سيوة.. ضفة واسعة للحياة

سيوة.. ضفة واسعة للحياة
        

          كنت أمر بظروف صعبة في بداية التسعينيات، واخترت أن أسافر إلى واحة سيوة، التي تبعد عن الإسكندرية مسافة 700 كيلومتر، كان اختياري لهذه الواحة مثل ضربة الحظ، ليس لها سبب سوى أن اسمها برق فجأة في مخيلتي، كمكان يمكن أن أستعيد فيه هدوء حياتي.

          كنت أنتقل بجسدي وبعقلي بعيداً عن نقطة الأصل، حيث أحيا، تلك النقطة التي تعقدت من كثرة ما حدقت فيها، لأبحث عن نقطة جديدة في الطريق العام. بالتأكيد كان يمكن أن يكون هناك مكان آخر له طبيعة مختلفة أذهب إليه، وكان من الممكن كذلك أن يمنحني هذا الهدوء الذي أبحث عنه، وبالتالي ستكون هناك خريطة أخرى للذكريات. كل هذا يدفعني لأن أفكر في مدى العلاقة التي تربطنا بمكان ما، فبجانب هذا المكان الذي نحبه، هناك مكان آخر يمكن أن يمنحنا أيضاً هذا الحب أو الهدوء النفسي المنتظر، والصدفة فقط هي التي اختارت لنا. هل يمكن أن ننظر لحياتنا من هذا الجانب، أن هناك عشرات الاختيارات كانت تصلح لأن نعيشها، وأن قداسة حياتنا واختياراتنا، هي قداسة مجروحة باستمرار، لا يقويها سوى إيماننا الشخصي بما نفعله ونقوم به.

          اخترت الصحراء التي لا أعرفها، كنقيض للمدينة التي أعيش فيها، وهي الإسكندرية، اخترت هذا الآخر البعيد، لا لشيء سوى أنه بعيد وناء وغير متوقع. لم أكن أحمل للصحراء أي صور جاهزة سوى بعض الصور التي حملتها طفولتي عندما كنت أذهب لضاحية كينج مريوط القريبة من الإسكندرية، وكانت صحراء في ذلك الوقت يسكنها بعض العرب، وتتخذها الأرستقراطية كمشتى لها.

          بالتأكيد كنت أبحث عن خلاص ما، عن مكان مختلف يمكنني أن أذوب فيه، وينسيني أو يخفف عني بعض الآلام التي أحملها فوق صدري.

          الحياة البدائية في الواحة، وشكل البيوت الطينية، بجانب المساحات الشاسعة من النخيل، والتي تبتلعها مساحات شاسعة من كثبان الرمال، كل تلك المتناقضات، وضعت أمام ذاكرتي مركزاً بعيداً، أبعد من مركز ذاكرتي ذاته الذي يبدأ من لحظة ميلادي. هناك نقطة أبعد من الميلاد أصبحت مشدوداً لها، وسيرة أخرى أوسع من سيرتي تجذبني بهدوء، بدأت أشعر ببعض الراحة، وبالبراح الذي تمرح فيه ذاكرتي.

          ربما كانت الرحلة، من دون أن أدري، من أجل إيجاد مركز أبعد لحياتي، أن أؤصل لهذه الحياة الخاصة، وأمنحها قدماً وتعتيقاً، حتى تكتسب تلك المرونة والتعددية والصلابة التي كنت أبحث عنها، ولا سبيل لحصولي عليها داخل جدران البيت أو المدينة التي أحيا بها.

          المدينة تصدر للإنسان حساً قاتماً، بأن النهاية ستكون هنا، وسط العربات والصراخ والزحام، لا تمنح المدينة أفقا للتخيل بنهاية أخرى لها ضفاف واسعة. وأن مشكلاتك لن تجد لها حلا وسط هذه التفاصيل المرعبة والمكدّسة، جاءت المدينة لتصنع فجوة بين الإنسان وخارجه، بين ذاكرته المشحونة، لم يبق إلا النسيان ليساوي بين ذاكرة المدينة المكدسة والعشوائية وطويلة الأمد، وبين ذاكرة الإنسان الاختيارية، قصيرة الأمد، النسيان أو السفر.

بين البحر والصحراء

          المكان الوحيد في الإسكندرية الذي كان يمنحني أفقاً للتخيل هو البحر، وهو النقيض القريب للصحراء، نحتاج دائماً إلى مساحة خالية لنؤسس عليها نهايتنا ليذكرنا بنهاية رحبة، واسعة، غير محشورين فيها كأننا نساق في طابور طويل للإعدام. البحر والصحراء يكثفان لديك هذا الإحساس بالنهاية الرحبة، يرتد هذا الاتساع إلى نفسك ليقتص منها، ومن محدوديتها ومن أنانيتها.

          لماذا كنت أفكر بالنهاية وأنا كنت في بداية الثلاثينيات؟ بالتأكيد لا أقصد بالنهاية الموت، ولكن تلك المساحة من التخيّل التي تمرح فيها ذاكرتك باطمئنان. النهاية دائماً هي أحد مواجع الذاكرة. المدينة تضع حداً للتذكر، لأنها تخفي النهاية وسط التفاصيل الكثيرة، تعيد شريط الحياة عشرات المرات، نشاهد فيلم حياتنا، وهو يمر أمام أعيننا متثاقلاً، ربما الصحراء تصنع ذاكرة أخرى، لأن الزوال قائم وواضح، عندها تصبح الذاكرة أكثر حدة في التقاط شذرات الحياة المتناثرة فيما مضى وفيما سوف يأتي.

          كنت أريد أن أفقد الخريطة التي اعتادت عليها روحي وقدمي، شيء أشبه بالتيه، أي مكان غريب، يتحول إلى متاهة، لا تعرف موقع الخطوة القادمة، ولا موقع من ينتظرك على الجهة المقابلة، الصحراء بلا خريطة أمام الغريب، أو جهة مقابلة، ولكن هناك آخر ينتظرك دائماً، هذا الفضاء المحمّل بالتاريخ وبعلامات العبور، وليس الانتظار، ربما الواحة نوع من الانتظار المؤقت، أو الحياة المؤقتة، لأن المكان خلق خالياً، وسيعود خالياً كما كان. وبين بدايته ونهايته، يمكن أن تنسب نفسك وتكون إحدى علامات هذه الحياة المؤقتة، كأنك على وشك الرحيل، وهو شعور كان يبعث الراحة في نفسي في ذلك الوقت.

          في إحدى المرات أوصلتنا العربة لنقطة معينة داخل الصحراء من حول الواحة، تعطلت العربة، وعاد السائق بها للمدينة ليصلحها. كان هدفنا هو إحدى عيون المياه الساخنة التي تفجّرت في الصحراء وأصبحت أحد المزارات. كنا نراها بالعين المجردة، اقترحت على زوجتي أن نكمل الرحلة سيراً على الأقدام مادام المكان قريباً. هذه النقطة التي اعتقدنا أنها قريبة أخذت ساعات حتى وصلنا إليها، ساعات من الخوف والرعب بأننا فقدنا الطريق، الكل متشابه في الصحراء. الصحراء ليس لها مركز يمكن أن تستدل به، كنا ندور حول أنفسنا، بينما الشمس تغيب ومعها نفقد أي بارقة أمل بالوصول. تمكن منا اليأس، بمعناه العميق، كحبيبات من الثلج تجري في عروقك، في تلك اللحظة كنا نتحرك تحت عين الله مباشرة. سمعنا صوت عربة آتية بمجموعة من السائحين صحنا بأعلى صوت، بفرح النجاة.

رقصة اليأس

          طوال أيام مكوثي هناك، في زيارتي الأولى، ظللت أمشي لمسافات طويلة، ليس فقط لإجهاد الجسد واستنزاف طاقته ليكون على وشك أن يشف ويدخل في هذا الفضاء الجديد، كنت مسحوراً بكل ما أراه، ولم أجد ما أقدمه لهذا المكان سوى السير فيه، أضع خطواتي عليه، ربما هي رقصة اليأس التي تعوّدت عليها في كل لحظاتي الصعبة، أن أخلص لشيء ما، وأتفانى فيه. لأثبت لهذا الفضاء أني أستحق بعضاً من قوته. كان لابد من أن أقترب من إحدى صور الموت لكي أشعر بقرب هذا المكان. عند عودتي من رحلتي هال أصدقائي الحال التي وصلت إليها، اعتقدوني مريضاً، بسبب فقدان الوزن وشحوب الوجه، كانت هذه الكيلوجرامات المفقودة، هي هديتي لهذا المكان.

          أحب هذا النوع من الهدايا التي لا نعرف مصيرها، ولمن ستئول من بعدنا.

          تجوّلت في الصحراء، ونمت تحت قبة السماء المضيئة بالنجوم، وشربت من عيون المياه الجوفية ذات الطعم الثقيل المحمّل بمعادن الأرض، ونمت في الظهيرة في الحدائق تحت أشجار الزيتون، ومن حولنا تتساقط حباته الخضراء الثقيلة، فقد كان موسم جني المحصول. صوت ارتطام الحبات بالأرض، يشبه صوت زخات المطر على زجاج نوافذنا المضببة في الشتاء. خرجت منتشياً من حدائق الزيتون، هذا المكان الذي لا تحوطه جدران، تود ولو تعانق كل من يقابلك في الطريق، سواء كان شخصاً أو ذكرى. كنت قريباً من صورة وديعة للموت، هذا الحوار الصامت مع موجودات لا تراها، ولكنك تشعر بوجودها، حتى تملأ هذا الفضاء الذي تحلق فيه. ربما هو الحب. الآن أقابل الموت على أرض جديدة، لأنه قديم وخال من التفاصيل. كما كنت أهرب من الموت المعنوي الذي يحاصرني في المدينة، وموت والدي، ذهبت لنوع أكثر شفافية.

          في كل مكان بالواحة تشم رائحة أشجار الزيتون، ورائحة حرائقها، تستنشق رائحة الزيت القديم الذي يوضع في السراج ليملأ الليل بالرائحة والضوء الضعيف. هناك مكان آخر يقف وراء كل تفصيلة للحياة هنا، وحياة أخرى تقف وراء هذه الحياة، وهذا الفضاء. دائما ننظر إلى مسافة أبعد، وهذه المسافة الأبعد ترتد على ذاكرتك، ويمكنك الآن أن تطير بروحك، وعليك أن تدفع ضريبة هذا الطيران، بأن تتخلى عن ذاكرتك القديمة، ولو لبضعة أيام، أن تطحنها برحى صحراوية حتى تذوب كالرمال.

          الصحراء تتعامل مباشرة مع الذاكرة، تضع سداً منيعاً، تحاول أن تتذكر أو تطول بأطراف أصابعك كالغريق قشة من ذاكرتك القديمة، وفي النهاية تفشل، تغوص داخل هذا الفضاء والرمال المتحركة، الصحراء لا تعالج أمراض الذاكرة، إنها تقطع - كمافيولا المونتاج - الأجزاء الزائدة عن الحاجة، النسيان إحدى أدوات الصحراء، ربما هو نسيان مؤقت، ولكنه نسيان. تعيش ولادة فضاء جديد للذاكرة، كل تفصيلة تدخل فيه لها مكان، وطازجة، من دون نزاع مع أي تفصيلة أخرى، لأن الصراع يأتي من تركيب المدينة وصراعها من أجل الوصول للقمة. أما هنا فليس هناك قمة، هناك أفق ممتد بلا نهاية، كل شيء قابل للانشطار، للتفكك، للذوبان في فضاء عظيم وموحش، وحنون.

ذاكرة الصحراء

          للصحراء ذاكرة أوسع من الذاكرة المجهدة للوطن، أو ذاكرة الجماعة الاجتماعية، ذاكرة غير مرئية، لذا هي متألقة وتسمح بالإضافة.

          تشعرك الصحراء أنك في زمن آخر. هناك زمن آخر تسبح فيه، وهواء آخر، لتصل إلى نقطة بعيدة، البعد عن أي شيء؟ سوى أن هناك إحساساً دائماً بالمطاردة، وعليك الاستمرار في الابتعاد عن نقطة ما وراءك، خلف ظهرك، أو خلف حياتك. الصحراء تكشف عناء الشخصية وعصبها العاري. ربما هي نقطة زرعت في متخيلك. ما يؤرقنا ليس فقط تاريخ حياتنا وأزماته وأفراحه، بل تلك التواريخ التي تضاف إلى الذاكرة والخيال، ولو حاولت أن تتبع خيط حياتك، فربما يمتد هذا الخيط في هذا التاريخ السابح قبلك وبعدك، وأنت بينهما كنقطة تحاول أن تبحث عن مركز.

          هذه الحجارة المهدمة لمدينة سيوة القديمة كانت أقوى أثراً، هذا الشاهد على جماعات عبرت واختفت ولم يبق من حياتها، سوى هذه الحجارة، هناك قوة جذب أخرى ملهمة ليس مركزها فرد وإنما جماعة، أحسست بأني قريب من تلك الجماعة، عبر هذه الحجارة والجدران المهدمة، كنت أبحث عن تعاطف ما، ليس له وطأة وغير مسيّس، مع آخرين.

          من دون أن أدري بدأت في عقد مقارنة بين حياتي وبين حياة هذه الواحة. اعتقدت حياتي هي البقعة الضعيفة المحاطة بسلسلة من الجبال، وهو التوصيف الجغرافي للواحة، ومادامت الواحة عاشت وسط هذه التضاريس الصعبة، فحياتي ستستمر، مهما كان ما يحيط بها. ستستمر كبقعة ضعيفة، لو نظرت إليها كفرد هش زائل، وهو المكان الحسّاس للاستمتاع بثقل الحياة وعشوائيتها وتنوعها، أن ترى من مكان ضعيفاً، لأنك الأقل، وهي دونية أصيلة، في العمق هناك شبه بين أي سيرة حياة سواء كانت لجماد أو لإنسان، وهي التحول من أجل الاستمرار والبقاء.

          حدثت مفاجأة، إن هذه الذاكرة التي كنت أحملها والتي تحولت إلى رمال، بدأت في الاستيقاظ مرة أخرى، بعد عودتي من رحلتي، وأخذت تتجمع مرة أخرى وتشكّل من جديد تاريخي الشخصي وتاريخ كل الأشخاص الذين يعيشون فيها. أصبحت أمتلك حدة في التحديق في أعماقي وأعماق من حولي. هل الصحراء هي السبب؟ أعتقد ذلك. من دون البحث في الأسباب.

          أصبحت سيوة مكاني المفضل، أذهب وأعود، أصبحت أحملها كقرين روحي، ومنحتني كتابا سميته «خطوط الضعف» مزجت فيه بين سيرتي الذاتية وسيرة الواحة والصحراء. وهو الكتاب الذي اعتبره تأسيسياً بالنسبة لي، كتاب منتصف العمر والقاموس الذي ستبث فيه مفرداتك ويظل يلازمك زمناً طويلاً. وأعتقد لولا ذهابي لسيوة ما كتبت هذا الكتاب، كان من الصعب أن أكتب عن أشخاص قريبين إلا وسط هذه العزلة الثرية التي منحتني إياها الواحة. ولولا هذا التقسيم الجغرافي للواحة الذي ألهمني فكرة الكتاب وعنوانه، وهو البحث بدأب عن خطوط الضعف التي تتخلل حياتك. هذا النوع المغاير من الموت الذي قابلته هناك، كان سندا لي لأتأمل موت القريبين، بل موتي نفسه، على أرض جديدة، وسط هذا الفضاء والرمال والمباني الطينية، والمركز الأبعد من الميلاد، لقد قابلت صورة من الموت الجماعي، اللامعتين، جعلت صورتي التي أحملها عن الموت باهتة، لأنها صورة شخصية مهما حاولنا تظل حياة أو موت الجماعة أحد المسارات العاطفية المشحونة التي تظل تطارد وحدتنا وهشاشتنا، المواساة التي يمنحها لنا التاريخ.

