كوبنهاجن - ميونيخ.. القرن الحادي والعشرين

كوبنهاجن - ميونيخ.. القرن الحادي والعشرين
        

          سيذكر التاريخ دائما «معاهدة ميونيخ» باعتبارها واحدة من أكبر الأخطاء التاريخية في تاريخ البشرية، وفشلا ذريعا للقيادات الأوربية في ردع أطماع هتلر التوسعية، ورغبته الجشعة في ابتلاع ثروات وموارد الدول المجاورة. واليوم يكرر قادة العالم الخطأ التاريخي نفسه بتوقيعهم على اتفاقية كوبنهاجن، التي لا تنص على شيء سوى على استمرار الأمر الواقع، الذي تواصل فيه قوى متجبرة تلويث الكوكب، مستهينة في ذلك بالعواقب الوخيمة التي ستقع على البشرية جمعاء، خاصة الأمم الفقيرة التي سيدفع أبناؤها ثمنا فادحا إذا انطلق قطار تغير المناخ، الذي لن يتوقف أبدا في طريقه ذي الاتجاه الواحد.

          كانت اتفاقية كوبنهاجن المناخية فشلا كبيرا ذا أبعاد تاريخية خطيرة على نحو يجعلها أقل قيمة حتى من الورق الذي طبعت عليه. والحقيقة أن مفاوضات المناخ تحتاج إلى تبني مقاربة جديدة يمكنها التغلب على عوائق مثل المصالح الوطنية الذاتية الضيقة.

          والمؤسف أن مفاوضات المناخ لن تكون نفسها ثانية بعد قمة كوبنهاجن المناخية، وستثبت الأيام أن الاتفاقية التي تم التوصل إليها في العاصمة الدنمركية لم تكن سوى معاهدة ميونيخ القرن الحادي والعشرين.

          فقد كانت وثيقة الاتفاق «استرضاء» على حساب بيئتنا لكبار ملوثي كوكبنا وسيحكم على العالم بتغير متواصل للمناخ ويعلن الحرب على أطفالنا.

          وقد انتهت القمة، التي عقدت في ديسمبر الماضي، إلى «اتفاقية» ملتبسة ليس لها أي صفة قانونية.

          وجاء في ديباجته أن الحكومات «لاحظت»... ولم يذكر أنها «تبنت» أو «أقرت». ومع ذلك، فإن وجود الاتفاق ذاته من شأنه الآن أن يقوض البناء الذي رسخته اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول تغير المناخ (Unfccc) وللتغلب على تغييره على مستوى الكوكب.

          وهناك الكثير من العيوب وأوجه القصور في هذا الاتفاق.

          فهو ليس ملزما من الناحية القانونية، ولا يتضمن أي أهداف لتخفيض الانبعاثات على المستويين المتوسط أو البعيد، والأخطر أنه لم يحدد السنة الفاصلة لذروة الانبعاثات من أجل الحفاظ على الاحترار الكوني ضمن «الحد الآمن»، وهو عبارة عن درجتين مئويتين أدفأ من درجة الحرارة في عصر ما قبل الصناعة.

          كما أخفق الاتفاق أيضا في اتباع الخطوط العامة التي وضعتها الهيئة الحكومية حول تغير المناخ التابعة للأمم المتحدة (Ipcc)، التي تشير إلى ثلاث علامات فارقة Benchmark لتجنب تغير خطير في المناخ، وهي:

          - يتعين على الدول المتطورة أن تخفض انبعاثاتها بنسبة 25- 40 في المائة بحلول العام 2020 مقارنة بمستويات انبعاثاتها العام 1990.

          - ينبغي أن تصل الانبعاثات على مستوى الكوكب إلى نقطة الذروة في العام 2020 ثم تبدأ في الانخفاض.

          - يجب أن تنخفض الانبعاثات على مستوى الكوكب بنسبة 50 في المائة بحلول العام 2050 مقارنة بمستوياتها في العام 1990.

          وقد تضمنت اتفاقية كوبنهاجن إشارة إلى مستوى الدرجتين مئويتين، لكنها لم تصادق فعليا على هذا الهدف.

          وبالنظر إلى أنها لم تتضمن أهدافا محددة، ولم تحدد سنة الذروة، ولا أي مسار لتخفيض الانبعاثات، ولم تحتو سوى على عبارات طنانة مبهمة، فإن هذا في واقع الأمر ليس سوى اتفاق على أن تبقى الأمور على ما هي عليه.

          وكان معهد بوتسدام لبحوث المناخ قد قدر أن اتفاقا على أن تبقى الأمور على ما هي عليه من شأنه أن يضع العالم في مسار سترتفع فيه درجة حرارة الكوكب بين 3 و4 درجات مئوية.

