غطاء السرير المبرقع منى محمد العمادي

غطاء السرير المبرقع

قصة للكاتبة الأمريكية: دورثي كانفيلد فيشير

من بين كل أفراد عائلة الايلويل، كانت العمة ميهاتبيل أقل أفراد الأسرة أهمية فلقد عاشت في بداية تأسيس ولاية نيو انجلند، المؤلفة من مجموعة من الولايات والتي كانت أول المستعمرات في أمريكا. وكانت تعتبر المرأة فيها عانسا إن لم تكن متزوجة وهي في العشرين من عمرها وخادمة في الأربعين وما أن تتجاوز الستين من عمرها حتى تكون قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من الانضباط والنظام بحيث لا تحتاج إلى أي ضبط او نظام او تقنين يفرض عليها في العالم الآخر.

كانت العمة ميهاتبيل في الثامنة والستين من عمرها ولم تعرف أبدا للحظة واحدة متعة الشعور بالأهمية لأي شخص. ولا يعني ذلك أنها كانت فردا لا قيمة له في العائلة، بل على العكس فقد كان متوقعا منها، بحكم العادة، أن تأخذ على عاتقها الأعمال الأقل متعة والأكثر مللا. ففي أيام الاثنين، كانت تغسل قمصان الرجال المعبقة بالعرق والمتصلبة بوحل الحقول ووسخ أجسام الرجال المثابرة على العمل الشاق. ولم تكن تحلم في أيام الثلاثاء بأن يسمح لها بكي أي شيء جميل او ممتع كاثواب الطفلة البيضاء او مراييل البنات الفاخرة. بل كانت تعكف طوال النهار، بشكل متعاقب ورتيب، على كي مناشف وملاءات الأسرة.

وفي فصل تعليب الفواكه لم تكن تحظى ببهجة اخذ القرار فيما اذا كانت الفواكه قد طهيت بما فية الكفاية. ولم تكن تشارك في حدث فيه القليل من الإثارة كصب المربى الملونة ذات الرائحة الزكية في الأواني الحجرية. كانت تجلس في الزاوية مع الأطفال وتنزع النوى من الكرز دون توقف او تنزع الأوراق الخضراء من ثمار الفريز حتي تصطبغ يداها بالحمرة الداكنة.

لم تكن معاملة أعضاء عائلة الايلويل الفظة لعمتهم متعمدة، لكنها كانت شخصا غير مهم في حياتهم وكأنها غير موجودة. أما بالنسبة للعمة ميهاتبيل، فلم تكن تستاء من تلك المعاملة بل كانت تتلقاها بهدوء وتعتبرها غير مقصودة. فمعاملة كهذه متوقعة لعجوز عانس عالة على غيرها في عائلة نشيطة، فلقد كانت تلملم ما تستطيع من عزاء من طيبتهم اللامبالية بين الفينة والفينة وتحاول إخفاء ألمها الذي كان ينفذ إلى قلبها لدى سماعها مزاح شقيقها الفظ.

وفي الشتاء عندما كان الجميع يلتفون حول الموقد الكبير ويتناولون التفاح المشوي ويشربون عصير التفاح المحلى ويضايقون الفتيات بذكر أحبائهن والشباب بذكر حبيباتهم، كانت العمة تنكمش على نفسها في زاوية مظلمة مع صنارتها، سعيدة اذا ما مضت السهرة بدون أن يقول شقيقها بسخرية فجة: اسألوا عمتكم ميهاتبيل عن حبيبها الذي كان يتودد إليها، او يقول: ما هو شعورك عندما كنت مغرمة بابيل كامينغ!

وفي الواقع كانت شخصية العمة ميهاتبيل في العشرين من عمرها هي نفسها في الستين، مخلوقة جبانة اخجل من أن ينتبه إليها أحد أو من أن ترفع عينيها للحظة وتتمنى حياة لنفسها. أما زوجة أخيها، ربة المنزل الضخمة والمتمتعة بصحة جيدة والتي كانت تدير المنزل بشكل مطلق كما كان يدير زوجها المزرعة، فقد كانت طيبة وفظة إلى حد ما مع المرأة العجوز المنكمشة وذلك بطريقة لا إرادية. وكان بوسع العمة ميهاتبيل من خلالها أن تسعد بالشيء الوحيد الذي كان يسعدها في هذه الحياة.

