إبداعات أديب راحل سلام على جبرا صلاح فضل

إبداعات أديب راحل سلام على جبرا

لم يكن إيقاع الاسم الثلاثي المكرر فحسب هو الذي يجمع في مخيلتي دائما بين قطب المهجر الرومانسي جبران خليل جبران (1883 - 1931) بنبرته النبوية وبشارته الفنية، ونجم المهجر الواقعي جبرا إبراهيم جبرا (1920 - 1994) بحيويته الفنية وإنجازاته الجمالية، ولكن كانت هناك أشياء أخرى أكثر جوهرية تربط بينهما.

لعله امتلاك الشعر وروح العصر في قبضة يد واحدة، أو لعلها القدرة على اختراع اللغة وإخصابها بتزاوج الفنون والآداب المنتمية للثقافات المختلفة، أو لعلها فوق ذلك الشجاعة الفائقة في تحويل الهامش الفكري إلى صلب عارم مستقطب لما عداه هو ذلك الشيء الجوهري. ولو ذهبنا نستقصي وجوه التشابه والاختلاف بين جبرا وجدان لما توقفنا عند هذا الحد، ولكن شيئا في عبقرية العربية وأبنائها يجعل من بعضهم استجابة قصوى للتحديات التاريخية، حيث ينفجر بطاقة روحية لا نظير لها فتستحيل حياته كلها إلى كتلة من الوهج الحضاري الفاتن، خاصة عندما يجعل الشعر والفن رسالة إنسانية نبيلة تتجاوز حدود اللغات والقوميات في منبعها وفي مصبها معا، عندئذ تشتبك بالجذور الممتدة في نسغ التاريخ البشري لتمثل إضافة جوهرية لأشكال الأدب والفن والفكر الجمالي المعاصر.

ولئن حمل كل منهما تاريخ أمته على ظهره، وهاجر به من موطنه، حيث اغترب جبران في القارة الجديدة، وأرغم جبرا على ترك القدس وبناء حوائطه في بغداد منذ عام 1948 حتى قضى نحبه فإن الفروق الماثلة في منجزهما الفكري والإبداعي تجسد التطور التاريخي للعرب بين بداية القرن ونهايته، بين أحلام الإصلاح الكوني والعودة لحدائق الأنبياء عند جبران وشهوة التقدم الحضاري وصعوبات التمزق الدرامي القومي عند جبرا، ويبدو أن مسرح التاريخ الذي كان مولعا بلذاته ومواجعه يسدل ستار القرن على مزيد من الأسئلة المتشوقة لاستطلاع المستقبل.

الوله بالشعر والنفاذ إلى الكون من خلاله كان مدخل جبرا إلى الفكر الإبداعي، ولقد وصف في صفحات مطولة كيفية تفتح مداركه على سحر الكلمات، لكن صدمة الشعر الغربي والإنجليزي على وجه التحديد هي التي هزت كيانه وصبغت حدقته وأيقظت قدراته الخلاقة، خاصة لتشابكها مع بقية خيوط النسيج الإبداعي للفنون التشكيلية والموسيقية، مما طبع جبرا منذ بداية حياته على الاستغراق في التجربة الجمالية الكلية قبل تأمل قسماتها المتميزة في الأجناس الأدبية المختلفة ومحاولة تحقيقها في إنتاجه، وهو يصف لنا هذا الوله الشعري بالحياة قائلا في " معايشة النمرة": "عشر يناتي الأولى، عام ما كنت منهمكا في مطالعته، وعلى ما كنت متعلقا به من حركات الرسم والنحت منذ النهضة الأوربية حتى ماتيس وبراك وبيكاسو، كان الشعراء بعض صانعيها ومحفريها ومالئيها، ما افتتنت بامرأة، وما عشقت حسدا أو حجرا، وما أخذت بفكرة، وما أحببت لونا أو خطا أو زهرة في الغابات، بسم الصخور، عام ركام الخرائب، مع أروع المباني، إلا وكان في شعر هؤلاء المبدعين (ويعدد عشرات منهم) الدافع الأعظم لعواطفي، لإدراكي، لنفاذي إلى قلب الأشياء جميعا.. كل كان الشعر خلاقا ورائعا يومئذ!"