تحت قبة السماء العظيمة

          أتذكر الليالي التي قضيناها تحت قبة السماء العظيمة، متحلقين حول ركية النار، مع الأصدقاء من أهل الواحة، داخل هذه البقعة الضوئية، استمعنا إلى حكايات يوسف عثمان وعلوش، وغيرهما من شباب الواحة، والذين أصبحوا أصدقاء لنا. وسردنا أيضاً حكاياتنا، كانت بقعة الضوء هذه هي مكان اللقاء بين طريقتين للحكي، أي بقعة ضوء في ليل الواحة تجذب إليها حكاءين ومستمعين، يأتون من الظلام ويأخذون مكانهم، وتتسع الدائرة، وتتمدد الصحراء من أمامك كحكاية ناس بسطاء، فليس بطولة منهم أن يعيشوا هنا، وليس بطولة منا أن نعيش في المدينة، إنها الصدفة التي جعلتنا مختلفين ولنا حكايات مختلفة، وعلينا أن نتحمل تبعات هذه الصدفة.

          تطورت علاقتي بيوسف عثمان، وأصبح صديقاً لي ولزوجتي ولأصدقائي. عندما نذهب إلى هناك يصحبنا في جولاتنا ليعرفنا على واحته التي لم نعرفها بعد. هذه الحياة البدائية التي عاشها أورثته ذكاء روحياً، وأسلوباً نادراً في معاملة الناس. تزوج مرتين، وأنجب ذرية كبيرة، ولم يبلغ الثلاثين بعد. مخاطرة لا يقوم بها أي شاب يعيش في المدينة، ليس فقط لأن يوسف يتبع عادات القبيلة التي ينتمي إليها، وإنما لأنه يملك روحاً مجازفة. يصرف كل ما في جيبه، ولا ينتظر ماذا سيحدث غداً. هذه الروح المغامرة كما أورثته الكثير من الغم، أورثته أيضاً جرأة رومانسية، وخبرة في تسيير الحياة مهما صعبت عليه، لأنه يرى شيئاً قادماً ينتظره خلف كل لحظات أزماته، وبالفعل صدق حدسه في الكثير من المواقف الصعبة.

          أغرانا يوسف بشراء قطعة أرض في سيوة، وبالفعل استسلمنا لإغرائه، واشترينا الأرض، بالقرب من الكثبان الرملية، وحلمنا، أنا وزوجتي، بهذا البيت الذي سنبنيه هناك. البيت الذي حلمت بأن أقضي فيه سنوات حياتي الأخيرة. دائماً كنت أحلم بمكان بعيد وحياة بعيدة، دائماً كان البعد في المسافة والزمن محركين لي لاستمراري في الحياة، وتقبلها بشغف من لا يملك ولكنه يأمل باستمرار. حتى الآن لم نبن البيت بعد، فمازال هناك وقت للتلكؤ، ولكني أعتبره موجوداً بالفعل، لأنه أصبح يحتل جزءاً في خيالي ومن ذاكرتي. تلك الذاكرة التي تؤسس الآن للمستقبل، اختارت هذه الواحة لتنقش فيها ذكرياتها. سنوات قادمة بلا انفجارات، فقد أصبح سطح الذاكرة كالرمال، أي أثر أو نقش، لا يثبت، ويعاد تشكيله عشرات المرات، بالحركة الذاتية والضعيفة لذرات الرمال، والتي لا تلاحظ بالعين المجردة، ولكنها فجأة وذات نهار، تجد جبلاً عالياً، لا تصدق بأن ذكرياتك الصغيرة والهشة والعابرة والمؤقتة، هي القلب الحي لهذا الجبل. مازلت أتذكر بحب ذلك الشخص الذي حزم حقائبه ذات صباح منذ سبع عشرة سنة وذهب إلى هناك، ومازال يبحث عن ضفة واسعة لحياته.
------------------------------------
* كاتب من مصر.
** فنانة مصرية.

 

علاء خالد*