لقد كانت العمة ميهاتبيل ماهرة منذ صغرها في حياكة قطع القماش المختلفة الألوان والأشكال ببعضها بعضا لتصبح غطاء سرير ولم تكن تطمع أن تتعلم شيئا آخر غير ذلك، فالثياب التي كانت تحيكها لنفسها كانت تبعث في نفسها الحزن وتكون شاكرة اذا ما تلقت أي مساعدة في حياكة قطع الثوب الذي كانت تعتبره عملا مربكا.

لكن الأمر كان مختلفا بالنسبة لصنعها للغطاء المبرقع، فلقد كانت تتمتع بنوع من الأهمية لتمكنها من فعل ذلك بشكل جيد كأي شخص آخر. وكانت قد استطاعت أن تحظى خلال سنين طويلة كرستها لهذا الفن بمجموعة لا بأس بها من نماذج الأغطية المبرقعة. وكان الجبان بين الحين والآخر يطلبون من الآنسة ميهاتبيل إعارتهم نموذج "حزمة القمح" او نموذج "النجمة المزدوجة". أما العمة ميهاتبيل بدورها فترفرف ابتهاجا لاستطاعتها مساعدة احد، فكانت تعدو نحو خزانتها، في غرفتها الصغيرة شبه الفارغة تحت الكهف وتتناول النموذج المطلوب من حقيبتها المملوءة بالأوراق. لم تعلم أبدا كيف خطرت ببالها تلك الفكرة العظيمة، فأحيانا تظن بأنها قد راودتها في الحلم وأحيانا تعتقد بأنها وحي جاء عبر الكلام المنمق الذي كانت تسمعه في الاجتماع الأسبوعي للصلاة. لكنها لم تسمح لنفسها أبدا بالاعتراف بأنها قد راودتها دون مساعدة أحد. فلقد كان مشروعا أعظم وأطمح من أن يستطيع عقلها الصغير والمتواضع التفكير به. حتى أنها عندما انتهت من رسم النموذج بأناملها حدقت به متشككة، غير قادرة على التصديق بأنه حقا من صنع يدها. في البداية بدا لها. فقط كحلم جميل غير حقيقي ولم تجرؤ لمدة طويلة على التفكير ولوحتي للحظة واحدة في وضع نموذج الغطاء المبرقع قيد التنفيذ، حتى لو كان من تصميمها.

لم يكن السبب هو خشيتها من الجهد الضخم الذي ستحتاجه لحياكة قطع القماش الصغيرة ذات الألوان المشرقة والأشكال المختلفة ببراعة متناهية. لا، فلقد كانت تتلهف وتفكر بحماس في ذلك الجهد اللانهائي. وكان قلبها يقفز فرحا لدى تصورها جمال اللوحة الفيسفسائية- ذلك النموذج المعقد ذي الصعوبة الرائعة والجدير فقط بالملائكة. وبينما كانت تحلم، كانت أصابعها الهرمة الرشيقة تمتد بلهفة لتحول حلمها إلى حقيقة. وبدأت تغامر بالتفكير بمحاولة تنفيذه- لعلها لن تكون أنانية اذا حاولت صنع مربع واحد- فقط وحدة واحدة من تصميمها لرؤيته بشكل كامل.

لم تكن تجرؤ على القيام بشيء دون الاستئذان في بيت كانت تعتبر عالة عليه. ولهذا اتجهت بقلب ممتلئ بالحزن وبالأمل يرتجف بين أضلاعها نحو سيدة المنزل في يوم صنع الزبدة مدركة بمكر طفلة بريئة أن مزاج المرأة الريفية سيكون جيدا وهي تعمل في القبو الرطب وعبير رائحة الزبدة يملا الجو. أنصتت صوفيا بشكل لا مبال لطلب شقيقة زوجها المتردد وأجابت قائلة وهي تنحني داخل الوعاء للحصول على ما تبقي من الزبدة الذهبية: انعم ابدئى بصنع غطاء مبرقع اذا ما شئت فلدي كثير من القطع الفائضة من الخياطة الصيفية والتي يمكنك استعمالها.

حاولت العمة ميهاتبيل جهدها أن تشرح لصوفيا بان هذا العمل لن يكون عملا عاديا، لكن مفرداتها المحدودة وعواطفها حالت دون ذلك.

