عواطف القوميين عقلانية الواقعيين !!

عواطف القوميين عقلانية الواقعيين !!

لا أريد هنا وصف أو تأريخ "القومية" التي يطل علينا من خلالها بعض المنظرين العرب من وقت لآخر. ويلوم الواقع العربي الذي نبذ "القومية" كجامع لآمال وطموحات الشعوب العربية. لكن مناسبة الحديث هذا.. هي حوار دار حول مستقبل الأمة العربية في ظل التحديات القائمة، حيث انبرى أحدهم مفنداً أن لا مستقبل للعرب إلا بالعودة إلى "القومية". وكان لابد من ردود مقنعة على صاحبنا الذي يؤمن بضرورة تجاوز العقبات. ولو كان أحدها مسح بلد عربي من على الخريطة العالمية واعتباره خطأ قيادة!!.

ماذا فعلت القومية؟

الإشكالية لدى بعض المُنظرين العرب أنهم يحلمون والحلم شيء جميل.. لكنهم يريدون تطبيق هذا الحلم أو الأحلام على واقع لا يقبل هذا النوع من الأحلام!!. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ماذا عملت القومية للشعب العربي? محلياً وإقليمياً?! هل خلصّت القومية الشعب العربي من إذلال الاحتلال العسكري? وهل نظمت الاقتصاد الداخلي والإقليمي? وهل أكدت مفاهيم الانتماء.. وحاربت "الانقضاض" على الدول الصغيرة.. وهل أوجدت القاسم المشترك للتقارب العربي ـ على أرض الواقع ـ بعيداً عن شطر الشعب العربي إلى شطرين "أهل اليسر" و"أهل العسر" .

إن دول مجلس التعاون قد أرضعت مبادىء القومية لأطفالها منذ الخمسينيات، وظهر جيل يحمل كل معاني الانتماء العربي، وعاند هذا الجيل الواقع السياسي ردحاً من الزمن ـ حتى جاءت كارثة احتلال العراق للكويت فحدث النكوص.. و"الكفر" بمبادىء القومية، حيث إن حُماتها صاروا سالبيها!! ولمس الجيل الجديد أن الأغاني الحماسية والشعارات التي تطلق تمجيداً للقومية لا يقابلها عمل محلي في الدول "الحاضنة" للقومية، بل تجد فساداً إدارياً، وقمعاً أمنياً، وجهلاً اجتماعياً، وخروقاً للنظام، وهدماً للبنى التحتية، وكان على دول مجلس التعاون "أهل اليسر" أن تدفع لهذا النظام أو ذاك التزاماً بالقومية والمصير المشترك والحفاظ على قدرة الدول العربية في مواجهة أعداء الأمة العربية. لكن بعض "أهل العسر" ودعاة القومية منهم لا يوصلون هذا الدعم "الدفع" للشعوب. ويصرفونه هنا وهناك بما يدعم القصور والمباهج القيادية، كما أن كل الدعم لا يُنشر أو يصرّح به للشعوب.. ومقابل ذلك ـ وعملاً بحرية الصحافة والديمقراطية ـ لا تتورع بعض الدول عن نشر صور دعائية غير منصفة عن دول مجلس التعاون.. مما يزيد في جهل المجتمعات في تلك الدول بحقيقة انتماء دول المجلس للحظيرة العربية.. وبما يجعل "أهل الثقافة الفقراء" دوماً في حاجة إلى فئات "أهل الثروة الأميين" كما قال أحد الكتاب العرب، وهذا قول مخالف للتاريخ والمنطق.

من هنا جاء الخلط بين مفهوم "القومية" والعلاقة بين الدول العربية ومن بينها دول "أهل اليسر" كما يُقال. وحدثت حالة تشتت بين مفكري الأمة لاحظها الدكتور محمد الرميحي أنها سارت في موجات رئيسية ثلاث، هي: القومية العربية.. وهي نزعة فاشية إلى حد ما، وذات شعارات رنانة، ولكنها مفرغة من المحتوى. ثم موجة ثانية مُستقاة من الخارج دون أن نشبعها أو نستنبتها محلياً فكان لها عيوب كثيرة، ثم استقينا أيضاً ما سميناه الاشتراكية أو الاشتراكية العربية، وهذه كانت مُصدرة من الخارج، ثم قمنا باسمها بأعمال بعيدة عن الإدارة العلمية الحديثة للمجتمع، والمؤسف أننا الآن نتحدث عن وعي إسلامي ويبدو لي أن هذا أيضاً يدور في الحلقة نفسها التي دارت فيها كل من القومية العربية والاشتراكية العربية". "القبس 18/5/1996"

