إلي أن نلتقي

إلى أن نلتقي

عن "النكتة"

زعيم عربي غريب - وما أكثرهم - صرح بأنه يجب ألا نضحك على النكتة، بل يجب اعتقال قائلها وتعريضه للعقاب والتعذيب حتى يعترف على من قالها له.

سوف يحتار هذا الزعيم كثيرا، وسوف يبالغ في تعذيب أفراد شعبه إذا أصر على ذلك، فلا أحد يمكنه أن يقاوم الضحك على نكتة جيدة حتى ولو كانت على نفسه، ولا أحد أيضا يدعي شرف تأليف نكتة مهما كانت فتاكته، كل النكت منقولة وخلفها عبقري مجهول، هو الطبيعة الإنسانية التي ترفض الاستسلام للألم وتحاربه بالكلمات، والزعيم العربي إياه من ذلك النوع الذي ملأ حياتنا غما وكمدا، ولكنه في المقابل أدى خدمات جليلة لكل رواة النكتة ومريديها، فقد تولدت من تصرفاته عشرات النكت أصبح هو بطلها الدائم والأوحد.

ليست هذه هي القضية الأولى، فالزعماء يأتون ويروحون والنكت باقية، أشبه بنبات بري يظهر دون أصل معروف ثم تبدأ الألسنة في تداولها لتضيف إليها عشرات التفاصيل حتى تصبح "حريفة" على الأذن، جديرة بالقهقهة، وهناك كتاب متخصصون في النكت فقط يضيفونها للمسرحيات والأفلام الثقيلة الظل، وهم لا يؤلفون نكتا جديدة بقدر ما يستفيدون من تراث طويل يحرص فيه الإنسان على مواصلة الضحك حتى يطهر روحه.

وفي إحدى قصص الخيال العلمي للكاتب الشهير إيزاك أسيموف، يجمع أحد العلماء كل النكت على كمبيوتر كي يحللها ويعرف مصدرها، ويكتشف في النهاية أن النكتة لا مؤلف لها على وجه الأرض، وأن سكان كوكب آخر يبعثون بها إلينا كي نضحك وننفعل، ويستطيعون هم بواسطتها قياس كل الانفعالات، أي أنها مجسات اختبار يعرفون بواسطتها نقاط القوة والضعف في نفوسنا.

ولكن دور النكتة لا يقف عند حد النقد اللاذع، فهي تأخذ دورا أخطر من ذلك حين تكون أسلوبا للتطهر والتسامي والبحث عن الجانب "الكوميدي " في المأساة مهما كانت صعوبتها، ولعل هذا هو أبرز ما يحدث في الكويت الآن، فهم يحاولون تذكر الجانب المضحك من مأساة الاحتلال.

لقد لبثت أوربا وأمريكا أكثر من عشرين عاما كي تكتشف الجانب الكوميدي من الحرب العالمية الثانية، واستغرق الأمر وقتا أطول مع السوفييت، وأصبحنا أخيرا نسمع نكاتا، ونشاهد أفلاما كوميدية يدخل فيها الألمان والحلفاء في حروب مضحكة أشبه بالمقالب منها بالمعارك الحقيقية، ولكن أناس الكويت الذين يتبادلون الطرائف والنكات حول الغزو قد وصلوا إلى هذا التغيير سريعا، إنها رغبة عارمة في نفس كل واحد منهم حتى يتطهر من أدران هذه المأساة وأن يعلو بنفسه على أحاسيس المرارة والكراهية تجاه العدو وأن يضمد جرحه ببلسم الكلمات، فهم لا يريدون أن يتركوا أنفسهم لحدة هذه المشاعر حتى لا تحدث في النفس جراحا أشد غورا، إنها رغبة التسامي لشعب لا يستطيع أن ينسى ولكنه يريد أن يتسامح، ورغم أن المسألة تبدو صعبة إلا أنه قد بدأ الخطوة الأولى حين يتذكر ما حدث.. كل ما حدث.. فيضحك..

 

أنور الياسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات