بَرَكَة محمَّد.. شاعرٌ لم يَتُبْ عنْ قَرْض الشِّعر

بَرَكَة محمَّد.. شاعرٌ لم يَتُبْ عنْ قَرْض الشِّعر
        

          السيد الدكتور سليمان إبراهيم العسكري، رئيس تحرير مجلة العربي الغراء، تحية طيبة وبعد، فقد قرأتُ باهتمام مقالةَ الأديب الكبير وديع فلسطين، المنشورة في العدد (643) يونيو 2012م، والتي حملتْ عُنوان: التائبات عن قَرْض الشِّعر. ويتضحُ من المقالة اعتناءُ الأستاذ وديع فلسطين بتراث الشاعر الراحل أحمد زكي أبو شادي (ت 1374هـ - 1955م)، فإن الشواعرَ اللاتي تُبْنَ عن قَرْض الشِّعر كلُّهنَّ نَشَرْنَ أشعارهنَّ في مجلة أبولو، هذه المجلَّة التي أسَّسَها ورَعاها وأنفقَ عليها الشاعرُ الدُّكتور أحمد زكي أبو شادي. ولا أعلمُ أحدًا أشدَّ إخلاصًا ووفاءً وحبًّا لأبي شادي وتراثِه كالأستاذ وديع فلسطين والدُّكتور محمد عبدالمنعم خفاجي (ت 1427هـ - 2006م). وقد لقيَ شعرُ أبي شادي إهمالًا من نُقَّاد عصرِه، ولم تقُمْ عليه إلا دراساتٌ نادرة، أبرزُها وأهمُّها دراسةُ الدُّكتوراه للشاعر الدُّكتور كمال نشأت (ت 1431هـ - 2010م)، والتي نوقشتْ في كلية الآداب بجامعة عين شمس في 8 من يونيو عام 1965، ونُشرت في عام 1967. وليتَ المجلس الأعلى للثقافة في مصر - أو أي مؤسسة ثقافية أخرى - يتولَّى مهمَّةَ جمعِ دواوينِه وينشرُها فيما يُعرف بالأعمال الشعرية الكاملة، فدواوينُه تزدادُ ندرةً كلما مرَّت السنون. ويكفي أن نعرف أنَّ لأبي شادي ثلاثةً وعشرين ديوانًا باللغة العربية، لا يتوفَّر منها ديوانٌ واحدٌ في سُوق الكُتُب، بل إن المكتبات الوطنية - كدار الكتب المصرية مثلًا - لا يوجدُ بها بعضُ هذه الدَّواوين. وكلَّما تذكَّرتُ أنَّ ديوانه (عودة الرَّاعي) طُبع منه خمسون نسخةً فقط في سنة 1942 تحسَّرتُ عليه!! إذْ كيف يحصُلُ عليه الباحثون ومحبُّو أبي شادي؟

          ذَكر الأستاذ وديع فلسطين أن هناك خمسَ عشرة شاعرةً تُبْنَ عن قَرْض الشِّعر، بيدَ أن المذكور في المقالة أربعة عشر اسمًا، ليس كلُّها أسماءَ شواعر، بل فيها اسمُ أحدِ الشعراء، ظنَّه الأستاذ وديع شاعرةً، يتضحُ هذا في قوله: «وحظوظُ شاعراتِ أبولو تتفاوتُ، فهناك شاعراتٌ اقتصرنَ على نشر قصيدةٍ واحدةٍ مثل بَرَكَة محمَّد». وبَرَكَة محمَّد ليس شاعرةً بل شاعرٌ له ديوانٌ مطبوع. ولعلَّ تاء التأنيث هي التي خدعتْ الأستاذ وديع، فظنَّ صاحبَ هذا الاسمِ أنثى، فبعضُ الإناثِ يحملنَ هذا الاسم. وكان من الممكن ألا يُخدع الأستاذ وديع في أنثويَّة هذا الاسم لو أنه لاحظَ أن المجلَّة في فهرسها تكتبُ كلمة (الآنسة) قبل أسماء الإناث، وكنَّ في مُقتبل شبابهنَّ آنئذ.

          وقدْ فاتَ الأستاذ وديع ذِكْرُ شاعرةٍ من شواعر أبولو، وهي مَلَكَة محمود السراج، وقد نُشر لها قصيدتان، إحداهما في عدد مايو 1934، وهي مُقطَّعة بعُنوان: يا هاتف الشعر، وعِدَّتُها ستة أبيات فقط. والأخرى في عدد يونيو 1934، وهي بعُنوان: ليالي مَلَكَة.

          أما الشاعر (بَرَكَة محمَّد) فقدْ وُلد في سنة 1310هـ - 1892م، في بني سويف، بصعيد مصر. وله ديوانٌ وحيد، بعُنوان: ديوان بَرَكَة، طُبع في مطبعة الوِفاق ببِلْقاس، (محافظة الدقهلية- مصر)، سنة 1353هـ - 1934م. وكان آنئذٍ يعملُ في بِلْقَاس، إذ إنه تنقَّل بين مدنٍ كثيرةٍ بسببِ عملِه في مصلحة التلغرافات والتلفونات المصرية. والديوانُ في 162صفحة. وقد كَتب غِلافَ الديوانِ الخطَّاطُ الفنَّان: محمَّد حسني (ت 1389هـ - 1969م). وكُتب على الغِلاف الخارجي للديوان بيتانِ قرَّظَ بهما الشاعرُ حسن القاياتي (ت 1377هـ - 1957م) ديوانَ بركة، وهما:

رُوَيْدَكَ رَبَّ البَيَانِ المجِيدْ
                              فَتَنْتَ القَدِيمَ وفُتَّ الجدِيدْ
جَمَالٌ مِنَ الشِّعْرِ لا يُسْتَطَاعُ
                              كَمَا أُرْسِلَتْ قُبْلَةٌ في البَرِيدْ

          وفي هذه السنة - 1934 - صدرتْ الدَّواوينُ الأولى لشعراءَ كثيرين كانوا في مُقتبل حياتِهم الأدبية آنئذ، مِنْ هذه الدَّواوين: الملاح التائه لعلي محمود طه (ت 1369هـ - 1949م)، ووراءَ الغمام لإبراهيم ناجي (ت 1372هـ - 1953م)، والجزء الأول من ديوان صالح جودت (ت 1396هـ - 1976م)، والإصدار الأوَّل من ديوان محمَّد مصطفى الماحي (ت 1396هـ - 1976م)، وظِلال القَمَر لأحمد مخيمر (ت 1398هـ - 1978م)، والألحان الضائعة لحسن كامل الصيرفي (ت 1404هـ - 1984م).

          ولم يكد ينتهي هذا العام حتى وَجَدْنا محمود حسن إسماعيل (ت 1397هـ - 1977م) يُصدر أوَّلَ دواوينِه (أغاني الكوخ) في 1/ 1/ 1935. وفي يناير أيضا من العام نفسِه صدر ديوان (الشاطئ المجهول) لسيِّد قطب (ت 1386هـ - 1966م)، وهو الدِّيوانُ الأوَّلُ والوحيدُ الذي أصدره سيِّد قطب في حياته. وفي العام نفسِه صدر الديوانُ الأوَّلُ لعبدالعزيز عتيق (ت 1396هـ - 1976م) (أحلام النخيل).

          ولكنْ لم تُكتب الشُّهرة والذُّيوع لبَرَكَة محمَّد كما كُتبتْ لهؤلاء الشعراء، ربما لكونِه يُقيم خارجَ القاهرة، ولكونِه أيضًا لم يُصدر سوى ديوانٍ واحدٍ في حياته كلِّها، وربما يكون عدمُ نشرِه قصائدَه في صحف ومجلات عصرِه مِنْ بينِ أسبابِ عدمِ شهرتِه.

          أمَّا المقطَّعة المنشورة لبَرَكَة محمَّد في مجلة أبولو فقدْ نُشرت في عدد مارس 1934م، وهي أربعةُ أبياتٍ فقط، وتحملُ عُنوان: الذئب والجدْي، وهذه الأبياتُ الأربعةُ نُشرت في ديوان الشاعر أيضًا في صفحة 139، بالعُنوان نفسِه.

          ويضمُّ الدِّيوانُ أكثرَ من ألفَيْ بيت، وبالتحديد ألفينِ ومئةً وواحدًا وثلاثين بيتًا، بالإضافة إلى ثلاث مُوَشَّحَات، وقد أهدى الشاعرُ ديوانَه إلى روحِ أميرِ الشعراءِ أحمد شوقي (ت 1351هـ - 1932م)، يقولُ في إهدائه:

إلى رُوحِكَ السَّمْحَاءِ أُزْلِفُ دِيوَاني
                              صَرِيحٌ بِه حُبِّي وعَهْدِي وإِيماني
قَوافيَ مِنْ قلبٍ خَلا مِنْ شَوائِبٍ
                              كَنَبْتِ القَوافي الغَضِّ أوْ ماءِ هَتَّان
بَدائِعَ إِلهامٍ، قُطُوفَ قَرِيحَةٍ
                              أَزاهِرَ إِحْساسٍ، عُصَارَةَ وِجْدان
لِيَحْظَى قَبُولًا في حِمَى رُوحِكَ التي
                              يَدِينُ لَها مُلْكُ القَرِيضِ بإِذْعان
فقَدْ كُنْتَ في العَهْدِ الحدِيثِ كَمُرْسَلٍ
                              بِدِينِ القَوافي لِلْقَصِيِّ ولِلدَّاني
عَلَيْكَ سَلامُ اللهِ مِنْ كُلِّ شاعِرٍ
                              ومِنْ كُلِّ بَيْتٍ في القَصِيدِ وأَوْزان

          وقد قسَّم الشاعرُ ديوانه إلى ستة أقسام، هي: إلهيَّات، نَبَوِيَّات، الولاء للسُّدَّة العَلِيَّة الملكيَّة، التهاني، المراثي، شئون شتَّى. وفي آخر الديوان تقاريظ له ولصاحبه، منها بيتان بعنوان (شاعر فذّ) لمحمَّد الهرَّاوي (ت 1358هـ - 1939م)، وقصيدة بعنوان (رسالة الشاعر) لأحمد زكي أبي شادي.

          وللشاعر قصائد في موضوعات عصرية، مثل قصائده التي حملت هذه العناوين: نهضة المرأة المصرية، فتاة تُؤْثر إتمام علومها على أن تقترن، كرة القدم، ملجأ الأيتام، المذياع، المتبرِّجة.

          وللشاعر قصيدتانِ منشورتانِ في كتاب (دموع البِلْقاسِيِّين في مأتم الفقيد العظيم سعد زغلول باشا) لجامعَيْه وناشرَيْه: أحمد وافي، والبِيَلي علي الزيني. والكتابُ ليس عليه تاريخُ الطبع، لكنه طُبع بعد وفاة سعد زغلول (ت 1346هـ - 1927) بأشهر قليلة، أي أنه طُبع في أواخر عام 1927. وكَتب غِلافَ هذا الكتاب الشاعرُ الخطَّاط الفنَّان: سيِّد إبراهيم (ت 1414هـ - 1994م).

          وهاتانِ القصيدتانِ غيرُ منشورتينِ في الديوان، والقصيدة الأولى منهما عِدَّتُها عشرةُ أبيات، ومطلعُها:

إِنْ كانَ سَعْدٌ مَضَى فالذِّكْرُ يُرْجِعُهُ
                              ما ماتَ مَنْ ذِكْرُهُ صَوْتٌ نُرَجِّعُهُ

          والقصيدة الثانية عِدَّتُها اثنانِ وعشرون بيتًا، ومطلعُها:

هاتِ الرِّثاءَ مِنَ الآياتِ والسُّوَرِ
                              حتَّى تُوَفِّيَ سَعْدَ النِّيلِ ذا الخَطَرِ

          ويبدو أن بَرَكَة محمَّد كان خطيبًا مُفَوَّهًا، إلى جانبِ كونِه شاعرًا، حيث نجدُ جامعَيْ كتاب (دموع البِلْقاسِيِّين) يقدِّمانِ قصيدةً له بقولهما (ص76): «لحضرة الشاعر المجيد والخطيب اللبِق بَرَكَة أفندي محمَّد»، ولعلَّه كان يخطبُ في المناسبات الدينية الوطنية.

          وللشاعر ترجمةٌ موجزةٌ في (مُعجم البابطين لشعراء العربيَّة في القرنين التاسع عشر والعشرين)، وقدْ رحلَ بَرَكَة محمَّد عن دُنيانا في سنة 1388هـ - 1968م، رحمه الله، ورحم جميعَ شعرائِنا المغمورين والمشهورين.

          وفي المقالة مواضعُ أخرى تحتاجُ إلى تحريرٍ ومراجعةٍ، وهي كالآتي:

          - ذَكر الأستاذ وديع فلسطين أن إقبال بدران نُشر لها قصيدتان، والصواب أن لها قصيدةً مترجمة نثرًا عن (فيكتور هوجو، ت 1885م) في عدد يناير 1933، والقصيدة التي ترجَمتْها بعُنوان: الطفل النائم. ومقالةً عن (جون كِيتْس، ت 1821م) في عدد فبراير 1933.

          - ذَكر أن بُشرَى السيد أمين - كُتبتْ في المقالة ياسين، وهو خطأ- نُشر لها أربع قصائد، والصواب أربع مقالات، وهي وَفْقَ ترتيب نشرِها: المديح والشكوى والرثاء في شعر حافظ: عدد يوليو 1933. بشَّار بن بُرْد أخلاقُه من شعره: عدد سبتمبر 1934. القوَّة والضعف في الشعر الحديث: عدد نوفمبر 1934. الشاعر يُناجي مصدرَ إلهامِه (نص أدبي نثري يُشبه كتابات مصطفى صادق الرافِعي ت 1356هـ - 1937م): عدد ديسمبر 1934.

          - ذَكر أن للشاعرة جميلة العلايلي (ت 1411هـ - 1991م) سبع قصائد منشورة في مجلة أبولو، ولكنْ بمراجعة المجلة تبيَّن أن لها خمسَ قصائد وثلاث مقالات. والقصائد وَفْقَ ترتيب نشرها في المجلة: الساحر، عدد أبريل 1933. حُبُّ المُحَال، عدد سبتمبر 1933. الرُّوح الظامئ، عدد أكتوبر 1933. السجينة، عدد نوفمبر 1934. إلى أمي، عدد ديسمبر 1934. أمَّا المقالاتُ فهي: الفنون الجميلة، عدد أبريل 1933. طيف الرَّبيع، عدد مايو 1933. المرأة والشِّعر العاطفي، عدد يناير 1934.

          - ذَكر أن ز. السنوسي نُشر لها قصيدة واحدة، بينما نُشر لها مقالة - وليس قصيدة - بعُنوان: الأدب في نظر ابن رشيق، عدد ديسمبر 1933.

          - ذَكر أن زينب الرُّوبي نُشر لها قصيدتان، والصواب أن لها مقالتين وليس قصيدتين، أولى هاتين المقالتين بعُنوان: الكاظِمي في شيخوخته، منشورة في عدد فبراير 1934. وثانية هاتين المقالتين بعنوان: الحديقة، وهي عَرْضٌ للجزء الثاني عشر من مجموعة (الحديقة) التي كان يُصدرها محبُّ الدِّين الخطيب (ت 1389هـ - 1969م)، منشورة في عدد نوفمبر 1934.

          - ذَكر أن زينب سليم نُشر لها قصيدة واحدة، والصواب مقالة واحدة، وقد نُشرتْ هذه المقالة اليتيمة في عدد يوليو 1933، وهي بعُنوان: المرأة في شعر حافظ.

          - ذَكر أن سنيَّة العقاد نُشر لها قصيدة واحدة، والصواب أن لها قصيدتين: أولاهما بعُنوان: العهد الضائع، وهي مُقطَّعة عِدَّتُها ستة أبيات فقط، منشورة في عدد مايو 1934. وثانيتُهما بعُنوان: انتحار الشمس، وهي أيضا مُقطَّعة في ستة أبيات، منشورة في عدد يونيو 1934.

          - ذَكر أن فاطمة خليل إبراهيم نُشر لها قصيدة واحدة، والصواب مقالة واحدة، وقد نُشرت هذه المقالة في عدد مايو 1934، وهي بعُنوان: الغزل في الشعر الجاهلي.

          - وردتْ كلمةٌ خطأً في بيت للدكتورة سهير القلماوي (ت 1418هـ - 1997م)، وذلك في قولها:

إيهِ يا أختاهُ، يا أختَ الشَّقاءْ
                              هلْ سئمتِ الحبَّ فينَا والثَّوَاءْ؟

          حيثُ وردتْ كلمة (فينا) في المقالة: (ميتًا)، والتصويب من المجلة، عدد مارس 1933.

          - وفي المقالة خطأ - لعلَّه مطبعيٌّ - وهو: زوجة القِلِّيني، والصواب: رَوْحِيَّة القِلِّيني، وهي شاعرة مصرية معروفة (ت 1401هـ - 1980م).

          وبهذا تخرجُ إقبال بدران، بشرى السيد أمين، ز. السنوسي، زينب الرُّوبي، زينب سليم، فاطمة خليل إبراهيم، - مِنْ شاعرات أبولو التائبات عن قَرْض الشعر. ويخرجُ معهنَّ الشاعر بَرَكَة محمَّد. ويبقى من الخمس عشرة شاعرة ثماني شاعراتٍ فقط، هنَّ: جميلة العلايلي، حِكْمَتْ شَبارَة (ت 1416هـ - 1995م)، رَباب الكاظِمي (ت 1419هـ - 1998م)، ز. يسري، سنيَّة العقاد، سهير القلماوي، ماري عجمي (ت 1385هـ - 1965م)، مَلَكَة محمود السراج.

          إذن شواعر أبولو التائبات عن قَرْض الشعر ثماني شاعراتٍ، وليس خمس عشرة شاعرة.

          وإذا أردنا أن نُفسِّر هذه الأخطاءَ فإننا نتخيَّلُ الكاتب الفاضل قدْ نظر في فهارس أبولو واستخرج منها أسماءَ الإناث، دون أن يُعنَى بنوع المادَّة المنشورةِ لهنَّ.

          وختامًا، أجدُني في غاية الحرَج حين أعلِّق على أستاذنا الكبير وديع فلسطين، ولكن تصويب هذه المعلومات أمرٌ حَتْمٌ للتاريخ وللباحثين، بصرف النظر عن كاتبها أو المعلِّق عليها.

محمد أحمد المعصراني
القاهرة - مصر