من هنا يتضح لنا أن الشعب العربي "المكسور".. و"المطحون" في أكثر الدول قد حاول التمسك بأي حبل ولو كان واهناً بغية تحقيق شكل مستقبله، لكن واقعه كان أقسى من ذلك.. فهزمته الاشتراكية وأفقرته إلى حد التسوّل!! وهامت به القومية في دنيا الأحلام ـ وسماع أقوال القادة المفوهين ـ حتى ضربه العدوان العسكري، وحاصره الجوع الاقتصادي، وجاء "النظام العالمي الجديد" ليحدد له ملامح مستقبله.. حيث استقال العديد من مفكري الأمة من "نادي القومية" بعد الثاني من أغسطس 1990، لأن شروط عضوية النادي لم تكن تهدف ـ في حقيقة الأمر ـ إلى لم شمل العرب ومعالجة قضاياهم بروح الحوار والتآخي، بل بالقوة أحيانا مع بعض الأعضاء وبالمهادنة مع الآخرين، وكان من نصيب الأعضاء من "أهل اليسر" أن يتم التعامل معهم بالقوة.. لهذا استقال منهم عدد كبير.. وبقي بقية الأعضاء يواصلون حسهم القومي.. بل وبتأكيد واضح لنسيان الاعتداء على الكويت، ونسيان كل الأضرار التي لحقت بدول المجلس، وكل تبعات العدوان على الكويت، حيث أفرز ذلك تحولات كثيرة سوف تعاني منها شعوب المنطقة لدهور طويلة.. ولقد كان الهاجس الأوضح لدى "دعاة القومية" هو مبدأ أو مطمح "اقتسام الثروة" العربية.. وهو مطمح بعيد جداً عن الوجه الجميل للقومية.. بل إنه صورة "فاشية" كما قال الدكتور الرميحي.. خصوصاً عند ربط الثروة "بالأمية".. والتخلف الذي ألصقه "أهل الثقافة" بـ "أهل الثروة".. ومن هنا حدث التشتت في فكر الإنسان العربي.. وحدث الجوع، والتخلف وعدم الإنتاج، والتقهقر، والاستهلاكية.. تماماً كما حدث تراجع استراتيجي وسياسي/ عسكري.. وبهتت الصورة الجميلة "نحو أمة عربية ذات رسالة خالدة".. وظهرت بوادر "خواء" مضمون القومية في انفصال الاتحادات، والانقضاض على الدول، ومحاولة فرض سياسة الأمر الواقع، بل و"التحاشد" العسكري على حدود دول القومية.. بل وقمع قيادات الشعب الواحد ذي المنطقتين الجغرافيتين.. والاستيلاء على مقدرات الشعب.. بل وكشفت اعتراضات بعض القادة عن وجود مخططات لدى بعض التجمعات العربية ـ التي انهارت ـ لتغيير الواقع الجغرافي والسياسي لبعض الدول العربية ـ لكن مشكلة الشعب العربي في بعض الدول القومية أنه لا يقرأ.. وإن قرأ فبعين واحدة ـ وهي عين النظام. وإن كتب فيكتب بقلم النظام. بل ولا يستطيع البعض التحدث إلى الجدران خوفاً من أن تكون من مخابرات النظام.

ضد التيار العالمي

هل القومية أطماع اقتصادية؟؟
هل القومية دولة مخابرات، وقمع، وزوار ليل، وفساد اقتصادي؟

هل القومية "تأليه" الحاكم الأوحد.. وقتل ملايين الأبرياء في حروب خاسرة.

وهل القومية سير ضد التيار العالمي الذي يحتكم إلى المنطق والحوار ونبذ العنف?

وأخيراً هل القومية "إخلاء" خزائن "أهل اليسر" ونقلها لتسليح دول "أهل العسر" كي يقوموا بمغامرات خاسرة!! ويدخلوا شعوبهم والشعب العربي بأسره في دائرة "العوز" الاقتصادي، ويضعون شعوبهم رهن الحصار الدولي دون سبب?!.