ولقد حمله هذا العشق المبكر لتعرية الحياة والتماس منابعها في آداب اللغات الحية على اعتبار الحواجز بينها عوائق لا بد مات التغلب عليها لتحقيق أعظم قدر من التواصل الحضاري. فالترجمة بالنسبة نجما ضرورة لإثراء الفكرة الإبداعي واختزال فترة استيعابنا للتجربة الحضارية الإنسانية، وهي وحدها الكفيلة بتلبية حاجاتنا المعرفية المعاصرة: فكثير من التساؤلات الفكرية والسياسية والاجتماعية والعمرانية التي عرفناها في المائة سنة الأخيرة هي في الواقع - كما تساؤلات غربية في جوهرها. وقد وحدنا في هذه المرحلة من نهوضنا القومي أنه لا بد من أن نطرح التساؤلات نفسها، ونرى مكاننا منها جميعا، وإلا بقينا على الهامش، بل بقينا عرضة للهيمنة مرة أخرى. فلكي نحقق حضارتنا يجب أن نكون عصريين، بل في منتهى العصرية - على حد تعبيره- لا في الأدب والفن فحسب، وإنما في جميع تجليات العلم والمعرفة والحياة.

وكانت اختيارات جبرا في الترجمة تأتي استشعارا حساسا لما يريد تطعيم الثقافة العربية بجرعات فائقة منه، ولعل أوضح نموذج على ذلك الفصل البديع الذي ترجمه في الأربعينيات من كتاب " جيمس فريزر" الأنثروبولوجي" الغصن الذهبي "وهو بعنوان " أدونيس أو تموز"، والذي رفضت لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة نشره لما فيه من جرأة، ومارس تأثيره في الحركة الشعرية العربية وهو لا يزال مخطوطا يتداوله كثير من شباب الشعراء العرب ويرون فيه صورة للمعتقدات والعادات التي كان الناس قديما يمارسونها في مراسم الخصب وطقوس العبادات الوثنية، مما كان له أثر عميق في الإبداع الغربي بما هيأه للشعراء والكتاب من ثروة رمزية وأسطورية، وامتد هذا الأثر بشكل ملموس لدى مدرسة شعراء التفعيلة العرب منذ ذلك التاريخ حتى الآن. لكن اللافت للنظر أن عشق جبرا الأول كان للمسرح الشعري الذي قاربه مترجما متفانيا يصب من خلاله ذوب روحه الشعري دون أد يتجاوز ذلك أبدا إلى التأليف فيه، على كثرة إنتاجه في الفنون المختلفة، ووعيه الحاد بأهمية الدراما الشعرية واستقطارها لكثير من الجماليات اللغوية والتشكيلية. وربما كانت محاولته الأولى في الترجمة المسرحية هي التي قام بها عام 1938 وهو في الثامنة عشرة من عمره، عندما كان طالبا في الكلية العربية بالقدس يدرس التربية وعلم النفس، إلى جانب الأدبين العربي والإنجليزي، لنيل " دبلوم في التربية " يفتح له أبواب العمل في حقل التعليم في مختلف الأقطار العربية. وفي تلك السنة اكتشف- كما يروي- الشعراء الرومانسيين الإنجليز ووقع في غرام "شيلي" و "جون كيتس"، التهم شعرهما، وقام بترجمة بعضه، مثل قصيدتي " كيتس": "أغنية إلى بلبل" و"أغنية عن إناء إغريقي"، إذ وجد في ذلك الشعر تعبيرا عن الكثير من العواطف التي راحت تتأجج في نفسه تجاه أمور ثلاثة بدت له حينئذ مهمة وخطيرة، وتستحق أن يحيا المرء لأجلها، وهي الجمال والحب والحرية، ثيمات الرومانسية الكبرى.

