آفاق مـن الشعر الكويتي

آفاق مـن الشعر الكويتي

من ذلك الصراع بين التقليدية والرغبة في. التجديد انطلقت القصيدة الكويتية كتعبير عن التوحد الإنساني والرغبة في التحرر.

حين الحديث عن الحركة الأدبية والشعرية في الكويت، يستحضر الباحث - ولاشك - الجهود السابقة التي اجتهدت في تقييم ورصد هذه الظاهرة في بقعة صغيرة تجاهد ظروفها الصعبة وزماناً تراوح بين الخمول والزخم. وما كان ذلك الزمان في تقدير الباحثين يزيد على قرن ونصف - إن لم يقل عن ذلك بعقود معدودة - من المراوحة بين تقليدية مسرفة وتجديدية متلكئة أو متمردة. أما تقسيم أولئك الباحثين لتاريخ الحركة الأدبية والشعرية إلى فواصل زمنية وفترات حسابية، فقد أتى لتسهيل وتيسير البحث ليس إلا، واختلافهم في الآراء حول حدود تلك الفترات ومشارف أزمنتها وأثر شخوصها لا يعد اختلافاً جوهرياً يعيق الفهم أو التقدير.

يستطيع المستشرف لتلك الدراسات والجهود أن يضع إصبعه بسهولة على حقيقة مفادها أن تاريخ الحركة الأدبية والشعرية في الكويت بدأ بطور تقليدي نمطي يحاول محاكاة النماذج التراثية في أغراضها وبخاصة المديح والشعر الديني، وإن كان يكبو في معظم نماذجه في شراك الصرامة الأسلوبية والصنعة المفتعلة. وهذا الطور يمثله عبدالجليل الطبطبائي (1776م-1853م) وتلاميذه. ثم يتلو هذا الطور شعر (وهو الجنس الأدبي الوحيد حينذاك) اهتم بالتفاعل مع اهتمامات المجتمع ومشكلاته (خالد عبدالله العدساني ت 1898م). وهذا بحد ذاته مؤشر مهم على بوادر روح تجديدية تجلّت أيضاً في الجنوح أحياناً إلى تمثل لغة الواقع الاجتماعي ولهجته المحلية جنباً إلى جنب مع اللغة الفصحى (عبدالله الفرج ت 1901م).

أما الطور الثالث، فقد تميّز عن سابقيه بتواكب الثقافة مع الشعر. ولعل الثقافة وانفتاح المجتمع المغلق على آفاق التعليم والصحافة والفكر التنويري والوعي السياسي تأتي كلها لوازم مهمة لرفد الشعر بدماء التجدد ومسايرة حياة أكثر تطوّراً واستجابة لطموحات الإنسان وآماله. ولذلك لا يمكن أن ننتقل إلى الحديث عن أثر خالد الفرج (1898م-1954م) أو صقر الشبيب (1894م-1963م) أو فهد العسكر (1913م-1951م) ومن تلاهم في مسيرة الحركة الشعرية دون التنويه إلى علامات وتواريخ لافتة كانت ولاتزال موضع اهتمام وحفاوة المؤرخين لحركة التاريخ والمجتمع والثقافة في الكويت. إذ تظل أحداث ثقافية مهمة مثل: افتتاح أول مدرسة نظامية وهي المباركية (1911م)، وإنشاء المكتبة الأهلية (1923م)، وتأسيس النادي الأدبي (1924م)، وإرسال أول بعثة طلابية إلى العراق (1925م)، وصدور أول مجلة وهي مجلة الكويت (1928م)، إلى جانب أحداث سياسية أخرى لا تقل أهمية تؤرخ لحياة ديمقراطية مبكرة مثل قيام المجلس الاستشاري (1921م) والمجلس التشريعي (1938م)، تظل كل هذه الأحداث علامات مميزة في مسيرة مجتمع صغير يسعى نحو الانفتاح واللحاق بركب الحياة المتطورة.

الانفتاح على العالم

في إطار هذا العرض العام لملامح التغيّر والحراك الثقافي والسياسي، لا يستطيع المتأمل أن يهمل حقيقة مفادها أن هذه الأحداث العامة لا يمكن أن تؤتي أكلها بين ليلة وضحاها، وإنما الواقع يقول إن المجتمع حينذاك ظل يراوح بين يقظة وخمول، وبين تطلع وتقليدية محافظة. وظل يشتمل في تركيبته الاجتماعية والبشرية على طبقة نالت حظاً من التعليم والانفتاح على العالم الخارجي من خلال السفر والمطالعة والخبرات الشخصية، وطبقة بقيت في حدودها الدنيا مطوّقة بالشظف ورقة الحال والرضى بحياة متقشفة مغلقة لا تعرف غيرها وبكدح يومي وراء لقمة عيش لا تسد الرمق. ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا بأن الطبقة الأولى كانت تمثل طبقة التجار ووجهاء القوم وأعيانها. وهؤلاء يشكلون نخبة قليلة كانت تراودها طموحات الهم الثقافي أو آمال التنافس على مواقع سياسية مؤثرة، بينما ظلت الطبقة الثانية منكفئة على العوز والقناعة ومغالبة كدحها اليومي حتى خمسينيات القرن العشرين وبدء عهد الوفرة الاقتصادية وتأسيس المجتمع المدني بعد اكتشاف النفط. ولعل انكفاء المجتمع في النصف الأول من القرن العشرين على التقليدية والتخلف رغم بدء بوادر التنوير يتضح أيضاً في ذلك الفارق الزمني الذي يفصل بين افتتاح أول مدرسة للبنين وأول مدرسة للبنات، وهو فارق ينوف على ربع قرن من الزمان! مما يشي بسطوة الفكر والسلوك التقليدي المحافظ، والتلكؤ في تقبل الطوارئ من المتغيرات، ويشي كذلك بخصوصية محلية ذات طابع لا تخطئه العين.

بل إن الحديث عن أثر زيارات المصلحين ورجال التنوير العرب والمسلمين للكويت كمحمد رشيد رضا وحافظ وهبة والثعالبي، وكذلك الحديث عن أثر الصحافة العربية التي ما كانت تفد إلى الكويت إلا لماماً ولا تصل إلا إلى أيدي نخبة من المتعلمين، ربما لا يزيدون على العشرات، هذا الحديث المكرر يظل - غالباً - ذا أثر محدود، بل ربما لا يجانبنا الصواب إذا قلنا إنه حديث مبالغ فيه حين اتخاذه مؤشراً على رصد حركة الواقع الاجتماعي. إن طبيعة المجتمع الكويتي وخصوصيته وملامحه الفارقة المتجذّرة لا يمكن أن تتلوّن وتتذبذب بمجرد وفود مصلح قضى مدة لا تتجاوز أسبوعاً في حلقات المساجد، أو بقراءة صحيفة تتحدث عن الواقع السياسي المصري أو العراقي وترصد مشاهدهما الاجتماعية والبيئية. فالأمر لا يتم بهذه البساطة البعيدة عن المعايشة والتفاعل. ويكفي أن مجلة رائدة مثل مجلة الكويت التي أصدرها عبدالعزيز الرشيد عام 1928م، لم يكتب لها البقاء أكثر من عامين اثنين، إذ توقفت عن الصدور عام 1930م بسبب جملة من الظروف المادية والاجتماعية التي كانت تتراوح بين رفع وخفض. يقول يعقوب يوسف الحجي في كتابه:( الشيخ عبدالعزيز الرشيد/سيرة حياته) بصدد الحديث عن الواقع الاجتماعي في مطلع الثلاثينيات:

(كان عام 1932 وهو العام الذي وصل فيه الشيخ عبدالعزيز إلى الكويت عام بلاء ومحنة بالنسبة للكويت. فقد انتشر فيها مرض الجدري، وقضى على الكثير من الرجال والنساء والأطفال، حتى أن الصحف العراقية والأندونيسية والسنغافورية التي تناقلت هذا النبأ ذكرت أن ما يقدر بحوالي خمسة آلاف ضحية أصابها هذا المرض في الكويت).

(كذلك كانت الحالة الاقتصادية في الكويت سيئة، فقد كانت حرفة الغوص على اللؤلؤ في الكويت تعاني من الكساد ومن آثار الأزمة الاقتصادية العالمية، حتى أن بعض رجال الكويت وشبابها سافروا إلى العديد من بلدان الخليج سعياً وراء الرزق، فيما بدأ بعض تجار هذه الصناعة يواجهون خطر الإفلاس.

أما عن الناحية الاجتماعية، فلم يحدث تغيّر ملموس فيها. فالجمود العقلي والتخلف الديني والتعصب الشديد مازال يسيطر على الكثير من الناس في الكويت. ولم تزل لأقطاب هذه الحالة الكلمة المسموعة عند بعض رجالات الكويت وتجّارها. ولم تعد هناك من وسيلة إعلامية مقروءة بعد أن توقفت مجلة الكويت عام 1930م).

ولعله من الجائز أن يتساءل المرء في هذا المقام عن حجم تلك المساحة الثقافية في ظل ظروف معيشية رثة يجاهد فيها الإنسان للإبقاء على أمنه وحياته، الأمر الذي تغدو فيه الثقافة لوناً من الترف لا يحتمله الواقع! ولعلنا لا نستطيع أن نتحدث بثقة عن بوادر تغيّر وحراك اجتماعي حقيقي إلا بعد ظهور النفط وما صاحبه من وفرة مالية وتأسيس المجتمع المدني ووفود الأيدي العاملة واندغام الجاليات العربية والأجنبية في لحمة وسدى النسيج الاقتصادي والاجتماعي. من هنا يبدأ الموران والحراك والنقلة الاجتماعية والثقافية بكل زخمها وإفرازاتها الإيجابية والسلبية.

تصوير الواقع الحياتي

إن إثارة موضوع الفروقات التعليمية والثقافية بين فئة قليلة توافرت لها سبل المعرفة وبين قطاع أكبر يعيش أمية مطلقة وبساطة فطرية في مجتمع ذلك الزمان، وكذلك إثارة موضوع تقليدية المجتمع وانغلاقه كملمح فارق مقارنة بغيره من المجتمعات العربية المنفتحة كمصر أو الشام، هذا التنويه سوف يفيدنا في تحليل واقع الحركة الشعرية في طورها الثالث. فقد اعتبرت معظم الدراسات الراصدة لهذه الحركة التي تمتد على مدى النصف الأول من القرن العشرين أن خالد الفرج وصقر الشبيب وفهد العسكر وعبدالمحسن الرشيد (ولد 1928) من أعلام المرحلة وعلاماتها المميزة. ويكفي أن يلقي المتأمل نظرة استشرافية على نتاجات هؤلاء الشعراء ليتبين مدى قربهم ومعايشتهم المباشرة وتصويرهم الصادق للواقع الحياتي والاجتماعي الذي عاصروه وعايشوه. وهذا النقل وتلك المعيشة يشيران بما لا يدع مجالاً للشك إلى حالة من القلق والصدام والصراع بين فئة انفتحت على المعرفة وبادرت نحو تجاوز المألوف والتقليدي والثابت وهم فئة المثقفين من الشعراء والمستنيرين، وبين عموم مجتمع ألف الاعتيادية ونمطية التفكير والسلوك وخضع لما جبل عليه من استسلام وتسليم بواقع الحال، وخشية من الوافد والجديد والغريب من الأفكار والدعاوى. ويكفي أن نمثل على هذه الحالة من القلق والصدام بما حدث للشيخ عبدالعزيز الرشيد والشيخ يوسف بن عيسى القناعي من تهديد وإهدار دمائهما لأنهما كانا من أولئك الروّاد الذين أباحوا قراءة الصحف وطباعتها ودعوا إلى تعليم العلوم العصرية، ووقفوا بشجاعة في وجه رجعية يقودها دعاة التزمّت والغلو. ولنا أن نمثل كذلك بسيرة صقر الشبيب وفهد العسكر وما اشتملت عليه حياتهما من شدة وعسر ومجالدة، وصراع مع واقع اجتماعي لا يرقى إلى الطموح. ينوه عبدالله زكريا الأنصاري بصدد الحديث عن الأجواء الاجتماعية التي عاشها فهد العسكر، حيث يتحدث عن (تمسك الكويتيين بالتقاليد الموروثة تمسّكاً قوياً، ونفورهم من كل رأي يتعارض وهذه التقاليد التي لا يرضون بها بديلاً، وانعدام الرأي الحر الذي يستطيع أن يخالف آراءهم وما اتفقوا عليه حسب هذه التقاليد). ويرى أيضاً (أن للبيئة الخاصة أثراً وتحكـّماً في أهلها والسيطرة على عقولهم وأفكارهم، والسير بهم في حياة لها طابعها الخاص وميزتها المحددة، ولو شاء ربك وأنبت هؤلاء الأدباء في بيئة أخرى وفي محيط غير محيطهم لكان لهم شأن غير هذا الشأن، ولما ظلوا في مثل هذه العزلة وهذه الوحدة التي سدت عليهم منافذ الحياة وأغلقت أمامهم أبوابها وحصرتهم حصراً في محيط ضيق محدود لا يجدون سبيلاً للخلاص منه).