فباسم القومية مات مئات الآلاف من الشعب العربي.. وباسم القومية تشرد مبدعون ومفكرون عرب على شوارع لندن وباريس ونيويورك.. وباسم القومية احتلت الكويت ونُهبت وحُطمت بُنياها التحتية.. وباسم القومية يتم تأليب الرأي العام ضد شعب الخليج ونعته بـ "أحقر" الصفات.. وهم غافلون عن حجم التطور الفكري والإنمائي الذي وصل إليه. وتزايدت أعداد الخريجين من أرقى الجامعات العالمية.. ودخول المرأة مجالات العمل المختلفة.. وأخذ مجتمع الخليج بأحدث أساليب العلاج.. وتقنيات الخدمة الاجتماعية وتوفير أرقى نماذج الحياة لشعب الخليج وللجاليات العربية والأجنبية التي تعيش في المنطقة.. وتوفير الأمن والعدالة لكل المواطنين.

الحوار يطول حول مفاهيم "القومية" كمبادىء لا نختلف عليها، لكن تطبيقاتها على الواقع ـ وبأمثلة متعاقبة ـ تجعلنا نؤمن حق الإيمان بحتمية "الكفر" بتلك الأحلام التي وأدها أصحابها وهي في المهد، إننا ندعو إلى عقلانية في التفكير العربي.. فنحن لا نعيش في فراغ.. ولا يمكن أن نتحاور مع العالم دون أدنى تفاهم حول القواسم المشتركة للحوار الحديث القائم على الواقعية والبعيد عن الأحلام.. والواقعية هذه تفرض ضمن ما تفرض تبادل المصالح دون اتخاذ الأيديولوجيات "طواطم" تنحني أمامها الشعوب.

كما أن السير في ركب القطار الدولي يُجبرنا ـ كعرب ـ ألا نكون شاذين إلا في حقوقنا ـ عن التوجه الدولي، مهما حلمنا وتعمقّت فينا "قومية" الخمسينيات والتي لم تحقق لنا ولو بصيص أمل من الحلم الكبير.

حوار مفتوح

القومية يجب أن تكون في الإنتاج وتحريك "الماكينة"، وليست في زج الشباب في معسكرات الحروب، ومغامرات الأنظمة "المقهورة".. والقومية يجب أن تكون في تبادل الخبرات العربية بشكل مصالحي يحقق الترابط والرخاء لكل الشعوب العربية وليس في ملء خزائن بعض الأنظمة بالأموال، بينما تتضور الشعوب جوعاً.. ويسرح الأطفال في الشوارع.. وينخر التخلف في دوائر الدولة.. كما ينخر الإعلام "المزيف" في عقول الشعوب المحكومة بالحديد والنار.. ونهم الاغتصاب.

القومية يجب أن نفتح حواراً مع كل البشر.. ونخاصم بالمنطق والحجة.. ونعلم أطفالنا لغة الحوار لا لغة العاطفة!! وأن ننسف مناهج التعليم التي تتبدل فيها ـ حتى المواد الثابتة كالتاريخ والجغرافيا ـ حسب مزاج النظام واتجاهاته الفردية دونما احتساب لمنطق التاريخ والجغرافيا ولا لحقوق الشعب في الداخل أن يكون أطفاله وشبابه أصحاء فكرياً، وذلك من خلال التبديل والتلفيق في مناهج الدراسة.

القومية يجب أن تكون حوارا عقلانياً بين الشعوب، لا معاهدات ومغامرات من الأنظمة، ولقد سقطت دعاوى "الديمقراطية" في البلدان العربية التي تلحفت بأرديتها المزيفة طويلاً.. تماما كما سقطت دعاوى القومية لاحقاً.. وبدأ التشتت الفكري، وتوزع الشباب العربي في آتون تيارات متعددة تسير في اتجاهات كثيرة ومتشابكة ومُعقدة، لكنها ابداً لن تسير في صالح الأمة العربية.. فالعروبة واضحة، والإسلام واضح، والأخذ بمعايير الواقع أيضاً واضح!!.

لقد كان العديد من أبناء هذه الأمة يقرأ ويفهم شيئاً، لكنهم اليوم لا يقرأون وأيضاً لا يفهمون!.

 

أحمد عبدالملك