وأخيرا هتفت صوفيا بلطف وقد نفد صبرها. "آه هيا لاتزعجيني، فانا على أية حال لم استطع أبدا تتبع نماذج أغطيتك المبرقعة. هيا هلمي فأنا لا يهمني أي نموذج تتبعينه".

أسرعت ميهاتبيل نحو درج السقيفة العالي في غرفتها وبسعادة وحيوية بدأت تقوم بالتحضيرات لإنجاز أعظم عمل في حياتها. لقد أظهرت اللمسات الأولى من العمل أن التصميم افضل مما توقعت فلقد استطاعت اختراع نموذج لا يضاهى بإلهام من السماء.

لم يكن لديها الكثير من الوقت خلال ساعات النهار المليئة بالأعمال المنزلية المتتالية والشاقة، ولم تكن تجرؤ على العمل بعد حلول الظلام لئلا تسرف في استعمال الشموع. لهذا لم يبدأ النموذج بالظهور على المربع الصغير إلا بعد مرور أسابيع طويلة. وحينها انتابها نشاط شديد لإنهاء الغطاء المبرقع. كانت ملتزمة لدرجة أن ضميرها لم يسمح لها بالتهرب من واجباتها المنزلية مهما كانت صغيرا. ولكنها الآن أصبحت تسرع بإنجازه لدرجة أنها كانت تلهث لدى صعودها السلم المؤدي لغرفتها الصغيرة وفي كل مرة كانت تفتح الباب، كانت ترى فيضا من أشعة الشمس تملأ الغرفة بغض النظر عن الجو خارج النافذة الصغيرة والوحيدة في غرفتها. كانت تبتسم لنفسها وهي تنكب على قطع القماش القطنية الصغيرة والمتناثرة على منضدة العمل.

فبالنسبة لها كانت تلك القطع، منذ ذلك الحين، قد نسقت بشكل نظامي في لوحة فسيفسائية جميلة ومعقدة. وأخيرا لم تعد تستطيع الانتظار اكثر من ذلك فغامرت في مساء أحد الأيام بحمل عملها معها للجلوس مع العائلة قرب النار متمنية أن تتاح لها الفرصة لتجلس قرب الشموع الشحمية الموضوعة على رف ما فوق الموقد. كانت قد وصلت إلى آخر زاوية للمربع الأول وكانت حركة أبرتها تتطاير من الداخل إلى الخارج بسرعة عصبية. ولارتياحها الشديد لم ينتبه إليها احد.

وعند حلول موعد النوم كان عليها فقط أضافة اللمسات الأخيرة لإنهاء قطعة القماش المربعة الشكل. ولدى وقوفها مع الآخرين وقعت قطعة القماش من يديها الهرمتين المرتجفتين ورفرفت فوق المنضدة. ونظرت صوفيا إليها دون اكتراث وقالت وهي تتثاءب: "أهذا هو الغطاء المبرقع الذي قلت أنك تريدين أن تبدئي بتنفيذه؟ تبدو القطعة جميلة حقا، دعينا نراها ".

لحد تلك اللحظة، كانت ميهاتبيل قد عملت بروح نقية ذاتية مفتتنة بصورة مثالية وكانت الصدمة العاطفية التي انتابتها، بفعل صرخة إعجاب صوفيا وهي تحمل قطعة القماش نحو ضوء الشمعة لفحصها، مفاجئة بقدر ما كانت مبهجة لها.

- "يا الهي- صرخت زوجة أخيها- أين حصلت على هذا النموذج يا ميهاتبيل ايلويل ".

- "لقد صممته بنفسي "قالت ميهاتبيل بهدوء وهي ترجف.

- لا- هتفت صوفيا- هل صممته فعلا. لم أر نموذجا مثله في حياتي. هلموا يا فتياتي وانظرن ماذا فعلت عمتكن ميهاتبيل ".

وعادت بنات أخيها الثلاث على مضض إلى الغرفة. وقالت إحداهن: " لم استطع أبدا الاهتمام بفن صنع الغطاء المبرقع".

كانت مهارة الرواد الأوائل الذين عاشوا الحرمان في أمريكا ورغبتهم الشديدة بالجمال. قد تلاشت منذ ذلك الحين.