          وبما أن هذا مجرد متوسط على مستوى الكوكب، فإن الاحترار الفعلي في العديد من مناطق العالم، خاصة في المرتفعات العالية، سيكون أكبر بكثير.

          وتخاف الدول الجزرية الصغيرة من هذا السيناريو منذ فترة ليست بالقليلة، لذا فإنها تناشد العالم ألا يتجاوز الارتفاع في درجة الحرارة حاجز الـ 1.5 درجة مئوية من أجل ضمان بقاء هذه الجزر في حيز الوجود.

          لقد كانت اتفاقية كوبنهاجن ضربة موجعة للملايين حول العالم الذين علقوا آمالهم على هؤلاء القادة من أجل توفير الحماية المناخية لنا.

          ولم يشهد العالم من قبل هذا التآلف الفريد من الجماعات والمؤسسات التي اتفقت معا: المجتمع المدني، الجماعات الدينية، رجال الأعمال والصناعة، والمجتمع الاستثماري، والعلماء، والمنظمات الهندسية والمهنية.

          بل إن الأمم المتحدة ذاتها، التي أدارت حملة واسعة من أجل التوصل لاتفاق، دعت إلى تحرك عاجل.

          وقد استجاب معظم قادة العالم لهذه الدعوة، لكنهم في نهاية المطاف لم يفعلوا شيئا.

          وهكذا قادت القمة إلى فشل ذي أبعاد تاريخية لأن «العودة» ستكون في غاية الصعوبة.

          وهكذا كررت البشرية الخطأ القاتل الذي ارتكبته في معاهدة ميونيخ.

          ففي العام 1938، ضحت القوى الأوربية بتشيكوسلوفاكيا أمام عدوانية هتلر، ظنا منها أن هذا سيرضي جوعه لابتلاع الأراضي. وتجلت عواقب هذا الخطأ التاريخي الهائل في الفظائع البشعة التي حدثت في الحرب العالمية الثانية.

          ومعاهدة ميونخ، أو «إملاء ميونيخ» كما يحلو للتشيك والسلوفاك تسميتها لغيابهم عنها، هي اتفاقية تمت بين ألمانيا النازية والقوى الأوربية العظمى، وافقت فيها هذه القوى على إشباع أطماع أدولف هتلر التوسعية في أوربا. وكانت نتيجة هذه المعاهدة استيلاء ألمانيا على الجانب الأغنى من تشيكوسلوفاكيا، وذهاب بقيتها إلى بولندا والمجر.

          وكان هتلر، في سعيه لتكوين «ألمانيا العظمى» قد تذرع بوجود أغلبية من المواطنين الألمان يعيشون في منطقة السودتنلاند Sudetenland الحدودية الفاصلة بين تشيكوسلوفاكيا وألمانيا للمطالبة بضمها إلى بلاده.

          وأقرت المعاهدة في ميونيخ في 30 سبتمبر 1938 بين ألمانيا النازية، وبريطانيا، وفرنسا وإيطاليا، وفي غياب تشيكوسلوفاكيا. وظن إدوارد بينش رئيس تشيكوسلوفاكيا آنذاك أن اتفاقية الدفاع المشترك التي تربطه بفرنسا وتربط فرنسا ببريطانيا سوف تعزز موقف بلاده في النزاع الدائر على السودتنلاند، غير أن موقف الحلفاء جاء مغايراً لتوقعاته حيث لم تمنعهم الاتفاقية من ردع هتلر أو اثنائه عن موقفه، لذا تسمى معاهدة ميونخ بـ(خيانة ميونخ) أيضاً.

          ولم تشبع اتفاقية ميونيخ واستيلاء هتلر على جانب كبير من تشيكوسلوفاكيا شهيته العدوانية، كما ظن الحلفاء، بل أطلقت العنان لأطماعه التوسعية. وسرعان ما اجتاح بولندا وفرنسا لتشتعل الحرب العالمية الثانية.

          والآن نرتكب خطأ قاتلا آخر عندما نسامح كبار ملوثي كوكبنا في عدم الاكتراث بفقراء العالم وبالمناطق الأكثر هشاشة فيه مقابل «حقهم» في تلويث كوكبنا».

          ويحاول هؤلاء إضفاء صبغة إيجابية زائفة على الاتفاق عندما يتحدثون عن أنه ليس سوى مجرد «خطوة أولى»، لكن الحقيقة أنّ بلدانا متباينة، مثل الولايات المتّحدةِ، وكندا والصين والهند وأستراليا والدول المنتجة للنفط، لَيْسَ لَها نيةُ للتعهد بنظام مناخِ كوني ملزم قانونياً،لا الآن ولا في المستقبلِ.

          وبدلاً مِن ذلك، أصبح لدينا الآن نظام واهن لـ«الوعود والمراجعة»، يوفر ضمانة قليلة بأن الانبعاثات ستنخفض بالسرعة التي يجب أن تفعل بها ذلك.