الاغتراب والتمرّد

ومن هنا يبدو أن الملمح العام لهذه المرحلة التي سبقت عصر النفط ونقلته المؤثرة كان يتمثل في وجود فجوة كبيرة بين فئة قليلة تسعى نحو الثقافة والانفتاح وبين عموم مجتمع لم تتوافر له هذه السبل بعد، فظل منكفئاً على خشيته وحذره وتحرّزه. ولعل المثقف حينذاك كان يفاجأ بهوّة تلك الفجوة وبذلك الفارق بينه وبين مجتمعه المتلكئ المتحفّظ فيصاب بالدهشة ويصعب عليه (وخاصة الشاعر) مد الجسور أو إيجاد صيغة للتوازن. ومن هنا يبدأ الانبتات والشعور بالاختلاف والاغتراب، ومن ثم الجنوح المتمرد والرفض والثورة. وهي ثورة قد تتخذ صفة الفلسفة الحياتية والسلوكية (الجانحة)، المسفّهة للأعراف والتقاليد، المندفعة في شذوذها وتطرّفها كما في حالة فهد العسكر. أو تتخذ هذه الثورة طريقاً معكوساً يبدأ بالقلق والشكوى وينتهي بالعزلة التامة والانكفاء على الذات كما في حالة صقر الشبيب.

أما في حالة عبدالمحسن الرشيد، فقد اتخذت هذه الثورة صيغة التهكم والسخرية والإشارة إلى المتناقضات والتجرؤ على تعرية مثالب الموروثات البالية ودجل المتاجرين بالدين.

أما ردة فعل المجتمع إزاء هؤلاء الشعراء، فقد كانت صارمة متشنجة وقاسية. فقد اتهموا صقر الشبيب بالكفر والمروق والإلحاد بسبب تسفيهه لمسلك رجال الدين في غلوّهم وجمودهم ومحاربتهم للجديد من العلم:

فيا ليت شعري ما يريدون بالذي

يذيعون من كفري المزوّر أو لبسي

فيا قوم ما هذا التغطرس والجفا

ودينكم ديني وجنسكم جنسي?!

أما فهد العسكر، فقد وُصم بالفسق والفجور والمروق عن الأعراف، وجوبه بالتنكّر والتبرؤ والنبذ، وحرقت أشعاره بعد أن قضى وحيداً منسياً ودفن كذلك! ولكنه ما ازداد في أخريات حياته إلا عناداً وتمرّداً ومناكفة:

هات بنت النخل يا ابن العسكر

لا يطاق الصحو في ذا البلد

أما عبدالمحسن الرشيد فلم يكن بأوفر حظاً من سابقيه، فقد لاقى العنت والأذى، وآثر العزلة والظل معظم حياته:

يظن انقباضي واكتئابي معشر غروراً ولا والله ما كان شانيا
ولكن في جنبيّ نفساً حزينة قد انعكست أطيافها في سمائيا
فيا وطناً لم أبل إلا عقارباً تلدّغني من أهله وأفاعيا
هم لطّخوا ثوبي وقد كان ناصعاً وهم وضعوا قدري وقد كان عاليا

شعراء مشاكسون

ورغم انصرام سنوات العزلة والشظف، وولوج المجتمع إلى عصر المتغيرات المادية والفكرية بظهور النفط، فإن نزعة التململ والقلق والرفض ظلت سمة واضحة من سمات الشعر لدى جيل النصف الثاني من القرن العشرين. بيد أن الأسباب بدأت تختلف وتتفاوت. فبعد أن كان القلق والصدام في الجيل الأسبق مصدره الفجوة الثقافية والفكرية بين الشاعر ومجتمعه، أصبح هذا القلق والتململ يصدر عن عدم رضى بواقع يضج بالمتناقضات واللهاث المادي والتنافس غير النزيه، مجتمع يعلو فيه