وأجابت صوفيا: " ولا أنا أيضا، ولكن مثل هذا النموذج يمكن أن يجلب انتباه أي شخص كان. تكلمي بصراحة يا ميهاتبيل هل فكرت بهذا النموذج لوحدك؟- قالت ذلك وهي تمسك بالقطعة عن قرب- وكيف بحق السماء تجرأت ببداية مثل هذا النموذج؟ انظرن يا بناتي إلى هذه اللفقات الصغيرة، أن الطرف الخلفي للغطاء مكتظ باللفقات بينما الطرف الأمامي أملس كالمرآة حتى يظن المرء بأنها قد نسجت هكذا. لكن لا أحد يستطيع حياكتها هكذا".

وتلمست الفتيات القطعة من الأمام والخلف ورددن هتاف أمهن. حتى السيد ايلويل جاء بنفسه ليرى عما كن يتكلمن ونظر إلى أخته بإعجاب لم تذكر أبدا أنها قد نالته من قبل وقال: " لا اعرف شيئا عن أعمال الغطاء المبرقع ولكن بوسعي القول بأن هذا العمل يتفوق على عمل الآنسة اندروز والذي حصل على ميدالية المعرض الريفي مرات كثيرة ".

وفي تلك الليلة تمددت ميهاتبيل على سريرها الضيق والصلب، متهيجة وفخورة وغير قادرة على النوم. كان قلبها مفعما بالسرور وعيناها المتهدلتان مغروقتين بدموع الفرح.

في اليوم التالي، فاجأتها زوجة أخيها بخطف وعاء البطاطا الكبير من يدها وإعطائها لإحدى بناتها الصغار لتقشيرها وقالت متسائلة: " إلا تريدين مواصلة العمل بنموذج الغطاء المبرقع؟. أريد أن أرى كيف سيظهر تصميم الكرمة في الزاوية ".

ولأول مرة في حياتها خالفت المرأة العانس، العالة على غيرها قول زوجة أخيها القوية وقالت بسرعة وبحذر: "أنها ليست كرمة بل شكل لولبي قمت بتصميمه " وقالت صوفيا مهدئة الموقف. "إنها جميلة الشكل على أية حال، لم أكن أستطيع التفكير بها أبد ا".

مع انتهاء فصل الصيف كان اهتمام أفراد العائلة بالغطاء المبرقع قد ازداد لدرجة انهم نقلوا لها منضدة مستديرة في غرفة الجلوس كي تضع عليها المربعة الصغيرة وتعمل عليها في أوقات الفراغ. كانت تكاد تبكي من جراء هذه المعاملة اللطيفة وعزمت بشدة على إلا تستغلها. فلقد كانت تقوم بالأعمال المنزلية الرتيبة بإخلاص دون أن تهمل زاوية واحدة، لكن جو عالمها تغير. الآن اصبح للأشياء معان. فمن خلال أطول الوظائف المنزلية مدة كغسل أواني الحليب، كان يبزغ أمل.

كانت تجلس في مكانها قرب المنضدة الصغيرة وتضع "الكشتبان" على اصبعها المعقود والصلب بوقار راهبة تؤدي شعائرها الدينية. كان بوسعها حتى أن تتحمل بشيء من الوقار شرف الحصول على تعليق القس وزوجته على مشروعها العظيم بإعجاب.

لقد كانت العائلة فخورة جدا بالعمة ميهاتبيل لدى سماعها القس باومان يقول بأنه افضل عمل فني رآه في حياته ولم ير أفضل منه أبدا.

وتكررت هذه الملاحظة بحرفيتها في الأسابيع التالية من الجيران لدى زياراتهم غير المتوقعة وعند تفحصهم بعض التصاميم البارعة والتي كانت العمة قد أنهتها لتوها بهدوء وثقة. لقد تباهت عائلة الايلويل، بشكل خاص، بالتقدم البطيء للغطاء المبرقع فكانوا يشرحون ذلك لضيوفهم قائلين. "منذ ستة أسابيع والعمة ميهاتبيل تعمل في تلك الزاوية من التصميم، وحتى لو أتيتم يوم الثلاثاء فلن تجدوها قد انهت نصف عملها".

ولم تعد العائلة تتوقع من العمة أن تقوم بالأعمال المنزلية ولا حتى برعاية الأطفال. فكانت صوفيا تناشد أولادها قائلة. "لا تزعجوا عمتكم ميهاتبيل، إلا ترون أنها قد وصلت إلى مكان دقيق من الغطاء المبرقع ".

وكانت العمة بدورها تجلس بشكل مستقيم على كرسيها وترفع رأسها عاليا. فلقد أصبحت أخيرا فردا نافعا في هذا العالم. لقد أصبحت تشارك في المناقشات وأصبح الجميع يأخذون بآرائها. وقد طلب من الأطفال تلبية مطالبها، لكنها قلما طلبت منهم شيئا. وفي يوم من الأيام جاء بعض الأشخاص الغرباء من بلدة مجاورة إلى منزل عائلة الايلويل وطلبوا معاينة الغطاء المبرقع الرائع والذي ذاع صيته في بلدتهم.

بعد ذلك، اصبح غطاء ميهاتبيل المبرقع أحد المشاهد المحلية في القرية تدريجيا، ولم يكن هناك ضيف يحل على البلدة إلا ويذهب لرؤية الغطاء المبرقع، سواء أكان صديقا لعائلة الايلويل أم لا.

ولجعلها صالحة أكثر للتقديم، أصبحت عائلة الايلويل تعتني بملابس العمة اكثر من أي وقت مضى. فلقد صنعت لها إحدى الفتيات غطاء جميلا للرأس لإخفاء شعرها الرمادي الخفيف.

ومضى عام وانتهت العمة من ربع عمل الغطاء المبرقع. وبعد ذلك مضى عام آخر وانتهت العمة من نصف عمل الغطاء المبرقع. أما في السنة الثالثة فأصيبت العمة بمرض ذات الرئة، ومكثت في السرير أسابيع طويلة خائفة من أن تواتيها المنية قبل أن تنتهي من صنع الغطاء المبرقع. أما في العام الرابع، فلقد أصبح بوسع المرء رؤية عظمة التصميم بشكل كامل.

وفي شهر سبتمبر من العام الخامس تجمع أفراد الأسرة حول العمة بتلهف لرؤيتها وهي تنهي لمساتها الأخيرة ومن ثم أمسكت الفتيات أطراف الغطاء ورفعنه عاليا ونظر إليه الجميع بهدوء. وصرخ السيد ايلويل متحدثا كشخص ذي نفوذ:

"يا الهي يجب أن تشارك هذه القطعة الفنية في المعرض القروي ".

وتورد وجه العمة. فلقد كانت قد فكرت بذلك ولكنها لم تجرؤ على البوح به.

وصرخ أفراد العائلة. "نعم بالتأكيد". وأرسل احد شباب العائلة إلى منزل جارهم والذي كان رئيس لجنة بلدتهم في المعرض القروي. وعاد الفتى مبتهجا وقال: "بالطبع سيقبلها فهي حتما ستفوز بالجائزة، ولكنه يريدها الآن لأن كافة أعمال البلدة سترسل غدا صباحا". حتى في أوج اعتزازها، شعرت العمة بغصة وهي تلمح صرة الغطاء المبرقع تغادر المنزل.

ومضت الأيام وشعرت العمة بالضياع فلسنين عديدة كان الغطاء المبرقع شغلها الشاغل. واضحى المنصب الدائري، والذي كان فيما مضى ممتلئا بقصاصات صغيرة ذات ألوان مشرقة، عاريا ومهجورا. وروى أحد الجيران، والذي كان قد سافر إلى المعرض، بأن الغطاء المبرقع قد وضع في مكان أمين في صندوق زجاجي في القاعة الزراعية. ولكن هذا لم يعن الكثير للعمة ميهاتبيل والتي كانت تجهل كل ما يدور خارج منزل أخيها.

وفي أحد الأيام قالت صوفيا بلطف: " أنك تشعرين بالضياع بدون غطائك المبرقع أليس كذلك يا مهاتبيل؟ ".

وردت عليها ميهاتبيل بحزن. "لقد أخذوه مني بسرعة. لم يتسن لي النظر إليه جيدا ".

