قصص على الهواء

 قصص على الهواء
        

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
-------------------------------------------

  • دموع من عيون الخشب.. إبراهيم عواد خلف

          تجذر هذه القصة العلاقة مع الأشياء من حولنا، تمس العلاقة بين الخشب الذي تشكله يديه وأخيلته النابعة من حالة فصام الشخصية وأدويتها، تدب حياة الخشب الحيوية لتصل إلى الباب ذي الدلالات الخاصة، باب النفاذ الخشبي إلى الحياة وجدران الحجز، وصولا إلى كرسي النفوذ، ورحلة إلى الأصل، شجرة البلوط التي تصدر وسائل القهر والتعذيب. وتبرز دموع الخشب احتجاجا على ما تشهده من انحراف. تحرك حس الحياة في الجماد ولكن ماذا عن حس الإنسان؟

  • شجرة التوت.. محمد باقر محسن

          نجحت هذه القصة في تجسيد العلاقة الحيوية بين الإنسان وما حوله، وتصنع معه تلك العلاقات الحميمة، متمثلا بشجرة التوت الراسخة، في وسط المنزل، من قبل ولادة الراوي لترافقه طفلا وتنمو حولها ذكريات الشباب. عندما دارت الحياة دورتها مع أبنائه لم يتحمل فاجتث شجرة التوت ليرتاح. تكومت الشجرة حطبا فتغير كل شيء من حوله.

  • حديث عائلي.. فخري سعيد محمد أبوشنب

          البساطة والحفر في الداخل ملمح هذه القصة، اجتمع فيها بساطة السرد والتركيز الجميل، واللقطات القريبة والدالة، لتقدم لنا طرفين متعاكسين: توهم التحرر وحقيقة القيود.

  • وميض.. أحمد بلقاسم

          في تركيز جميل تُقدم الشخصية الرئيسية، تكشف أصالتها الروحانية ثم تتتابع الإشارات الدالة لتبرز معاصرتها. فتاة تشارك في إدارة دولاب الحياة، يتصدى لها مقتنصو الشهوات، يبرز أحدهم وقد اتقدت شهوته، يدعوها فتقوده إلى حديقة الحيوان، لتكون الومضة الأخيرة الكاشفة.

  • الطابور.. جهاد الرملي

          الطابور السابق يقودنا إلى طابور آخر، يبدأ من اليومي الفردي المباشر ليصل بنا إلى النظرة العامة لمجتمعاتنا العربية، في هذا الطابور اختفت دورة الحياة، توقف الزمن، بحيث لم تعد شخصية القصة تعرف في أي طابور هي، ويأتي بعد ذلك السؤال: هل يتقدم طابورنا ككل طوابير العالم خطوات إلى الأمام، أم هو في كل مرة يقدم بنا خطوة للأمام كي يتراجع بعدها خطوات؟

----------------------------
دموع من عيون الخشب
إبراهيم عواد خلف (سورية)

          منذ أن صارحه الطبيب النفساني بأنه مصاب بفصام الشخصية، وعرف أنه من الفرقة غير الناجية من بني أبيه التي تشكو أمراضاً نفسية مختلفة، وعلم كذلك أن نسبة 40 بالمئة من العرب يحتاجون إلى علاج نفسي مستعجل، ونسبة 60 بالمئة منهم...، قرر أن يقتات على الخبز والماء وتلك العقاقير داكنة اللون التي تعالج «الشيزوفرينيــا» كما يطلقون عليها والتي من تأثيراتها الدوائية: الانتحار!

          سمع بالمثل الأجنبي القائل: «لا يمكن أن تكون جميع الأبواب مغلقة، أنت الذي تدق - يا سيئ الحظ - على الجدران» فعرف من فوره أنه سيئ الحظ الذي عناه المثل، أو أنه لا يميّز بين الأبواب والجدران، بالرغم من أنه يعمل نجاراً منذ عشرة أعوام خلت من عمره.