وعندما قرأ دراما شيلي الشعرية " برومثيوس طليقا " اختتمت بها مثبت لويس عوض في مصر، وبدأ بترجمتها ولم يتوقف إلا لأنه وجد نفسه- على حد تعبيره - موزعا في ألف اتجاه يستعجل الحياة والحب والمعرفة حتى الألم. وعندما عاد إليها لينشر الجزء الذي أنجزه منها بعد ذلك بأربعين عاما وجد أنه لا يستطيع أن يغل!! فيها جملة واحدة مما كتبه في صباه المبكر. وقد عاود بإصرار دءوب خلال فترات متباعدة نشاطه المنتظم في ترجمة المسرح الشرقي بأناة وإتقان جعلت أعماله تكتسب طابع الكلاسيكية الرزينة، فتخصص لا نقل مسرح شكسبير إلى اللغة العربية في صيغته النهائية بعد محاولات مطران وغيره، حيث أنجز سبع مسرحيات محل أعماله الكبرى مع مقدمات ودراسات ضافية. وترجم كذلك ثلاثة كتب نقدية عنه، هي "شكسبير معاصرنا" ليان كوت، و"شكسبير والإنسان المتوحد" لجانيت ديلون، و"ما الذي يحدث في هاملت" لجن دوفر ولسون، بالإضافة لكتاب أريك بنتلي المهم "الحياة في الدراما"، ومسرحية صموئيل بيكيت " في انتظار جودو".

على أن كل ذلك الولع بالمسرح لم يسفر عن محاولة واحدة في كتابته تأليفا، مع أنه قد أتيح له أكثر من أي كاتب عربي معاصر فرصة تأمل البناء الداخلي للدراما الشعرية، وكيفية خلق الشخوص وتحريكها، ونصب الموقف إثارتها، وتنمية الحوارات وضبط إيقاعها، وتكوين البنية الدرامية في نهاية الأمر، والذي يزيد من غرابة هذه الظاهرة أن جبرا كان منذ بدايته أميل إلى الإبداع منه إلى النقد، وأقرب إلى التأليف الأجناس الأدبية الجديدة كما سنرى في الرواية، فما الذي جعله يا ترى يقتصر في عشقه للمسرح على الترجمة فحسب؟ هل أدى استغراقه الشديد في عالم شكسبير المعجز وإعجابه المتفاني فيه إلى استنفاد طاقته في محاكاته سدد التعلم منه والتصدي لمبارزته؟ هل قامت الترجمة بتفريغ شحنات جبرا في الخلق المسرحي وقال عبرها ما احتشد لديه من أشياء أجتهد في صبيان قالب لغوي شعري منحوت من صلب جديد؟ أو أن طبيعة المسرح تتطلب بنية اجتماعية مستقرة وتنظيما مؤسساتيا يتكفل بتقديم العروض لجمهور يتبع تقاليد وطقوسا لم تكن متوافرة في المجتمعات العربية في عواصمها الكبرى مثل "بغداد" التي ما فتئت تفور بالتحولات السريعة "؟ ثغرة أخرى كانت تفغر فاها في الثقافة العربية المعاصرة تصدى جبرا باقتدار مكين على ملئها ممارسة إبداعية أولا ثم ترجمة ممتعة وكتابة مستفيضة ثانيا في مجال الرسم والتشكيل البصري. ولئن كالت بدايته في هذا الصدد شديدة التواضع، على عكس ما يظمأ به البعض مات أصول برجوازية؟ إذ تعلم الرسم من مراقبة حلال فلسطيني كان يشغل أوقات فراغه بنصب لوحة خشبية يا دكانه وتقسيمها إلى مربعات قبل أن يشرع في تلوينها بالفرشاة، وصبينا يتلصص عليه وهو في طريقه للمدرسة الابتدائية، شانه سرعان ما التفت بقوة لهذا المنبع الجمالي الخصب في الطبيعة والحياة، وانتبه إلى تزويد المكتبة العربية بأهم ما أنتجته قرائح المفكرين و فلسفة الفن عبر العصور المختلفة. ومن يقرأ ترجمته لكتاب "آفاق الفن" لألكسندر إليوت يعرف كيف يمكن تطويع اللغة كي تشحن بأعلى درجات الخبرة الجمالية وكيف نجح جبرا في نقل روح الفن العالمي وصبه في شريان الحروف العربية، حيث يصف مدينة الفن وهي مفتوحة للجميع، فهناك على الغرفة يخطو عالم الآثار جيئة وذهابا بمقياسه الشريطي، ويا الرقاق صبي مراهق يلوح ويختفي حاد النظرات يبحث عن عاريات. هناك جمهور يدخل إلى الكاتدرائية، وفي مصرف الأزمان عالم النقود القديمة يجلو قطعها. في الحديقة يتسلق الأطفال تمثالا وقد جلس على المقعد المجاور أفريقي تحلى بالخرز وهو ينحت معبودا من الخشب. وفي ضريح مصري ثمة عاشقان اختلسا قبلة في غفلة من الزائرين. فالمدينة تحمل بألوان من الناس وهي ملكهم المشاع.. وأهم من ذلك فالمرء لا يتمتع بالفن العظيم إلا إذا جاءه كما يجيء أصدقاءه المقربين بانفتاح وتعاطف فمن لا يتمتع بالصورة الرائعة لا يراها حق الرؤية. ومدينة الفن نفسها لن تكون إلا حلما أو سرابا لمن لا يتمتع بها. أما الذي قضى وقتا طيبا في المدينة وافتتن بها، فإنه يحملها أينما ذهب إلى الأبد.

ومن يقرأ تحليل جبرا المسهب في كتابه "الفن والحلم والعقل " لقضية تواشج الفنون الإنسانية، وعروبة ما ينتجه الفنان العربي مهما كانت مصادره التي يتغذى بها يدرك أن هذا البعد الحضاري الأصيل هو الذي كان يدفعه دائما للتأكيد على إنسانية الفن، فالفن العربي هو بالضبط ما ينتجه الفنان هنا، وبقدر ما يشتد وعيه لتراكماته التاريخية والحضارية، وتحكمه بإمكانات المادة الميسرة له يكون نتاجه أقرب إلى الجودة؛ أي أقرب إلى تلك المرتبة التي يتخلق له فيها إشعاع من الوقع والمعنى لا ينطفئ مع انحسار زمانه. فالفنان إذن كالمفكر عند جبرا يحاول التحكم بنتاج الإنسان الحضاري برمته ويخضعه لنوعين أساسيين من التجربة: التجربة التاريخية - التي هي التجربة العربية في سياق تجارب العالم، والتجربة النفسية أو الذاتية التي تدلل على وجوده شخصا له فذاذة خاصة يعيش الصراع والتمزق بقدر ما يعيش الطموح والحلم، المأساة والتوق التي يعيشها جميعا جيله العربي. ولئن كانت الترجمة هي البوابة الكبرى التي دخل منها جبرا إلى الفكر النقدي والجمالي، واستمر يتدفق عبرها في متابعاته التحليلية فإنه لم يلبث أن أسهم في تكوين تيار فني زاخر تجاوز مكانه في العراق وتخطى حدوده ليمثل ثروة عربية حقيقية في هذا الميدان الشحيح. كما امتدت ترجماته إلى مجال النقد الأدبي، وإن ظلت محكومة بما تهيأ له من مدارس نقدية تابعها خلال الأربعينيات خاصة، دون أن يتعداها إلى المنجزات التي تمثلت في الاتجاهات البنيوية وما بعدها مما ازدهر بعد الستينيات، فقدم جبرا "الأديب وصناعته" لعشرة نقاد أمريكيين، و "الأسطورة والرمز" لعدد أخر من النقاد، و " ديلان توماس" لأربعة عشر ناقدا، و" ألبير كامو" لجرين بري، فاشترك بذلك في تأسيس وعي عربي متفتح على الحركة النقدية التشكيلية والأدبية في العالم المعاصر.

تجليات الحداثة الروائية

إذا كانا جبرا في تطوافه الإبداعي والنقدي قد جرب أنواع الكتابة وعايشها بكل أشكالها، فإن النمرة التي اختار أن يروضها ويطيل المكث معها - على حد تعبيره المشبع بعبق الفن الغربي - كانت تتمثل على وجه التحديد في الرواية. فقد دخل عالمها مبدعا ولما يزل يافعا بعد مسحورا بعالم المتخيل الشرقي وهو يصارع أشباح الواقع الذي يتخبط في شراكه، فأطلق عمله الأول " صراخ في ليل طويل "المنشور في القدس، عام 1946 متضمنا البذور الفكرية الأولى لعملية التحديث التي ستصبح مدار إبداعه فيما بعد. وعندما قرر أن يروض تجربته الشخصية في قصة هجرته الباكرة إلى العراق احتمى أولا بقناع اللغة حتى يتمكن من اختراق حاجز الخوف العربي فكتب بالإنجليزية " صيادون في شارع ضيق " التي نشرت بلندن عام 1960 ثم ترجمت إلى العربية فيما بعد، ومارس فيها محاولة أصيلة في تحديث الأبنية التقنية إلى حد ما، ثم مضى في هذا السبيل حتى بلغ غايته في "السفينة" عام 1970 وصولا إلى ذروته الإبداعية في "البحث عن وليد مسعود" التي يمكن أن تعتبر أبرز تجليات الحداثة الروائية لهذا الجيل من الكتاب العرب وقد نشرت عام 1978. حتى كان اشتباكه واشتراكه مع عبدالرحمن منيف في تجربة " عالم بلا خرائط " 1982 بمثابة تسليم الراية للموجة التالية، لم يلبث بعدها أن أطال التحديق في أيام طفولته وصباه حتى ينتشل من قاع "البئر الأولى" 1987 أصفى الرؤى في سيرته الذاتية.

فإذا تجاوزنا بسرعة هذا الرصد الأهم منجزاته السردية وأخذنا نتأمل أوضح قسماته الإبداعية وجدنا أنه يمضي اختزالها في ثلاثة ملامح؛ جسارة الفكر، وحركيه التقنية الفنية، وشعرية التعبير اللغوي، مما يجعل دوره في تطور السرد العربي الحديث شبيها إلى حد كبرى بدور " فوكنر" - الروائي الأثير لديه- في الآداب الغربية.

ولكي نتمكن من استجلاء مدى جسارته الفكرية، سنشير إلى مشهدين: أحدهما من روايته الأولى "صراخ في ليل طويل" التي يتوجه بها للقارئ العربي في الأربعينيات، ويعصف بالحس الرومانسي السائد ومحاولة لتفجير الإشكاليات الساخنة حيث يناقش قضايا الجسد والثقافة والتقدم وكأنه قد نفذ ببصيرته إلى المستقبل وشغل بهواجس ما بعد الحداثة التي يلهج بها الكتاب في العالم اليوم، فيقول على لسان إحدى شخصياته "عمر":

"من الواضح أن التأكيد على الحسد هو نتيجة من نتائج التقدم الآلي أو المادي.. فالجسد هو العامل الدائم في الوجود الإنساني، بكل ما فيه من عواطف، كل منها فم فاغر. وإذا أشبعت هذه العواطف كلها بقيت العاطفة الجنسية مستعدة أبدا للانفجار تحت كبت قرون طويلة. فالرجل ذو الفراغ في عصرنا قد يقسم وقته بين الجنس والعقل، أما المرأة فلا أظنها تنصرف إلا إلى مداعبة الأقنعة الجنسية، فالكثير مما يملأ حياتها من مساحيق التجميل إلى المجلات المصورة ليس إلا رمزا للجنس ".

أما المشهد الثاني الذي تطل علينا فيه قدرة جبرا على المجابهة الفكرية فنستقيه من رواية "صيادون في شارع ضيق"، وبالرغم من أنه نفى عدة مرات صلته المباشرة بأبطالها فإنه عاد يا بعض لقاءاته الخصبة مع ماجد السامرائي فاعتراف بأن الشخصية التي تحمل ما يمكن أن يسمى بأفكاره الحقيقية هي ال عدنان طالب لا وليست " جميل فردان "، وأحسب أن هذه مغالطة لتضليل القراء والهروب من سلطة المجتمع، فليس المهم في الشخصية آراءها السياسية والثقافية، وإنما حساسيتها وعواطفها ورؤيتها للحياة، وجميل فردان ـ الفلسطيني المثقف المهاجر إلى بغداد- هو صورة قريبه إلى درجة التماهي مع جبرا الذي يتوزع على مرافئ شخصياته قبل أن يستقطب في إحداها، والمشهد الجريء الذي نشير إليه يمثل صلب رؤى جبرا للصراع العربي الصهيوني وموقف المسيحيين من الغرب الذي بناصر المعتدي ويترك المقدسات المشتركة تسقط في قبضته، فهو يقول:
"منذ ألف وخمسمائة سنة والمسيحية دين الأوربيين دون غيرهم. فما علاقتنا نحن العرب والآسيويين وسكان شرق البحر الأبيض المتوسط بها؟ لقد بدأت عندنا، لكن اليونان والرومان أخذوها منا، وكل ما بقي لنا منها مجموعة بالية من الطقوس لم نضف إليها شيئا خلاقا طوال ألف سنة، وما هو الدور الحضاري الخلاق الذي لعبته مسيحيتنا وسط عالم إسلامي؟ كان يجب علينا بعد القرن الثامن أن نسلم أنفسنا لقوى الإسلام الجديدة تسليما تاما لا جزئيا كما فعلنا.. كانت أوربا دائما تخشى الشرق المسلم، ولكن المسيحيين فيه المتطلعين دائما إلى أوربا حتى آلمتهم أعناقهم من كثرة التطلع لم يحصلوا إلا على ازدرائها المتساهل، وهذا السبب هو الذي سيترك الغرب من أجله مدينة القدس وهي تتهدم تحت أقدام الإرهابيين الصهاينة " وعندما نستحضر أن مخاطب هذا المشهد إنما هو القارئ الأوربي أولا فإننا ندرك حدة المواجهة وفعالية النقد التاريخي وجرح الشعور المسيطر عليه دينيا في محاولة لتعميق الخط الذي تنتهجه الرواية في فضح الزيف الاجتماعي والكشف عن منابع القوة الحقيقية في الشخصية العربية.

لكن النموذج الذي نريد أن نتريث عنده قليلا لاستجلاء بعض مظاهر الحركية التقنية في السرد لعن ناحية وشعرية التعبير من ناحية ثانية هو "البحث عن وليد مسعي" على وجه التحديد، لأنها هي التي جعلت جبرا يؤكد دوره الطليعي في تطوير الرواية العربية والوصول حما إلى نقطة قصوى و إحكام التصميم الهندسي وإدارة الأدوار والروايات بين الشخصيات المختلفة بإيقاع منتظم، وتكوين بؤرة الحدث المتحرك عبر عمليات الاسترجاع والاستباق وتكسرات الزمن وتداخلاته في جدلية بالغة الإتقان حول محور غائب حاضر يمثل روح الإنسان العربي الضال في هذا العصر الحديث، إنها بنية أيقونية شديدة التجسيد في ظاهرها الحركي لجوهر الوجود الممزق في عالم اليوم.

ومن الملاحظ أن هناك تطابقا مدهشا بين طبيعة جبرا الفنان وخواصر هذا الجنس الأدبي الذي اختار التركيز عليه، فبقدر شاعرية جبرا كان يمتلك أقصى درجة من حب البوح وحرارة الصدق في تنمية حس الاعتراف لديه عبر الممارسة الإبداعية، في مجتمع يعادي إلى حد مريع هذا الحس ويصر على خنقه وسط ركام زائف من النفاق والحياء معا.

وبما أن خاصية تعدد الأصوات الروائية، وقيامها بدور الأقنعة الشخصية بما يسمح بتوزيع الحقائق الوجودية عليها بشكل مراوغ تجعل فن القص مؤهلا بامتياز لتجسيد حس البوح من جانب وإشباع أخلاقية القارئ السطحية بإسناد مدار الأمر كله إلى عملية التخيل من جانب آخر، فإن الرواية تظل هي الفن القادر على هذا الاعتراف المراوغ بأكثر أشياء الوجود حميمية، فهي الكفيلة بتعرية الإنسان حتى مخ عظامه مع الإبقاء على طبقة من الدفء الحنون تحيط به. وقد وجد فيها جبرا منفذا لطاقته الإبداعية، ومعرضا لقدراته الفذة على خلق الشخوص والمواقف التي يستطيع أن يتلاعب بها وينفث في كل منها شيئا من بوحه الحميم وعشقه المجنون بالحياة وحيرته الممضة في أقدارها ونهاياتها. ولعل البنية الروائية للبحث عن وليد مسعود، ابن بيت لحم المسيحي الذي هجر القدس منذ الأربعينيات إلى بغداد، أن تكون تجسيدا لبحث جدا ذاته عن نفسه، بحيث تقوم بعض الشخوص الأخرى بدور كنائي عن جوانب عديدة فيه، حتى تصيح ملحمة الوجود المكتنز، المفعم بالعشق والفكر وشهوة الحياة وإيقاع الجمال الحسي والروحي فيها، هي رحيق هذه الرحلة المشتتة، إذ تمزج بين السرد والنجوى، وتسجيل الكاسيت الذي يقوم بدور تيار الوعي ط وحواهـ الأصدقاء والصديقات، في سيمفونية بالغة التعقيد وشديدة الانسجام في الآن ذاته، ولئن كان يصدرها بتنبيه يشير فيه إلى التوافق الذي قد يقوم بينها وبين أشخاص حقيقيين إنما هو من قبيل المصادفة فإنه لا يلبث في الفصل الثاني أن يعمد لحيلة طريفة يدرج فيها قصة داخل القصة بعد أن يخلع عنها أسماءها الرمزية ويكشف النقاب عن أشخاصها الحقيقيين وكأنها بذلك تصبح الوجه المعكوس للحياة في مرآة الفن، مما يثبت لنا أن جبرا من هذا النوع من كبار الفنانين الذين لا يبنون عالمهم المتخيل إلا من جذاذات وكسر هذا العالم الذي يعيشونه بحرقة شديدة، وهو حينما يتذرع بالتقنيات السردية المتقدمة لا يفعل ذلك للتعمية ولا التقية، وإنما لمزيد من إشباع حب البوح مراوغة الفن بأدواتها الشعرية ومراوغة الحياة في واقعها المكروب.

وكثير من مشاهد "البحث عن وليد مسعود" مفعمة بهذا اللون من الشعرية، غير أننا في هذا السياق الضاغط نكتفي باجتزاء سطور قليلة من الشريط الذي "يعزفه" الدكتور جواد حسني، وينهمر على لسان وليد مسعود نوعا من تعبير الغيبوبة في شهادة وجودية يتوجه بها إلى شهد- الاسم الرامز للأنثى- قائلا:
"أتحزنين على آجام الذهب وهي تنضو عنها أوراقها كما نضوت عنك ثيابك ورقة ورقة حتى الورقة الأخيرة والحزن يترقرق على وجهك..." الخ ولا يحتاج الأمر إلى جهد نقدي كي نتبين هنا خصائص تيار الوعي الأسلوبية من إلغاء الفواصل والعواطف والنقاط، وتدفق الجمل ص ملتبسة متضامنة لتصنع خيمة تخييلية تجسد انهار الأفكار والمشاعر بمنطقها الداخلي الخاص، وهنا نجدنا حيال قطعة شعرية طليعية في تقطيعها للجمل وترويضها للصور وامتزاج البصري فيها ببقايا المحسوس الداخلي مما ينجم عن تداخل الأصوات ويعد مظهرا لتكسر الزمن وتجليا لتلك الحداثة الروائية التي أولع بها جبرا وأبدع بها عددا من النماذج الرفيعة.!

 

صلاح فضل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




جبرا إبراهيم جبرا





مكبث من ترجمات جبرا إبراهيم جبرا





ديلان توماس من ترجمات جبرا إبراهيم جبرا





مأساة عطيل - ترجمة جبرا إبراهيم جبرا





الرحلة الثامنة - من مؤلفات جبرا إبراهيم جبرا