          أما ما حسمته كوبنهاجن بجلاء فهو أن العالم قد تغير إلى الأبد، وأننا أصبحنا نعيش في عصر جديد ذي جغرافيا سياسية أخرى.

          فقد ولت إلى الأبد الأيام التي كان العالم ينقسم فيها إلى بلدان «متطورة» وأخرى «نامية».

          وكشفت دول مثل الصين والهند أنها أصبحت ضمن اللاعبين الأقوياء الجدد على الساحة الذين يتصرفون بجلاء وفق مصالحهم الذاتية مثلهم في ذلك مثل الدول الغربية.

          وكان مسلكهم المزدوج المعايير، تماما كالولايات المتحدة، هو الذي أوصل إلى هذا الاتفاق، الذي وجد دعما طيعا، إن لم يكن مخزيا بدرجة ما، من البرازيل وجنوب إفريقيا، ومرر إلى بقيّة العالمِ.

          ويتمثل الدرس الرئيسي المستفاد مِنْ كوبنهاجن في أنّ النظام العالمي الجديدِ ببساطة يتسق مع الأنظمة والآليات البائدة للأُمم المتّحدةِ.

          والمشكلة لَيستْ مع الأُمم المتّحدةِ في ذاتها، لكن مع آلياتها التي عفا عليها الزمن. فسياسات الكتل في الأُمم المتّحدةِ الآن أصبحت منذ عقد على أقل تقدير خارج نطاق الزمن، ولم تسمح بالظهورِ الخلاق لتحالفات هجينةِ بين الشمالِ والجنوبِ.

          وكشفت كوبنهاجن بجلاء أن «الواقعيةِ السياسيةِ» فازت على «واقعية المناخِ»، وأن العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة والصين عاجزة عن توفير قيادةِ للعالمِ. وهو ما يعني أن علينا التفتيش عن حلول في مكان آخر.

          فقد تحركت الولايات المتّحدة والصين، بمساعدة آخرين، وفقا لمصالحهما السياسيةِ القصيرة الأمدِ اعتقادا منهما أن بوسعهما «إدارة» مخارجِ لهما مِنْ تغيرِ المناخِ. لكن النظامَ المناخي لا يكترث بالطموحاتِ الجامحة والجائحة للأممِ الزائلة، والطبيعة لها قوانينها الخاصة التي «تعض» من ينتهكها، والعواقب بدأت تظهر بالفعل.

          وهؤلاء الذين ناوروا في مؤتمر كوبنهاجن وفقا لمصالحهم الوطنيةِ القصيرة الأمدِ سيجدون أن أفعالهم لم تخدم مصالحهم البعيدة الأمد في عالم مستدام المناخ والموارد الطبيعية. غير أن الأضرار الجانبية لقراراتهم ستقع على كاهل هؤلاء الأقل قدرة على مواجهة تغيرات المناخ.

          وهكذا فإن الصورة بعد كوبنهاجن تبدو قاتمة للغاية. لكن هذا لا يمنع من أن هناك بصيصا من أمل يتمثل في أنه لا يوجد شيء يمكن أن يوقف ظهور لا عبين جدد.

          والواقع أن ما يحتاجه عالمنا هو ظهور قيادة جديدة. فبدلاً مِنْ تجمّعات عاطلةِ وخاطئة تاريخيا، مثل مجموعة الـ77+الصين، فإننا نحتاج إلى تجمّعات جديدةَ مِنْ الأممِ التي تدرك أخطار تغيرِ المناخِ، والتي نَرى على نحو متزايد أن مصالحَها مترابطة ومتشابكة.

          فالعديد مِنْ الأممِ التي تؤمن َبخطط نمو وطنية خضراء وأقل اعتمادا على الكربون، مثل المالديف، وكوستاريكا، والمكسيك، وكوريا الجنوبية، والبرازيل، والاتحاد الأوربي وآخرين، تَحتاجُ الآن لصياغة قضية مشتركة.

          وتحتاج أيضا إلى تجاوز خط الشمال/ الجنوب الذي ثبت فشله، وصياغة سياسة جديدة ترمي إلى تحقيق الأمن المناخي المشترك والرخاء الاقتصادي الجَماعي.

          وهناك الكثير الذي يمكن تحقيقه في مؤتمر المناخ المقبل المقرر عقده في كنكون بالمكسيك في نوفمبر المقبل. وربما تنجح كنكون في ما فشلت فيه كوبنهاجن.

 

 

أحمد خضر الشربيني   




 





أوباما في قمة كوبنهاجن للبيئة





هل تكرر اتفاقية كوبنهاجن الخطأ التاريخي الذي ارتكبته معاهدة ميونخ على يد هتلر؟