كان المعرض سيستمر لمدة أربعة عشر يوما. وفي بداية الأسبوع الثاني سأل السيد ايلويل أخته في أية ساعة مبكرة تستطيع الاستيقاظ غدا. تساءلت العمة قائلة. " لا أعلم. لماذا؟"

ورد السيد ايلويل. "لقد قال السيد توماس ألستون بأنه سيذهب إلى ويست اولستون لأن لديه موعدا مع المحامي وذلك على قرب أربعة أميال فقط من المعرض القروي. وبوسعه اصطحابك معه إلى المعرض لقضاء اليوم هناك اذا كان بوسعك الاستيقاظ في الرابعة صباحا. شحب وجه العمة مهاتبيل وامتلأت عيناها بالدموع. كان الأمر بالنسبة لها كأن شخصا ما عرض عليها رحلة في عربة ذهبية نحو بوابة الفردوس.

وصرخت بحماس: "هل تعني فعلا ما تقول؟ ". وضحك شقيقها. لم تستطع عيناه أن تلتقي بعينيها. بالرغم من عدم مبالاته بأخته وإهماله لها، فلقد كشفت له هذه الحادثة عن مدى ضيق دائرة حياة أخته في منزله.

وقال لها بارتباك. "ليس في الأمر شيء عظيم، فقط الذهاب إلى المعرض". ثم استطرد قائلا." بالطبع أعنى ما أقول هيا اذهبي وجهزي نفسك فهو يريد الرحيل باكرا".

كانت عجوزا متهيجة تلك التي استلقت على السرير وهي ترتجف وتحملق بروافد السقف طوال الليل لقد كانت هذه الرحلة بمثابة الذهاب إلى عالم آخر بالنسبة لامرأة مثلها لم تبتعد عن المنزل اكثر من ستة أميال. فهي التي لم تر شيئا اكثر أثارة من عشاء الكنيسة، ستذهب لرؤية المعرض القروي. لم تكن تحلم أبدا برؤيته ولم تستطع أبدا أن تتصوره.

وفي الصباح التالي استيقظ أفراد الأسرة كلها لوداعها. ولعل شقيقها لم يكن الشخص الوحيد في العائلة الذي دهش بسبب فرحها الشديد.

وبينما كانت تحاول أن تتناول فطورها اقترح عليها أفراد الأسرة كل على حدة نصائح متضاربة عما يجب أن تراه. اقترح شقيقها عليها إلا تفوت فرصة تفحص الماشية، أما بنات أخيها فقلن إن الأعمال التطريزية هي الشيء الوحيد الجدير بالاهتمام. وأكدت عليها صوفيا ضرورة رؤية معروضات معلبات المربى، بينما طلب منها أولاد شقيقتها أن تأتي بتقرير عن نتائج سباقات الخيل. وتوقفت العربة قرب الباب حيث تمت مساعدة العمة في الدخول إليها. وتراكض أفراد الأسرة جيئة وذهابا محملين بالبطانيات، شال صوفي وحجر صابوني ساخن من موقد المطبخ لتدفئة قدميها. ودعوها ملوحين بأيديهم ولوحت هي بيدها لكنها بالكاد رأتهم.

لدى عودتها إلى المنزل في ذلك المساء كان وجهها شاحبا كشحوب الموتى وجسدها متيبسا لحد أن شقيقها حملها خارج العربة لكن ابتسامة سعيدة ارتسمت على وجهها. والتف حولها أفراد الأسرة يسألونها أسئلة جمة لكن صوفيا أبعدتهم جانبا وقالت لهم إن عمتهم مرهقة ولا تستطيع الرد على أسئلتهم إلا بعد تتناول طعام العشاء. وأمسك الأولاد بلجام السنتهم بينما جلست عمتهم ميهاتبيل تحتسي الشاي وتأكل قطعة الخبز المحمص مع البيضة وهي شاردة الذهن.

بعد ذلك أعانوها على الجلوس في كرسي مريح قرب موقد النار واحتشدوا حولها تواقين إلى سماع أخبار العالم الكبير.

وهنا هتفت صوفيا قائلة "هيا يا ميهاتبيل أخبرينا عن رحلتك ".

وأخذت العمة نفسا طويلا ثم قالت "كان رائعا افضل حتى مما ظننت. كان معلقا في منتصف شيء يشبه الخزانة وكان احد اطرافه مقلوبا لرؤية اللفقات من الجانب السفلي".

