سيرة موسيقي

 سيرة موسيقي
        

          كنت أستمع صباح البارحة إلى السيمفونية الثانية لـ «جوستاف» ماهلر Mahler، وكنت قد أحببت وتذوقت موسيقاه منذ سنوات، عندما حضرت حفلاً موسيقياً في صالة «جافو» Gaveau في باريس وكان في البرنامج السيمفونية الخامسة، وبقيت أنغامها في رأسي، وتوثّقت صلتي بموسيقى «ماهلر» ومازالت، وهذا يعود إلى السبعينيات من القرن الماضي.

          اكتشف أبوه ومنذ السادسة من عمره أن ابنه مؤهل ليدرس الموسيقى، ولم تكن العائلة ميسورة وعدد الأبناء والبنات عشرة، لكن الوالد والعائلة قرروا إرساله إلى المعهد الموسيقي ذات يوم، إلى أن أتى هذا اليوم، وكان جوستاف «ماهلر» قد بلغ الخامسة عشرة من عمره.

***

          بقيت عيناه مفتوحتين طوال الرحلة من القرية إلى مدينة الفن وهو في القطار إلى فيينا Vienna، وسنرى إن كانت مؤلفاته في المستقبل ستعبّر عن الطبيعة بكل حالاتها وألوانها. تنفّس الصعداء عندما وجد نفسه في مدينة الموسيقى، وفي أجوائها ومقاهيها التي تضجّ بالرسامين والشعراء والموسيقيين.

          كانت العائلة تمدّه ببعض المال ليعيش ويتابع دروسه الموسيقية، وكان يشعر بضيق العائلة وهو كان يعلم ذلك، لهذا فهو يبتعد عن الأماكن التي يتطلب الدخول إليها ثمناً وهو لا يملكه، فمساعدات العائلة المالية متواضعة، لهذا عاش حياة متواضعة في مدينة الفن والفرح والحب.

          عندما انتهت مرحلة الدراسة، ورأى أنه بحاجة إلى مساعدة العائلة، أخذ يبحث عمّا يستطيع فعله ليكون بغنى عن المساعدة العائلية، اكتشف أنه يرغب بقيادة الأوركسترا، وتمنى أن يجد من يقبل به كقائد للأوركسترا، بعدما رُفضت أعماله الموسيقية، التي لم تكن تنال إعجاب القيّمين على الموسيقى في فيينا، لكنه داوم على التأليف، ولم يتوقف أيضاً عن البحث ليكون قائداً للأوركسترا، وبعد وقت ليس بقصير بدأ بقيادة فرق موسيقية ليست مهمّة، التي أصبحت تعطيه بعض المال، فاستغنى عندئذ عن مساعدات أهله المالية.

          في تلك الأيام، كانت المرأة من أحد اهتماماته، فكانت صلاته الغرامية كثيراً ما تكون حديث روّاد المقاهي من فنانين ونقّاد، والنقاد لم تكن كتاباتهم سوى الكلام اللاذع، لذاك اليهودي الذي بسلوكه وبتأليفه للموسيقى يرغب بالقفز فوق الموسيقى في فيينا وفي أوربا، لهذا فحرب الزملاء والنقّاد ضدّه دامت طوال حياته. لكنه صمد، وتابع تأليف السيمفونيات الواحدة بعد الأخرى، وقليلاً ما كانت تعزف، وإن عزفت فإنها كانت ترمى بالبيض والصراخ في الصالة حيث تقدّم.

          لكنه بقي صامداً. في ذلك الوقت أخذ اسمه يلمع قليلاً كقائد للأوركسترا، وأخذ يتقدم من أوركسترا أو فرقة موسيقية غير رسمية إلى قيادة أوركسترا مشهورة، وراح صيته إلى العواصم الأوربية، من هامبورج إلى برلين إلى باريس، وصار عندئذ من نجوم الفن في أوربا، ومن العاشقين العزّاب، حيث كانت نساء فيينا ينظرن إليه بعيون الحب والشهرة.

          في هامبورغ أنهى كتابة السيمفونية الثانية، وفي هذه المدينة الألمانية تعرّف على الموسيقي «ريتشارد شتراوس» كما تعرّف على الموسيقي الروسي الشهير «تشايكوفسكي» الذي أتى ليقدّم آخر أعماله الأوبرالية، وطلب من «ماهلر» أن يقوم بقيادة الموسيقى وبإخراج الأوبرا، وهكذا كان، ومن هامبورج - حيث أمضى أكثر من سنة في إدارة الموسيقى فيها - كثرت الدعوات له من العواصم الأوربية، كما لم تهدأ أقلام النقّاد من تعسّفها ومن كلماتها اللاذعة «لذلك اليهودي»، لكنه صمد وتطلع إلى إدارة الأوبرا الإمبراطورية في «فيينا»، فكان أن طلبت منه شرطان، الأول أن يترك هامبورج ويعود إلى «فيينا»، والشرط الثاني أن يتديّن بالكاثوليكية ويستغني عن دينه اليهودي.

