من قبل؟.

كأن الكاردينال كان ينفذ داخل طويته. لم يقدر على الكذب، قال:

- كنت عين عيون الملك.

اتسعت ابتسامة الكاردينال:

- سوف أتذكر هذا بالتأكيد.

ورفع الصليب الفضي الذي كان يحمله في يده، وقربه من وجه ابن الغافل الذي أرخى عينيه حتى لا يقابل نظرات الكاردينال، ثم مد شفتيه ولمس الصليب البارد.

راكب الأسد

قال له الكاردينال:

- آن لك أن تتزوج يا ألفونس. زواجك من إسبانية نبيلة سوف يحميك من خطر الردة.

ووضع يده على رأسه يباركه فارتجف ابن الغافل. هذا هو اسمه الجديد. ومع ذلك فإن العالم مليء بالحمقى الذين لم يغيروا أسماءهم ولم يكفوا عن التمرد. صودرت بيوتهم ونقلوا إلى الأحياء الفقيرة وخطفت أولادهم ليتحولوا إلى شمامسة، وانتزعت الارض التي يملكونها والثروة التي يتاجرون فيها، ومع ذلك ظلوا يرفضون الانصياع والدخول في دين السادة الجدد. كان الكاردينال قد حرم عليهم أشياء كثيرة، حول مساجدهم إلى كنائس، وأغلق الحمامات، ومنع لبسهم للون الإليض وألغى كل بنود المعاهدة التي وقعها الملك الصغير- آخر الحمقى- مع الملكة المجيدة إيزابيلا، كان الكاردينال يبسط ظله على المدينة وابن الغافل يمشي في ظله. عبر المسافة الصغيرة من أن يكون عين الملك إلى عين الكاردينال. كانت المدينة مليئة بالكفار، والكاردينال كان صبوراً عليهم أكثر مما ينبغي. استدعى الفقهاء وأغراهم وناقشهم طويلا. حاول أن يقنعهم أن الله يقف دائما بجانب المنتصر، وما دامت المسيحية قد انتصرت فهي الحق. ولكنهم أخذوا يناقشونه ويفندون حججه، وهتف الكاردينال في حنق:

- هؤلاء الأغبياء، إنني أتمالك نفسي في صعوبة ويجب أن ألجأ معهم إلى العنف. قال ابن الغافل: فلتناقش شيخهم " الزبيري " لو اقتنع فسوف يقتنع الجميع.

كان ابن الغافل يتوق لأن يعلن الزبيري تنصره. لو فعل ذلك فسوف ينعدل ميزان الكون ويكتسب كل شيء شرعيته. أسرع الجنود فأحضروا الشيخ العجوز وبدأوا يناقشونه. كانت المسافة قصيرة جدا، خطوة يكفي أن يخطوها الشيخ فيصبح كاردينالا بدلا من أن يكون فقيها، ولكنه رفض. هبطوا به من بهو المسجد الذي أصبح كنيسة إلى القبو الواسع الذي بني تحتها منع عنه الطعام والماء. ثم بدأت عمليات التعذيب. رأى ابن الغافل أضلاع الشيخ وهي تعتصر، وجلده وهو يكوى بالحديد المحمي. كان العذاب أليما. لماذا لا يستسلم؟ لماذا ينتفض جسده هكذا ثم يسكن تماما؟.

كان أهالي المدينة قد تجمعوا يطالبون بعودة شيخهم. أخذوا يصيحون في غضب، ولكن الكاردينال خرج إليهم وهو يقول: بشراكم. لقد رأى الزبيري حلما يدعوه للدخول في النصرانية، ورفع إلى السماء كما رفع المسيح.

وصاح الناس في غضب جارف. تفجرت في داخلهم كل المرارات وكل قسوة الحصار. أخرجوا السيوف الصدئة والبنادق القديمة والسكاكين المثلومة واجتمعوا في حي "البيازين". أقاموا المتاريس واشتبكوا مع الجنود، ورأى ابن الغافل وجه الكاردينال ممتقعا وهو يطلب منه أن يعرف من هم رءوس هذه الثورة. كانت طاقة الغضب تعم المدينة كلها. حاصروا قصر الحمراء وطالبوا برأس الكاردينال في مقابل رأس الشيخ الزبيري. وظل الكاردينال مختبئاً في القبو حتى أرسلت إيزابيلا المزيد من جنود قشتالة.

كان الرد رهيبا. تحول حي "البيازين" إلى بحر من الدماء، وقتل جنود قشتالة كل من وجدوه أمامهم دون تمييز. اختلطت جثث الشيوخ والأطفال والنساء. كل الذين عجزوا عن الهرب دهستهم الخيل، وأعلنت إيزابيلا أنه يجب تقديم كل رءوس الثورة إلى محاكم التفتيش. وازدادت سلطة الكاردينال، أصبح هو المفتش الأعظم الذي أنيط به أن يحمي حق المسيح على الأرض، وانتشر قساوسته في كل أرجاء المدينة يقبضون على أي أحد لمجرد الشبهة.

صاحب السلطان كراكب الأسد، الناس تهابه وهو أدرى بما به. لا يذكر ابن الغافل من قال هذه الكلمات، ولكنها كانت تامة الانطباق عليه. لذا فقد قبل الزواج على الفور. كانت زوجته سمينة، كريهة الرائحة، بالغة العنوسة، ولكنها كانت تمت بصلة قرابة إلى المفتش الأعظم. قشتاليه أصيلة، لا تستحم إلا فيما ندر، وتأكل اللحوم نصف نيئة، وتكره الخضراوات والفاكهة وسماع أي كلمة بالعربية، فهل يمنحه هذا بعضاً من الأمان؟.

كان ابن الغافل يعيش كابوسه اليومي الخاص وهو يخوض في أقبية محاكم التفتيش. كانت قد استطالت وتلوت كالثعابين تحت سطح المدينة. وفي كل يوم تبتلع أجساد العاجزين عن التواؤم الروحي ولا تلفظهم إلا موتى. كان مفتشه الأعظم يجد متعة خفية في عمليات القتل البطيء وهو يستمع إلى التأوهات والصوت الخافت لتكسر العظام أو يشم رائحة اللحم المحترق. كان ابن الغافل خائفا من أن يكون مصيره يوما ما على آلة من مثل هذه الآلات التي تفنن المفتش في ابتكارها.

كان خائفا، ولكنهم لم يكونوا خائفين. هدأت الثورة داخل المدينة كي تبدأ في الجبال المحيطة بها. ثار أهالي جبل البشرة والجبل الأحمر، اعتصموا بمساكنهم وسط الصخور الوعرة. لم تكن مدافع "لومباردو" التي هزمت غرناطة قادرة على التعامل معهم. توجه إليهم جيش بقيادة أهم قواد قشتالة "الونثو دي إجيلار" الذي أثبت صلابته على مدى أربعين عاما في محاربة الأندلسيين. ولكن الصخور كانت في انتظاره، سلاح الأهالي الوحيد الذي وهبته لهم الطبيعة. انهالت على جيش "الونثو" ودفن هو تحتها. كانت ضربة هائلة لم تصدقها إيزابيلا فأرسلت زوجها فرناندو على رأس جيش أكثر قوة ولكنه لم يكن ليجرؤ على صعود الجبال أو مواجهة الصنخور، ولجأ إلى الأسلوب الذي يجيده: الحصار الشامل والطويل. كان يعرف أنهم يعيشون في هضاب وعرة، ماؤهم نادر وطعامهم قليل، وكان الزمن في صالحه. مات كل مالدى أهل الجبال من حيوانات، وجفت المياه الشحيحة ويبست الخضرة، كان الخيار أمامهم محدداً إما التنصير، أو عبور البحر إلى بلاد الإسلام البعيدة.

وبعد شهور طويلة لم يكن أمامهم إلا أن يستسلموا. بدأت صفوفهم الطويلة تهبط من بين فجاج الصخور، نسور ذابلة تعاني من شظف الجوع، رفضوا التنصير وفضلوا السير إلى مصيرهم المجهول. وكان المفتش الأعظم سعيداً، وكان ابن الغافل مازال يسأل نفسه: وماذا لو تطامنوا ورضوا؟ هل كانوا سيتركونهم أم سيبحثون لهم عن حجة أخرى ينتزعونهم بها من ديارهم.

نوع من التطهر

ثم حانت لحظة الميلاد. خرج الطفل من رحم المرأة الإسبانية كالزهور تخرج من أرض سبخة. تولدت حياة غريبة من أجساد متنافرة. انحنى ابن الغافل ورفعه بين يديه ورغما عنه تمتم ببعض الآيات القرآنية، ثم فطن إلى أن زوجته تراقبه بعينين متفحصتين تحاول أن تقرأ حركة شفتيه. رسم علامة الصليب على صدره في ارتباك ثم خرج يعدو. أخفض رأسه إلى الأرض خوفاً من أن يقابله أحد قساوسة محاكم التفتيش فيقرأ أفكاره. شاهد نجوم السماء بعيدة، متألقة وغير خائفة. يا إلهى، كيف تخلقت هذه الحياة الجميلة، وكيف نبض بها جسد المرأة، وما هذه الغمغمات الخفية التي تدور حوله في الفضاء. ذكرى ضائعة، شيء ما تبدد واستعصى على الموت. نام على حافة النهر ثم استيقظ فجأة. تذكر التقويم القديم الذي رآه ذات مرة أمام الكاردينال قبل أن يحرق. اكتشف أنه قد حفظ منه معارج القمر وغرات الشهور. عرف يومها أنه في شهر رمضان فتعمد أن يأكل ويشرب أمام الجميع. كانت الخمر تقلص معدته ولكنه شربها، ولحم الخنزير يثير غثيانه ولكنه التهمه. ولم تغادر أيام التقويم مخيلته. نظر إلى السماء يبحث عن أثر القمر، ثم بدأ يعد على أصابعه كل الأيام التي توالت والأسابيع التي انصرمت. أيكون هذا هو فجر أول يوم من أيام العيد، وهذه الأصوات التائهة هي بقايا التكبيرات القديمة. كيف استطاعت هذه الأصوات الضائعة أن تقاوم الاندثار بعد أن انهار كل شيء.

تسلل عائداً إلى بيته. كانت نائمة والطفل هاجع بجوارها وهو يبتسم. أي حلم يدور في رأسه الصغير، أتراه هو أيضا سمع نفس الأصوات. مد يده وحمله إلى صدره. سار به عبر الشوارع والساحات إلى الحارات الضيقة والأحياء القديمة. سار إلى حي "البيازين". انحدرت به الدروب، احتوته بيوت الحي المتلاصقة، أدخلته في رحمها. سمع نبض الأدعية وهي تسري في عروقه. نثار من الكلمات العربية البديعة المحرم النطق بها. رائحة الميلاد ودفء الأفراح القديمة. ثم سمع صوت التكبيرات. كان موقنا أنها موجودة وحقيقية، آتية من خلف جدران صخرية سميكة، خافتة وعذبة ومتواصلة. دار حول الجدران حتى رآهم أمامه جالسين- رجالا ونساء- في ثياب بيضاء، كما كانوا دائما وكأن الإسبان لم يوجدوا "الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً " جلس وسطهم وهو يردد الكلمات دون وعي حتى فرغوا.

التفتوا إليه. لم يتعرفوا على وجهه، أو ربما تجاهلوا هويته القديمة. قدموا له أطباق اللبن والعسل. وبدأ الطفل يبكي فهرعت إليه بعض النسوة وحملنه بين أيديهن وبدأن يهدهدنه. وصاحت إحدى النساء:

- هذا الطفل المسكين لم يختن بعد.

وقال شيخ عجوز يشبه الشيخ الزبيري تماما:

- اليوم نقوم بختانه ونحتفل به.

كان الطفل يصرخ والجميع يهللون في فرح وهم يرددون التكبيرات وكان ابن الغافل سعيداً. احتضن الطفل المرتجف وقد تطهر تماما، تطهرا معا، جديدان تماما. لم يدخلا هذا العالم الملوث ولم يسقطا خلف الأسوار، ولكن الوقت كان يمضي، ولحظات العيد تفر من بين أصابعهم. كان عليهم جميعا أن يخلعوا ثيابهم البيضاء وأن يكفوا عن الحديث بالعربية. وأن يعودوا إلى حياة الخوف في شوارع المدينة. انتهى الطقس كالحلم. وكان على ابن الغافل أن يحمل ابنه ويعود به.

شوارع خالية. لا صوت إلا صوت قدميه وهما تتثاقلان فوق الأحجار البيضاء. كان الطفل نائما. ذهب الألم وحلت عليه السكينة. دخل البيت فوجدها متيقظة في أنتظاره. كان المفتش الأعظم بذاته يقف خلفها. حدقا فيه بنظرات وباردة. مدت يدها فأعطاها الطفل. اقترب المفتش ومد أصابعه الشبيهة بالمخالب وكشف عن جسده. تأمل آثار الختان وقال في صوت بارد:

- كنت أعرف منذ البداية أن في أعماقك مسلما لا يستحق سوى الموت.