- "ماذا" قالت صوفيا بقليل من الانشداه.

وأجابت ميهاتبيل بتعجب: "إنني أتكلم عن الغطاء المبرقع " ثم أردفت قائلة: " لقد كانت الغرفة مملوءه بالأغطية المبرقعة ولكنها لم تستطع أن تداني غطائي المبرقع. واذا قلت أنا هذا فمن ذا الذي لم يفكر بذلك لقد سمعت الكثير من الأشخاص يقولون نفس الشيء كان عليك ياصوفيا أن تسمعي ماذا قالت النسوة عن تلك الزاوية لقد قالوا... إنني أخجل أن أردد كلامهن إنني بالتأكيد أخجل ".

وسأل السيد ايلويل: " ما هو رأيك بالثور الكبير الذي سمعنا عنه الكثير هنا؟ ".

وأجابت العمة بغير مبالاة " لم ألق نظرة عام الماشية " ثم خاطبت إحدى بنات أخيها قائلة " أتذكرين يا ماريا قطعة القماش التي أعطيتني إياها من ثوبك الأحمر، لقد ناسبت الرسمة كثيرا لقد سمعت إحدى النساء تقول إنها تستطيع استنشاق الورود الحمراء المرسومة على الغطاء المبرقع ".

وسأل توماس ابن شقيقها قائلا: " ماذا كانت نتيجة فرس جيد برغيس الكميت في سباق الميل؟".

وردت العمة: " لم أشاهد سباقات الخيل ".

وسألت صوفيا: " وماذا عن معلبات المربى؟ ".

أجابت ميهاتبيل بهدوء " لم أر معلبات المربى ".

وبدأت ميهاتبيل بإعطاء أفراد العائلة شرحا معقولا عن تصرفها بعد أن رأت وجوههم المستغربة: " لقد اتجهت منذ البداية إلى القاعة الزراعية حيث يوجد الغطاء المبرقع وبعد ذلك لما أشأ الابتعاد عنه فلقد مرت مدة طويلة لم أره فيها. في البداية نظرت إليه بدقة ثم تفحصت الأغطية المبرقعة الأخرى الموجودة في القاعة لأتأكد بنفسي أن كان هناك غطاء يضاهيه جمالا. بعد ذلك بدأ الأشخاص يتوافدون إلى القاعة فرغبت بسماع تعليقات الآخرين حول عملي. ولم أستطع التفكير بالذهاب إلى مكان آخر. لقد تناولت طعام الغداء هناك أيضا وأنا مسرورة بانني فعلت ذلك فما تظنون انه حدث بعد ذلك؟- قالت وهي تحدق حولها بعينين متوهجتين- بينما كنت أحمل شطيرتي دخل رئيس اللجنة وفتح باب الخزانة الزجاجي وعلق ميدالية على منتصف الغطاء المبرقع مكتوبا عليها " الجائزة الأولى ".

وعلت ضجة من التهاني المبتهجة بعد ذلك عادت صوفيا تقول مستفسرة "ألم تري أي شيء آخر؟. وأجابت ميهاتبيل " بالطبع لا فقط الغطاء المبرقع ولماذا أفعل؟" واستغرقت في حلم اليقظة شعرت وكأن الغطاء المبرقع قد امتد أمام عينيها ثانية ورأت العظمة وهي تتألق حول إبداعها الفكري واليدوي. رغبت أن يشاركها أفراد الأسرة رؤياها الذهبية. جهدت بالبحث عن الكلمات وتلمست بارتباك عن مبالغات مبهمة وابتدأت كلامها قائلة "لقد كان يشبه.... " ثم توقفت وتذكرت عبارات غير واضحة من كتاب التراتيل والتي كانت التعابير الشعرية الوحيدة التي تعرفها لكنها انصرفت عنها لكونها تعابير مقدسة لا يمكن استخدامها في الحياة الحقيقية وأيضا لأنها غير باهرة ولا مذهلة وأخيرا أكدت لهم قائلة. " أستطيع أن أقول لكم : أنه كان بالفعل جيداً ".

ثم جلست تحملق في النار وعلى وجهها المسن والمرهق ارتسمت أسمى علامات الرضى لفنانة قد حققت غايتها

 

منى محمد العمادي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات