مونولوج المرأة التي اكتشفت الأناناس (قصة مترجمة)

مونولوج المرأة التي اكتشفت الأناناس (قصة مترجمة)
        

          من كان يتوقع أن تصل بي الأمور إلى هذا الحد؟ لأنه من الغباء أن يُتخلى عني، - أليس كذلك؟ - مع ابن في العشرين من عمره، وهو مقبل على الزواج، ومع بنت في عامها السادس بعد العشرة، يلزم تزويجها هي الأخرى عما قليل.. لنقل بأنه لا يفصلني سوى زمن قصير عن أن أصير جدة! جدة! ولم أبلغ الأربعين بعد.. لكنه لم تظهر بعد في رأسي أي شعرة بيضاء! يمكنكم المجيء، بكل تأكيد، من أجل التحقق بأنفسكم من ذلك: إنني لا أصبغ شعري، وهذا هو لونه الطبيعي وليس صباغة. لا تظهر على وجهي أية تجاعيد فوق كل ذلك.

          قد تكون ثمة واحدة أو اثنتين فقط جنبي العينين. لكن الحياة هي التي أرادت ذلك. طالما حرصنا على مظهرنا، وبذرنا المال حد الإفلاس، في شراء الدهون والمراهم.. ثم قِطع الخيار الدائرية أثناء الصيف، والمخمر بالحامض خلال الشتاء، كل هذا ينعش قليلا، على كل حال. ثم إن ذلك يحدث أثرا حسنا وبالغا، لكن ليس كل يوم، بطبيعة الحال، لكنكم لن تزعموا العكس، فذلك يحدث أثرا طيبا وعظيما عندما يكون بوسعنا القول بأنه خلال ساعة أو ساعتين فقط، في خضم ساعة أو ساعتين لاتكادان تذكران، سيكون بمقدورنا معاودة الأمر من جديد، أي كل شيء، انطلاقا من الصفر: الحب، الزواج، بما فيه شهر العسل-كل هذا لا يعني أي شيء بالنسبة إليكم، أليس كذلك؟

          آه، كل أحاسيس الحمل الأولى كلها، أظن أنني لن أنساها أبدا! شرع قلبي يخفق خفقانا شديدا، بومْ - بوم، بوم - بوم، خيل إلي أنه سوف يقفز خارج صدري. أما أنا فقد نسيت نفسي، وكاد أن يغشى علي. من شدة الفرح.. ومن الهلع أيضا. ثم، تساءلت بيني وبين نفسي، في اللحظة ذاتها، أيّ اسم سنمنح له. لأنني علمت في الحين بأنه طفل. كما لمحت في لحظة خاطفة، وجهه الصغير، شفتيه الصغيرتين، ذقنه الصغير وأصابعه الصغيرة والرفيعة جدا. أنظر إليه وهو ملتصق بي، متعلق بصدري ومنشغل بالرضع بشراهة.. حتى أنني أستطيع أن أشم، في هذه اللحظة، رائحته، رائحته الخاصة به، رائحته التي سوف أستطيع أن أستنشقها يوما ما كما هي. فاللائي خبرن هذا الأمر سوف يفهمنني. لم يكن حملي، مع ذلك، سهلا، فقد كنت أُصاب بالغثيان طيلة الوقت، ليل نهار. كنت شرسة مع الجميع. كنت أقول في نفسي بأن الأمر سوف ينتهي بزوجي إلى ألا يطيقني، وبأنه سوف يتركني ويغادر، طالما كنت غير محتَملة. لست أدري لماذا كنت هكذا، ولا أستطيع حتى تفسير ذلك. أما هو، فقد بات يمقتني بغتة. وأنا، كبلهاء، كنت عاجزة عن أن أقول له أي شيء-ولو حتى أنني أحبه، كي أهدئ من روعه قليلا. فيما يخص هذا الأمر فقد أحببته! أحببته، إلى درجة أنه لو جعل سوءُ الحظ ابنَه لايشبهه لعمدت إلى قتله! هل تتصورون ذلك؟ أن تقتل ابنا من صلبك لو جعله سوء الحظ مختلفا عن أبيه! لكن ذلك كان عهدي الأول بالحب، كنت غريرة، غير كيسة بعد كما ينبغي. إذ كنت، ببساطة، مبتهجة بكوني محبوبة.