الوصولي والمدّعي والانتهازي وتجف فيه ينابيع البراءة والدفء ونبض الإنسان. ولعل أحمد مشاري العدواني (1922-1990) خير مَن يمثل هذا الجيل القلق المثقل بهموم تطلعات وآمال يجهضها واقع معاند ومشاكس. وإزاء هذا المشهد الذي يستعصي على الطموح والحلم، لا يملك أحمد مشاري العدواني إلا أن يواجهه بفلسفته التهكمية الساخرة المنطوية على المرارة الممضة والإشارة اللاذعة اللاسعة وإلا بالانكفاء على اغتراب روحي أقرب إلى عزلة الزاهدين والمستوحشين الذين يلجأون إلى أصقاع منافيهم القصيّة رامقين العابرين والسابلة بشفقة شفيفة ووحشة معذّبة:

رحلتُ عنكم منذ سنين وسنينْ

أجل يا سادتي... أجلْ

رحلتُ عنكم.. ولم أزلْ أرحل!!

***

رحلتُ عنكم... ضقتُ بنفسي بينكم مرارا

ضقتُ بكم جوارا

ضقتُ بكم ديارا

تجهّمتْ مشاعري... تجهّمتْ خواطري

وماتتْ الدهشة في وجداني

وصار كل ما أسمع أو أرى.. مكرّراً مكرّراً!!

يقتل شهوة الحياة في كياني

وأصبحتْ علاقتي به

علاقة الأطلال بالمعولْ

أجل يا سادتي أجلْ

رحلتُ عنكم... ولم أزلْ أرحلْ

ولعل الفرصة سانحة في هذا المقام للاستشهاد بتجربة علي السبتي أيضاً (ولد 1936م)، الذي كان يمتاح من ذات البئر جانحاً نحو تعرية واقع تشوّهه المشاكل الاجتماعية وصلف الفوارق الطبقية والاقتصادية، ويبهرجه الزيف وقشور التحضّر الطارئ، معبّراً بكل ذلك عن رفضه لمدينة منطوية على الغلظة والصرامة والفظاظة، مدينة بلا حب أو رونق أو شعور طليق. ولعل الشيء المدهش في المثال الذي نستشهد به الآن لعلي السبتي هو أنه كتب إهداء إلى أحمد مشاري العدواني (الشاعر الذي يفهم ما يقول). ولعل التفاهم والتناغم بلغ مداه بين الاثنين في نص (مدينة ناسها بشر):

الليل في مدينتي أحمر

لكنه من الدخان والغبار أحمر

وكل مَن فيها/يكره مَن فيها

لأنها تذل بانيها!!

قبابها قد بُنيت للزينة

فهي مدينة حزينة

وكل عذراء بها / تنام عند بابها

تنتظر الصباح، والصباح لا يعودْ

لأنه من دونه ملاعب القرودْ

***

نهارها كليلها ظلمة

حتى النجوم فيها عتمة

ولا (ليالي) إن أصختَ السمع لا موال!

كأنها مقبرة حفّارها محتال!!

ولعله يمكننا الآن وفي هذا الموقع من الاستطراد أن نعتبر خليفة الوقيان امتداداً طبيعياً ليس لجيل أحمد مشاري العدواني فقط، وإنما أيضاً للجيل السابق عليه. إذ إن نزعة النقد والرفض والتململ التي يغمزها مهماز الطموح إلى واقع أرقى وأنقى وأمثل تظل السمة الفارقة في شعر خليفة الوقيان أيضاً.

بيد أن دائرة الهمّ لديه لم تعد مقتصرة على الواقع الاجتماعي والسياسي في بيئته المحلية المحدودة فقط، وإنما تعدّته إلى الهم العربي القومي الكبير الذي غدا قضية ملحّة في شعره وفكره. ولعل نزعة القومية العربية وقضاياها الساخنة لم تكن حكراً في شعر خليفة الوقيان، وإنما بدت كملمح من ملامح المرحلة المعاصرة شاركه في صياغتها ثلة من الشعراء يتقدمونه في العمر كأحمد السقاف (ولد 1919م) وعبدالله أحمد حسين (1930م-1994م)، أو يحاذونه كعبدالله العتيبي (1942م-1995م).

وربما شكّل من سبقه في المرحلة العمرية عاملاً من عوامل التأثير والجذب للانضواء تحت مظلة هذا التوجه القومي.

 

نجمة إدريس

 
 




صقر الشبيب





د. خليفة الوقيان





غلاف الكتاب عن الشاعر فهد العسكر





أحمد مشاري العدواني