          الشرطان لم يكن تحقيقهما صعباً، فهو يعشق «فيينا» لم يختر الدين اليهودي، بل ولد من أبوين يهوديين.

          ترك هامبورج وعاد إلى فيينا، وترك اليهودية ودخل في الكاثوليكية، بعدها فتحت له كل أبواب الشهرة في فيينا وفي العالم الغربي، إذ وصلت شهرته كقائد أوركسترا وكمؤلف موسيقي إلى أمريكا، وأصبح مديراً لأهم دار أوبرا في أوربا.

          أما النقاد فما برحوا يتابعونه بالنقد وبتسميته بـ«اليهودي». وكانت أوربا في تلك الأيام،  يعم في أجوائها التعصّب ضد اليهود، وجوستاف ماهلر الذي لم يتوقف عن شيئين مهمّين له، التأليف الموسيقي والعشق.

***

          عام 1901، كان مع زملاء له موسيقيين ورسامين وشعراء في أحد الأماكن المشهورة في «فيينا»، وقع نظره على فتاة سحرته بنظراتها المتبادلة، ورأى فيها وفي لحظات روح الفرح والجمال والذكاء، اسمها «الما ماريا شندلر» وتبلغ من العمر الثالثة والعشرين، هي مشهورة بذكائها ومشهورة أيضاً أنها أجمل فتاة في فيينا Vienna, وهو ذاك العاشق الدائم، المشهور بموسيقاه وبغراميّاته وبأنه الأعزب العبقري. ما كان منه إلا أن تقدم من «الما» Alma، وكان الرضا والقبول في جو مليء بالفرح حتى الثمالة.

          كان يكبرها بسنوات عدة، تزوّجا وبشروط، والشروط أتت منه ومنها: أولاً أن تطيعه. ثانياً أن تحترم موسيقاه. ثالثاً أن تترك التأليف الموسيقي، ويبقى في العائلة موسيقي واحد.. هو...

          الجدير بالذكر أن «الما» كانت موسيقية أيضاً، أطاعت زوجها، لكن الشروط مع الأيام خنقتها، وكان من الأصحاب «وولتر جروبيوس» Walter Gropius، المهندس المشهور الذي كان على رأس مدرسة الفنون في ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية، والتي ضمّ إليها كبار رسّامي ومهندسي ذلك العصر أمثال كاندنسكي الروسي وبول كليه السويسري الألماني وغيرهما. جروبيوس شجع «الما» على الطلاق من زوجها «ماهلر» والزواج منه، كما أن قصص الزوجين وصلت إلى العالم النفسي المشهور «فرويد» Freud.

***

          وقد كان العام 1906، عامه الأخير في فيينا، والذي صادف أن كان ذكرى مرور مائة وخمسين سنة على وفاة «موزارت» Mozart.

          توفي ماهلر عام 1911، وكان قد بدأ بتأليف سيمفونيته العاشرة إلا أن القدر لم يمهله، وهو كما بتهوفن وشوبرت، قد ألّف تسع سيمفونيات فقط.

          تعتبر موسيقاه من أهم الموسيقى الرومنطيقية، وهو الذي قال: «على الموسيقي أن يكون شاعراً ورساماً وفيلسوفاً وموسيقياً». كأنه يصف نفسه في هذه الجملة، ماهلر أحب الشعر وكانت له تجارب فيه، وعاشقاً للطبيعة وأشكالها وألوانها، ويرى هذا في موسيقاه المعبّرة عن فرح الطبيعة وحزنها. وكان فيلسوفاً في طريقة حياته وصعوده درجات صعبة في سلم الحياة الموسيقية والشهرة، وتنقّل قلبه من حب إلى حب، وكأن عمره سلسلة من ألحان وعشق. أما الموسيقي، فهو من أهم الموسيقيين الرومنطيقيين، إذ إن أفلاماً سينمائية استعارت مرّات عدة لحناً من ألحانه ليكون مرافقاً لحوادث قصة الفيلم، ولا ننسى فيلم «موت في البندقية» Mourir a Venise، الذي كتب قصته Thomas Mann، عندما تعرّف على موسيقى ماهلر، ثم تقرّب منه واصفاً موسيقاه بالموسيقى العظيمة، وكتب بعدها هذه القصة التي حققها للسينما المخرج الإيطالي الشهير Visconti«فسكونتي» واضعاً موسيقى ماهلر في دور مهم في الفيلم الذي جمع عباقرة الأدب والإخراج والتأليف الموسيقي، هذا ما جعل من هذا الفيلم فيلماً كلاسيكياً يستطيع أن يكون على رأس الفن السابع.
------------------------------
* فنان تشكيلي من لبنان.

 

 

 

أمين الباشا*