          شاهدت ذات يوم على التلفاز إشهارا لعصير فاكهة - فاكهة غريبة، ضخمة، صفراء، وأوراقها مرتفعة إلى أعلى، واشتهيتها هكذا، بشكل جنوني، دون أن أعرف حتى بماذا نسمي هذه الفاكهة، ودون أن أدرك أيضا أين تنبت. كان ذلك أقوى مني: يجب أن يؤتى لي بها أو سوف أُصاب بشيء! تلفنت إلى زوجي في مقر عمله- العمل الذي حصل عليه المسكين بعد دفعه لرشوة هائلة، وحيث لا يتقاضى، في الواقع، راتبا مهما، ولكنهم يقولون له إن آفاقا مستقبلية سوف تفتح له. فإذا بي أعمد إلى الانتحاب عبر الهاتف، وألح عليه أن يعثر لي على تلك الفاكهة؛ يسألني: أية فاكهة؛ وأشرح له: التي تتخطى أوراقها إلى أعلى، مثل سلحفاة مقلوبة. فإذا به يتضايق، ويعدد لي كل فواكه الأرض. لا، أردد له، ليس هذا، ليس ذاك، وأجهش بالبكاء: لا، لا، ولا! وأنبح في العمارة مثل كلبة جائعة. أما هو فقد أقفل الخط، وهرول إلى السوق، وتفقد بَسطات الفواكه كلها، وهو يفتش عن «سلحفاة مقلوبة»،  لم يعثر عليها وأسرع إلى البيت لكي يرافقني إلى السوق حيث اكتشفت بنفسي، مثل بلهاء تعسة، بأن هذه الفاكهة المنحوسة غير موجودة. لكنني ظللت أزعق، وبصوت مرتفع: «ولكن لا بد أن توجد هذه الفاكهة في مكان ما كي تظهر على التلفاز!» لقد قضى المسكين الأمسية كلها متذمرا أمام التلفاز، شاحبا مثل ميت. لم يعرضوا مع الأسف  فاكهتي، هذا المساء، في قائمة الإشهار. لم يعيدوا عرضها إلا في صباح اليوم التالي وسط شريط سينمائي. فقفزت وتلفنت له في مكتبه مخاطبة إياه:

          - شغّل التلفاز فهو يعرض الفاكهة التي أريدها! ثم يشغله المسكين (صحيح أنني كنت جد مغرمة به حينها!)، لكنه أثناء بحثه عن القناة المعنية، انقضى الإشهار، غير أنني تمكنت هذه المرة من ضبط اسم تلك الفاكهة، اسم غريب: أناناس. لن أنسى أبدا اسما مماثلا، بقدر ما هو ملتو فهو ممتع في الآن نفسه: أ-نا-ناس. لقد تمكنَ أن يحصل، بفضل أصدقاءَ له، بطبيعة الحال، على علبة من ذلك العصير الذي أعلنوا عنه في التلفاز، وحتى على أناناس حقيقي. لكنه بدا لي بلا طعم بالمقارنة مع فكرتي التي نسجتها عنه في ذهني.

          أحببته مع ذلك، هذا صحيح لقد أحببته.. أتعلمون ما تعنيه.. حفاظات الرضع، الكلمات الأولى.. أما هو فقد كان نشوانا، وحصل له انطباع بأنه يملك أجمل أسرة في الكون: طفل يثغثغ، «أررره أررره»، ثم دار الحضانة، المدرسة، طفل ثان، وهذه المرة بنت.. بنت أبيها. سررت بكوني ولدتها، لأنه قبيل ولادتها، بدأ يتزعزع شيء في عشنا الصغير. لا أستطيع أن أقول لكم بماذا يتعلق الأمر تحديدا، لكن.. ذلك النوع من البرود، تعلمون، هذا البرود الذي نحس به بالكاد، ولكنه يعتصر قلوبنا مثل تيار هواء ينتهي به المطاف إلى أن يجمد دماءنا. هذا البرود الذي نستشعره بالكاد في البداية، يعمد إلى التضييق على وجودنا الذي كان من قبل هشا. إلى حين ظهور «تيار الهواء» ذاك، كان لدي انطباع برغبتي في أن أكون سعيدة أيضا قدر الإمكان، لم أستطع أن أفهم لماذا تبكي صديقاتي طوال الوقت، كنت في ذلك العهد أظن بأن بمقدورنا أن نحل كل المشكلات، وأنه يكفي من أجل ذلك أن نتحاب كثيرا، مثلما كان ذلك حالنا نحن الاثنين. أليس ذلك مضحكا، ليس صحيحا؟ «يكفي أن نتحاب.. » كم نكون سذجا بقدر كبير عندما نكون سعداء، ونظن بأن كل مشكلات العالم سهلة الحل. أما اليوم فالأمر جد صعب، صار كل شيء معقدا بشكل رهيب، وصرت غالبا أتذكر أكثر فأكثر صديقاتي اللائي يبكين-كما كان يخيل إلي- بسبب ترهات.

          وُلدت ابنتنا أخيرا، كما قلت لكم. لقد تطلب منا أن نجد اسما لها زمنا طويلا. أراد زوجي أن نسميها باسم مجهول هنا. لا يزال صوته يتناهى إلي وهو يعلن اسمين دخيلين، أجنبيين ولكنهما جميلان: لورا وجيوليتا، فكرت في الثاني. كان أبوا كل واحد منا وأخواته وإخوانه بالمرصاد جميعهم لنا. وتبادر إلينا بأنه سيكون للآخرين كلهم الموقف نفسه منا: تعرفون بأن الأهالي يرفضون أي نوع من التجديد. هذان الاسمان يروقان لي مع ذلك، غير أنني لست قادرة على التأثير في أحد، ولم يستطع زوجي هو أيضا أن يعترض على والدينا، لذلك خلصنا إلى تسمية ابنتنا «مدينة» بكل بساطة-ومدينة اسم جد منتشر في بلدتنا.

          تحل المصيبة دائما حيثما لا نتوقعها. مثل لص متربص في زاوية من الحي وعلى كتفه هراوة، في المساء الذي تعود فيه إلى بيتك بيدين محملتين بالهدايا. الشيء تفسه بالنسبة لتيار الهواء. ماذا قلت، تيار هواء، إعصار، نعم! أو بالأحرى، لا، قولوا لي شيئا آخر أكثر تدميرا: تسونامي هائل! زلزال بقوة 12 درجة على سلم ريختر! لا شيء أقوى، وأكثر إتلافا، أليس كذلك؟ لا شيء، لا. إذاً نعم، تصوروا! شابة، شابة جد صغيرة،  تلميذة شاحبة في الصف النهائي، بوجه إنجليزية ناعم، قادرة على أن تجن أي رجل من كل فئات الأعمار. بعدما هدأت العاصفة، وحُطم كل شيء رأسا على عقب، علمت حينها فقط أين التقيا، من تكون هي. ولماذا فعلت هذا. في الواقع، أتعلمون؟ لن تحزروا أبدا. «فقط لكي أجرب!» بهذا أجابتني، في اليوم الذي طرحت فيه عليها السؤال.

          جعل مني زوجي امرأة محطمة، قبل أن يختفي دون أن يخلف أثرا، ترك عمله، وأبدى كرها تجاه ابنيه، وألقى بأسرته في البؤس والإحراج.. لن أقول شيئا عن سكره-فهم، فوق كل هذا، يشربون جميعهم-، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يغرق في الديون، قبل أن يختفي دون سابق إعلام. اختفى أب عائلة في الدنيا، وأهمل أهله، فقط وببساطة، لأن ذلك يهم أحدا، هكذا «فقط لكي أجرب»!

          رأيت هذه البنت من جديد بعد مدة، لقد عرفتني ولكنها تظاهرت بأنها لم تعد تذكرني. عندما سألتها أين هو، أجابتني دون أن تتململ، وقد مررتْ أصبعا على جبهتها: «لم يُكتب هنا استعلامات!» انفجر الأشخاص الذين كانوا بمعيتها ضحكا، قلت في نفسي بأن هذه الغبية لم تستطع حتى أن تستبقيه لها. قلت ذلك لنفسي، لم تكن لتفهم على كل حال. أي إشفاق هذا بالرغم من ذلك!.
-------------------------
* كاتب من طاجكستان.
** مترجم عربي مقيم في باريس

--------------------------------------

          وإنَّـا سَـوْفَ تُدْرِكُنا المَنايَا
                                        مُـقَـدَّرَةً لَـنـا ومُـقَدَّرِينا
          قـفِي قَـبْلَ التَّفَرُّقِ يا ظَعِينا
                                        نُـخَبِّرْكِ الـيَقِينَ وتُـخْبِرِينا
          قِفِي نَسْأَلْكِ هَلْ أَحْدَثْتِ صَرْماً
                                        لِـوَشْكِ البَيْنِ أَمْ خُنْتِ الأَمِينا
          بِـيَوْمِ كَـرِيهَةٍ ضَرْباً وَطَعْناً
                                        أَقَـرَّ بِـها مَـوَالِيكِ العُيُونا
          وإنَّ غَـداً وإنَّ الـيَوْمَ رَهْنٌ
                                        وبَـعْدَ غَـدٍ بِـما لا تَعْلَمِينا

عمرو بن كلثوم

 

 

بارزو عبدوالرزوقوف*