          فتح باب المنشرة صباحاً، أدرك أن الأبواب التي صنعها في الأيام الفائتة بمقاساتها وأحجامها وأنواعها المختلفة، ستغلق في وجوه الكثيرين ممن هم بأمسّ الحاجة إلى دخولها، كما أغلقت في وجهه مرات عدة، وستفتح تلقائياً للغواني والحسناوات ليدخلنها بسلام آمنات!

          في تحطيم الباب المتكئ على جدار محله بأمان ووداعة، أخرج ظرف الحبوب المهدئة من جيب سترته الزرقاء، ابتلع واحدة دون ماء، شحذ نفساً عميقاً مفعماً بغبار الخشب المنشور وروائح الصنوبر والحور والبلوط، حدق في كراسي الخيزران في ركن المحل المظلم، كانت مطلية بدهان اللكر الخشبي، وسرعان ما قفزت إلى ذهنه المعادلة التي تربط بين الكراسي والأبواب المغلقة، فثمة علاقة وطيدة بينها، عدا أنها مصنوعة من الخشب! وعدا أنها من وسائل الكبت والقهر..!

          تخايل شجر البلوط الأخضر وهو يخلع لحاءه في بلاد التجرّد، ثم يصدّر إلى بلادنا هراوات وأبواب موصدة، و.... جلس على آخر كرسي صنعه وانتهى الفرّاش من تنجيده، رفع قدماً على قدم، شعر بكبرياء فريدة، صمّ أذنيه عن العالم الخارجي، فكّر في حبة أخرى، بالرغم من أن الطبيب حذّره من الجرعة الزائدة فالانتحــــ....، تناول الحبة الثانية الداكنة قرطاً، شعر بأنه رجل آخر، لم يعد يسمع الطرق من حوله، نوبة من البكاء المر عصفت به، فبكى وبكى وصرخ بكل قدرته، ولأول مرة سمع صراخ الخشب تحت أردافه، وحوله، الأبواب، الكراسي،الخيزرانات، الشبابيك، المكاتب كلها تئن وتصرخ بنشيج محموم!

          ولأول مرة شاهد عيون الخشب على الأبواب الموصدة تدمع، إذ ترى إياب الخائبين دونها، وتغض النظر حين ترى ما يخجل! ثم تتألم حين تزفّ الكراسي إلى الأقبية المظلمة.

          لعن حظه العاثر، فكلما صنع كرسياً لتلاميذ في المدرسة أو لعشاق في حديقة خسر في عمله، الآن فقط أدرك مضار الجرعة الثانية من عقاره الدوائي!

          .. كبرت العيون الخشبية في الأبواب، اشرأبت أحداقها خارج المحيط الخشبي، لعنته، شتمته، انفجرت عليه، أرغت وأزبدت غباراً ودوائر غير منتظمة في وجهه، أخرج مشرطه ومزّق أغطية الكراسي المصنوعة حديثاً، تناول الفأس ذا القبضة الحديدية، حطّم أقفال الأبواب، هوى بفأسه على العيون الشاخصة الغاضبة، ولم يستطع تحطيمها، كانت أقوى من فأسه، أقوى من قبضته، أقوى منه.

          أسدل باب المشغل للأبد، واستدار آيباً يلوح بفأسه قاصداً باب منزله الخشبي، فأبي لا يقدر إلا على أمي.

----------------------------
شجرة التوت
محمد باقر محسن (سورية)

          هكذا بدأت الأفكار تطاردني وأنا في كثير من الحيرة والتردد، وفي لحظة كلها أنانية وجحود حملت فأسي عاقداً النية على إنهاء ما عزمت عليه لأهوي بها على جذعها وأنا أضرب وأضرب وشعرت أنني كمن يحفر في جسده ويقطع في قلبه.

          كانت قطع لحائها تتطاير كنتف الثلج وكنت أشعر أنّ دمي يتطاير معها.

          حاولت التراجع، ربما سمعت صراخها.. ربما كان صراخي واستغاثتها وحشرجتها هي صابرة كما عهدتها.

          ربما حل اليباس في مفاصل يدي، لكن الطغيان الذي احتل قلبي دفعني أن أضرب وضرب، ربما سمعت صوت والدي، لمحت طيفه ناظرا إليّ باستنكار وغضب شديدين، ها هم أولادي يراقبون ما أفعل من داخل النافذة التي كانت تغطيها تلك الشجرة العظيمة والدموع تغسل خدودهم المتوردة، ربما سمع تابنتي الكبرى كنانة تتوسل بابا الله يخليك حرام، ليس لنا إلا شجرة التوت، أنظر كيف كانت تظل باحة الدار؟

          كلتلك التوسلات لم تكن لتجدي نفعا مع قلب تحجّر وأنا مازلت أضرب وأضرب حتى هوت شجرة التوت بجذعها الضخم على الجدار المقابل!

          جلست أنظر والعرق يغسل جسدي كالخارج من بركة ماء، أنفاسي تعلو وتهبط وأكاد أسمع نبض قلبي نبضة نبضة.

          أشعلت سيجارة، دقائق وينجلس الضباب أمام ناظري، شجرة التوت أمامي ممدّدة ككومة حطب،والعصافير لتوها غادرت الدار إلى غير رجعة بعد أن كان صوتها يعشش في أذني كلّ صباح، حتى أولاد الحارة لم أعد أجدهم في دارنا عند أولادي كما كانوا دوما حتى ابتسامة أولادي تغيّرت وربما شعرت أنها ضاعت مع غياب تلك الشجرة العظيمة، وها هو طيف والدي الذي تعودت أن أراه في حلمي كلما شعرت أنني في حاجة إليه قد هجرني إلى غير رجعة.

          كل شيء في حياتي تغيّر بعد تلك الجريمة لتي اقترفتها حتى صرت وعن غير قصد أؤرخ الأشياء قبل وبعد موت شجرة التوت، لقد استمرت تاريخاً حتى وفاتها.. الله.. الله.. عندها أيقنت كم كنت صلبا وجحودا وكم كانت جريمتي بشعة.

          حتى مزاجي تغيّر نحو الانفعال والعصبية ولأتفه الأسباب وبت أجلس كل يوم في صحن الدار أنتظر ظل شجرة التوت التي لن تعود أبدا.

----------------------------
حديث عائلي
فخري سعيد محمد أبوشنب (مصر)

          تغيرت عادات الأب في الأشهر الأخيرة، صام ينام في ساعة متأخرة من الليل ويصحو قبيل الظهر، لا يجد أحدا بالبيت، فابنت الصغرى تكون قد ذهبت إلى مدرستها، والكبرى إلى الجامعة. يتبعه البرنس إلى المطبخ فيضع له فتات خبز وبعض الحليب في وعاء من الصلب، ثم يفطر بكسرة خبز وقطعة من الجبن قبل أن يحتسي قهوته التي اعتاد أن يعدها بنفسه، يدخن سيجارة أو اثنتين، يصلي صلاة الظهر بغرفته، ثم يذهب إلى النادي، يجلس وحده يتشمس في الحديقة، يتصفح جريدة الصباح وينصت خلال سماعة في أذنه إلى راديو صغير في جيب سترته.

          صار يضيق بصحبة من سبقوه إلى المعاش، دعاه بعضهم للصالة بالجامع فلم يستجب، لم يستطع أن يشاركهم لعب الطاولة والدومينو، فهما في نظره لعبتان سخيفتان تصيبانه بالضجر، بعضهم يروي حكايات ساذجة وخيالية عن السياسة وعهد الملكية، والبعض الآخر دائم الشكوى من العلل والأمراض ويتحدث عن الأدوية والأطباء، لكن ما يقتله سأما حديثهم عن أحفادهم في سن الحضانة وأنهم يتمتعون بذكاء خارق وقدرة فائقة على تعلم السباحة واللغات.

          صحته على ما يرام، لا يشكو إلا من علة بالمعدة استطاع أن يروضها بالانتظام في تناول الدواء والامتثال لأوامر الطبيب، عدا الامتناع عن التدخين.

          منذ أيام أعاد ترتيب مكتبته التي أهلمها طويلا، استغنى عن بعض كتبه القديمة، اشترى بعض الطبعات المخفضة من كتب جديدة وضعها في الرف الأوسط من المكتبة لتكون في متناول يده دون عناء.

          يقولون إن أرباب المعاشات قد تحررا من سجن الوظيفة، ويستطيعون أن يفعلوا ما يشاءون في الوقت الذين يشاءون، لكن الأمر يختلف عما يقال - على الأقل في حالته. في الوظيفة لم يكن هناك وقت لاجترار الذكريات، والتفكير في أشياء قد تكون محزنة، في الوظيفة لم يكن ينتظر شيئا عندما يأوي إلى فراشه سوى أن يأتي الصباح إلى مكتبه، يمر الوقت سريعا في قراءة الأوراق ومراجعة التعليمات واتخاذ القرارات مهما كانت بساطتها.

          أجمل ساعة في اليوم هي تلك التي يجلس فيها مع البنتين في المساء بعد أن تكونا قد فرغتا من دروسهما، يشاهدون التلفزيون ويتجاذبون أطراف الحديث عن أحداث النهار.

          منذ عامين كانوا أربعة، لم يبق من الزوجة الراحلة سوى صورتها المعلقة على الجدار، تبتسم وكأنها تود أن تشاركهم الحديث، وذكريات في قلوبهم تطفو على السطح أحيانا. مقعدة المختار بغرفة المعيشة يواجه الصورة، ينظر إليها بين لحظة وأخرى، يراجع تماثل الملامح والطباع بينها وبين البنتين.

          أمسكت الصغرى بعلبة سجائره، قرأت المكتوب عليها بصوت مسموع:

          احترس، التدخين يدمر الصحة ويسبب الوفاة.

          قال وهو يضحك:

          - ألم يذكر التحذير شيئا عن الثمن؟ سأكتفي بسيجارتين كل يوم، واحدة مع قهوة الصباح، والأخرى مع قهوة المغرب.

          قالت:

          - لا داعي للقهوة، يقول الأطباء إنها تسبب تصلب الشرايين.

          كان البرنس راقدا في وضع أبي الهول على البساط في ركن حجرة المعيشة، بعد قليل قفز إلى حجرها ونظر إليها بعينيه العسليتين فاحضتنته وداعبت فراءه الأبيض، ثم قامت لتعد وجبته المسائية من سمك السالمون المعلب. حاولت مرة أن تطعيمه شيئا آخر فانزوى بركن الردهة وصام يوما كاملا. ليس للبرنس أصدقاء، ولا أقارب بالحي، عائلته قليلة العدد، لا يستطيع أن يدبر أموره إن خرج من البيت. أهدته لها إحدى صديقاتها قبل أن تسافر إلى الخارج مع عائتها، كان عمره شهرين، الآن قد ناهز السنوات الثلاث.

          عندما حوّل الأب جهاز التلفزيون إلى قناة الأخبار قامت البنت الكبرى لتمشط شعرها أمام المرآة، قالت:

          - كل الأخبار تذاع في التلفزيون، لا داعي لشراء الصحف.

          ردّ:

          - معك حق، سأكتفي بمشاهدة الأخبار في المساء، يمكننا أن نستغني عن أشياء تعادل قيمتها ما كنت أحصل عليه من أجر إضافي قبل أن أتقاعد.

          كما أنني لم أعد أدعو أحدا للشاي في النادي، الإنجليز فطنوا لهذا منذ زمن بعيد، على كل واحد أن يدفع ثمن ما يلبه لنفسه فقط.

          أضافت الصغرى وهي تحتضن البرنس:

          لماذا تذهب إلى النادي في تاكسي، المشي رياضة مفيدة، خصوصا في شمس الشتاء.

          ضحك وقال:

          وهناك لن أدفع بقشيشا، فالثمن يشمل الخدمة، ثم أردف بشيء من الجد:

          أفكر في أشياء أخرى لضبط ميزانية البيت.

          قالت الكبرى: لم لا تصرف أدويتك من التأمين الصحي؟

          قال: التأمين الصحي لا يقدم سوى بدائل أقل فاعلية، فضلا عن أنه مضجر وبعيد عن البيت، بعد برهة قال للصغرى:

          صديقتك التي زارتك منذ أيام أبدت شغفها بالبرنس، قالت إن بيتهم له حديقة صغيرة يستطيع أنيمرح بها كما يشاء.

          كان البرنس مسترخيا في حجرها ينظر إليها بعينين ناسعتين، ضمته إلى صدرها ووجهت إلى الأب نظرة عتاب، قالت بصوت مختنق: خفض مصروفي إلى النصف، لكني لن أستغني عن البرنس.

          ردّت الكبرى:

          أبي لا يقصد هذا، أليس كذلك يا أبي؟

          ربما كان بالفعل يفكر في تخفيض مصروف البنتين، قد توافقان على مضض، وربما تستنكران، عندئذ سيعجز أن يفرض فكرته عليهما، فعندما يكبر الأبناء يكون الأب قد كبر، وصارت قراراته مجرد اقتراحات قد تقبل أو ترفض، لذا آثر الصمت.

          في الصباح صحا مبكرا كسابق عهده، بحث عن بطاقة التأمين الصحي بين أوراقه القديمة حتى وجدها، وضعها بجيب سترته، ثم مشى إلى عيادة التأمين الصحي مستمتعا بشمس الصباح، كان عليه أن يقف في طابور طويل قبل أ يتسلم دواءه.

----------------------------
وميض
أحمد بلقاسم

          استحمت، توضأت، تطهّرت من كل رجس ودنس، وتلفّعت وقامت فصلّت، ابتهلت تضرّعت، سبحت وذكرت حتى أغر ورقت مقلتاها وتدحرجت على الخد الأسيل بلورات الرضا، ثم تجرّدت من بياضها فسربلت وأرخت شعرها الفاحم على متنها، وجلست أمام المرآة تحمد الذي أحسن خَلقها، كما أحسن خُلقها، الذي في أحسن صورة ما شاء ركّبها، وتزيّنت وأمعنت في التستر حتى بدت كلوحة فنان أفنى أنامله في إبداعها.

          لبست لباس العصر وتلت والعصر إن الإنسان لفي خسر، وتمنطقت بحزام لا يشبه حزام بنات العصر، وحشت حقيبتها أغراضاً لا تشبه أغراض بنات العصر، تأبطتها تماماً كما تفعل بنات العصر، نزلت إلى الشارع ملأته فتنة وغنجاً كما تفعل بنات العصر، تفرستها وافترستها عيون جائعة نهمة شرهة من رأسها حتى أخمص قدميها، عيون قردة وخنازير كانت تكتسح الرصيف والحانات ومحطات الحافلات، استفزها أريج عطرها الأنثوي الفوّاح وإيقاع خطوها وترنح قدّها الميّاس، انساق أحد القردة الضالة وراءها في سعي محموم لمرافقتها، علّه يقضي منها وطراً استبدت به غلمته الهائجة فدنا منها وقال:

          - كود إفنين هاو آريو؟

          فردّت بلسان يقطر سحراً حلالاص وسماً فارعاً.

          - أيام فاين ثانكس.

          هيا اركبي، سيارتي فاخرة، والرحلة عبرها ممتعة.

          - بالتأكيد ستكون الرحلة ممتعة.

          - أنا حديث عهد بهذا البلد أرض الميعاد، أين تريدين أن نذهب؟

          - إلى أي مكان فيه الناس والحياة.

          - إلى الحديقة الكبيرة إذن.

          - أوكي..

          - أنا وافد من روسيا وأعمل مهندساً في بناء المستوطنات وأنت؟

          - أنا من أورشليم فيها ولدت وفيها أموت ومنها أبعث حيّة.

          - وماذا تعملين في حياتك؟

          - أشتغل مروّضة قرود ومربية خنازير.

          ضحك حتى بانت تشكيلة أسنانه وأضراسه المنخورة.

----------------------------
الطابور
جهاد الرملي

          الطابور ممتد أمامي وخلفي أراني داخله منذ زمن طويل. ربما أسبوع أو أسبوعان.. شهران.. سنتان، ثلاثة، لا أدري فربما كان ولايزال ما يحدث لي حلم أو كابوس. ما أعرفه أشعر به أنني داخل الطابور ووسط الزحام القاتل، وركبتاي وقدماي تئنان من وطأة الوقوف الطويل، وروحي تكاد تنسل مني وأنا أختنق أوأكاد من الزحام ومن مرارة وملل الانتظار.

          وعندما يطول الانتظار، ويهد التعب الحيل دونما أي فرصة للاسترخاء أو انفراج الطريق إلى الشباك، عندما تظل مطحوناً بين أكتاف وأيدي تحاول دفعك للأمام وعندما، وعندما يسيح العرق على وجهك مثلي ومثلهم، وكالعرق تسيح الأفكار هي الأخرى كالعرق مع بعضها البعض في دوامة ملل وتأخذك بعيداً عن هدف مرتقب تناوش الوصول إليه موجات من اليأس والقنوط كموجات هذا الزحام المتكاثف، أو كموجات البحر الهائج الذي يرفع الغريق المرة تلو المرة ليقذف به المرة - أيضا - تلو المرة إلى قاع البحر.

          معقول هذا الذي يحدث لي ولكم يا رفاق الطابور؟ لا.. أنا بالتأكيد أحلم في منامي، أعايش كابوسا ليلياً، وما شعوري اليقيني والتام بأني داخل هذا الطابور المتكاثف إلا شعور النائم يحلم متيقنا في حلمه أنه يعايش حقيقة وليس مناماً، وهل يدرك النائم أنه يحلم أو أنه لا يعايش فعلياً ما يراه إلا بعد أن يصحو من نومه؟

          نعم.. الأفكار تسيح، تتداخل ثم تتماهى في دوامة عبثية يحركها الملل وشعور القرف مع طول الانتظار ربما ما أشعر به هو هذيان فكري نتيجة هذا الانتظار الطويل حتى أنني أتصور - في هذياني - أنني أحلم تارة أو أنني أختنق تارة أخرى. أتفلسف أحيانا فأقول أو أفكر - ولا أجد في وضع المأزوم جداً شيئاً من سعة الصدر يجعلني مهتماً حتى بالتمييز بين قولي وتفكيري - أننا ومنذ مولدنا وإلى مماتنا نعيش حالات من الانتظار تلو الأخرى.

          أنساني الملل وطول الانتظار وعبثية الأفكار هدفي. لم أنا هنا إذا كنت حقيقة أقف في هذا الطابور؟ أعرف أنني ومنذ زمن أقف في هذا الطابور الخالد، ربما من ساعة أو ساعتين وربما من أسبوع أو شهر، وربما من سنة أو سنتين، لم أعد أحسب الوقت فتكرار مشهد الطابور الممتد كتكرار أي شيء يفقد الرغبة في حساب الزمن أو تحديد المواقيت. لم يعد يهم إن كنت أقف في طابور هذا الكشك أو وراء هذا الشباك أم في غيرهما، فلكم وقفت في الطابور الطويل نفسه، ووقفت كثيراً وكثيراً، هو طابور أعرفه والله منذ وعيت على وجودي ف هذه الدنيا. نعم.. لم يعد يهم إن كنت أقل أمام فرن أنتظر أرغفة الخبز المدعم، أم أمام مكتب تنسيق القبول بالجامعات أنتظر مستقبل غامض بعد سنوات الدراسة المضنية، أم أما مجمعية استهلاكية، أو أمام مكتب ما أو مؤسسة أخرى أنتظر دوري في المقابلة الشخصية اللعينة لأحصل على فرصة عمل مراوغة.

          أخرج من أفكاري لأدخل في أفكار أخرى، يراوغني الأمل، يختي ويعود مع أفكار جديدة كضوء البرق سريع الظهور سريع الاختفاء وربما كسراب لامع كاذب في طريق صحراوي طويل ولأجدني مرة أخرى أسدد عيني إلى الشباك وأعود لأتابع خروج شخص بصعوبة من بين الحشد المتكتل أمام الشباك ذي الانفراجة الضيقة البادية من بعيد. خروج الشخص يحدث خلخلة خفيفة جدا بين الواقفين ليعود انضغاط الأجساد الملبدة بالعرق في بعضها البعض أنظر مرة أ خرى للطابور أمامي فإذا به لايزال طويلاً ممتداً لم يؤثر فيه خروج شخص واحد. شخص آخر يعود ليحتل مكانه مرة في الطابور بين صيحات احتجاج الواقفين الذين يرد عليهم بصياح آخر قائلا إنه استأذن من مسئول الشباك في الخروج ليستكمل أوراقا أو يحضر شيئا آخر لا أدريه طلبه منه ذلك المسئول. لم أعد أهتم بسبب خروج هذا الشخص أو عودته، الهم أن الطابور مازال ممتدا.

          منذ زمن وأنا أسعى في الحصول على إحدى شقق المحافظة ومازلت لأجل ذلك أقف في طابور السنين، طوحتني أفكاري العبثية إلى احتمال أن أكون الآن الآن واقفا في هذا الطابور لم لا؟ مع الوقت فقدت القدرة على التمييز بين الطوابير، إذا لم يكن ما يحدث لي هو كابوسا ليليا، أفيكون هذا الخلط العبثي بين الأفكار وفقدان القدرة على تمييز الطوابير من بعضها عرضا لمرض نفسي أو تقلي أشكو منه وظهرت أعراضه على قبل وقوفي في الطابور أوبسبب وقوفي في الطابور في حد ذاته؟

          أحاول أن أطرد أفكاري تلك كلها من ذهني وأن أتلهى عنها بالنظر في وجوه رفاقي في الطابور، لدهشتي ألاحظ أن ملامحهم تأخذ في التقارب شيئا فشيئا مع بعضها البعض ومع ملامحي.

          ثمة بريق منطفئ في العيون وشفاه مضمومة على تعبير بائس وتجاعيد محفورة على الجباه المقطبة وممتدة على الخدود لأسفل تحيط بالشفاه المضمووة، أما العيون ذات البريق المنطفئ فيبرق فيها بين الحين والحين وميض ساخط محمل بسؤال استنكاري، حاولت بفراستي مرارا فض السؤال فوجدته في كل مرة هو هو نفسه السؤال المعلق برأسي منذ سنين طويلة، سؤال يجأر بداخلي قائلا: هل يتقدم طابورنا ككل طوابير العالم خطوات إلى الأمام، أم هو في كل مرة يتقدم بن خطوة واحدة للأمام كي يتراجع بعدها خطوات إلى الوراء؟
----------------------------
* كاتب وأكاديمي من الكويت

-----------------------------------

          وقَـدْ عَـلِمَ الـقَبائِلُ مِنْ مَعَدّ
                                        إذا قُـبَّـبٌ بِـأَبْطَحِها بُـنِينا
          بِـأَنَّا الـمُطْعِمُونَ إذا قَـدَرْنا
                                        وأَنَّـا الـمُهْلِكُونَ إذا ابْـتُلِينا
          وأَنَّـاالـمَانِعونَ لِـمَا أَرَدْنا
                                        وأنَّـاالـنَّازِلُونَ بِحَيْثُ شِينا
          وأنَّـاالـتَّارِكُونَ إذا سَخِطْنا
                                        وأنَّـا الآخِـذُونَ إذا رَضِـينا
          وأنَّـاالـعَاصِمُونَ إذا أُطِعْنا
                                        وأنَّـا الـعازِمُونَ إذا عُصِينا
          ونَشْرَبُ إنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْواً
                                        ويَـشْرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وطِينا

عمرو بن كلثوم

 

 

سليمان الشطي*