د. علي فهمي خشيم وجهاد فاضل

 د. علي فهمي خشيم وجهاد فاضل
        

العربية التي نتكلمها الآن هي لهجة من لهجات العرب لا أكثر!

          هناك مَن يرى أن نفوذ اللغة العربية الفصحى يتراجع، وأن نفوذ اللهجات العامية يتزايد مع الوقت، لدرجة التخوّف من تحول هذه اللهجات إلى لغات. ويقول هؤلاء إن اللغة العربية ستواجه المصير نفسه الذي واجهته لغات قديمة عريقة، كاللغة اللاتينية، التي عندما تحولت إلى لغة نخبة وانعزلت عن الحياة، تقدمت العاميات وورثتها، ومن هذه العاميات الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية.

          على أن هناك مَن لا يوافق على هذا التوصيف المتشائم، ويرى أن العربية تعيش اليوم أزهى عصورها. الدكتور علي فهمي خشيم، الأمين العام لمجمع اللغة العربية في طرابلس بالجماهيرية الليبية، من أنصار هذا الرأي. فعنده أن العربية تتطور وتزدهر، وأن لا خوف عليها من اللهجات العامية. فاللهجات العامية موجودة في كل اللغات الحية ومنها الإنجليزية، وهي تتعايش تعايشاً صحياً مع اللغة الأم. ولكنه يدعو إلى مزيد من انفتاح العربية على الحداثة، معتبراً أن مشكلة اللغة العربية هي في النحو والقواعد لا في الألفاظ والمصطلحات. وهو يرى أن أعداد الذين يتكلمون اللغة العربية المشتركة، أي لغة المثقفين، وهي وسط بين الفصحى والعامية، يتكاثرون مع الوقت ولا يقلّون. في هذا الحوار، يتحدث الدكتور علي فهمي خشيم عن دور مجامع اللغة العربية وانفتاحها على العلوم الحديثة وعلى الحياة المعاصرة بوجه عام، وينفي أن يكون أحد مجامع اللغة العربية قد اتخذ يوماً قرراً بتعريب «السندويتش» بعبارة «الشاطر والمشطور وما بينهما الكافح»، معتبراً أنها عبارة عن نكتة للنيل من هذه المجامع.

  • للدكتور علي فهمي خشيم آراء كثيرة في موضوع اللغة العربية وتأثيرها في اللغات الأجنبية، وكذلك في موضوع اللغات بوجه عام يبسطها في حواره، وله مؤلفات كثيرة تدل على إيمانه بالعربية وبقدرتها على التجدد والنمو منها: «اللاتينية العربية»، «الأكدية العربية»، «العرب والهيروغليفية». كما هو أديب وباحث ومترجم وأستاذ جامعي:

          - أنا لست بحالة خوف على مصير العربية. أنا أرى أن العربية تعيش أزهى عصورها. وربما يكون هذا الرأي غريباً. أنت تحدّثني الآن باللغة العربية، ونسمّيها المشتركة، وهذا ما تتبعه الجرائد والمجلات والإذاعات والأخبار. طبيعي أنه لا يمكن إطلاقاً في أي لغة من اللغات أن يُلغى ما يسمى اللهجات، الإنجليزية - مثلاً - لها ما لا يقل عن خمسين لهجة. حتى أنك في لندن نفسها، يمكنك أن تجد ثلاث لهجات لا يفهم الناطقون بها بعضهم بعضاً. أنا درست في مدينة إنجليزية اسمها دِرَم في الشمال، في إنجلترا وليس في سكوتلندا، ولم أكن أفهم ما يقوله أهلها، لأن لهم لهجة خاصة في النطق وبعض المصطلحات والكلمات. شيء طبيعي. إنما هناك لغة مشتركة هي الإنجليزية، في الصحافة، في الإذاعات، وفي المحاضرات والندوات.

          اللغة العربية نفسها الآن - بالعكس - أفضل حالاً مما كانت عليه منذ 50 عاماً أو 60 عاماً أو مائة عام. كان عدد الناطقين بالفصحى المشتركة أقل مما هو عليه اليوم. هناك ما يسمى اللغة المشتركة التي أتحدثها الآن، والفصحى وهي لغة الأدب. كل لغة في العالم لها مستويات: لغة العامة ثم اللغة المشتركة التي يتفاهم بها المتعلمون شيئاً فشيئاً، ثم لغة الأدب، لغة الشعر الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني أو الروسي غير لغة الشارع. لغة الشاعر غير لغة الشارع، وهذا أمر طبيعي جداً. إنما الذي يلفتني في هذه الأيام هو أن هناك اتجاهات في بعض الأقطار العربية مندفعة نحو ما يسمى التغريب. شخصياً لست ضد تعلم اللغات الأجنبية. بالعكس أدعو إلى تعلم اللغات الأجنبية، أولادي يتقنون لغتين على الأقل، غير العربية: إنجليزي فرنسي/إنجليزي إيطالي. وأنا أنشأت كلية اللغات في جامعة الفاتح، وأترجم من العربية وإليها إلى آخره.

          لكن هناك فرقاً بين الدعوة إلى تعلّم اللغة الأجنبية، وبين أن تستحوذ عليّ هذه اللغة في تفكيري وفي منهج حياتي، وفي تعبيري، والذي لا أفهم له معنى، اتخاذ الكلمات الأجنبية أسماء لمطاعم أو محلات، واعتمادها حتى في لائحة الطعام في المطاعم، هذا أمر غريب.

          هناك موضوع آخر هو التعريب في الجامعات، هو نوع من التردد أو من عدم الرغبة في التعريب. يفضّل الأستاذ الجامعي أن يدرّس بالإنجليزية أو بالفرنسية. وهنا تقع المشكلة. إذا استعملنا الإنجليزية في الجامعات، فماذا نفعل بالذي تعلّم في فرنسا، أو في ألمانيا، أو في روسيا؟ هل نجبرهم جميعاً أن يتعلموا الإنجليزية؟ طبعا لا.

  • ولماذا برأيك تعثّرت عملية التعليم في الوطن العربي؟ لقد جاء وقت، وبخاصة بعد الاستقلال كانت عبارة التعريب، وبخاصة تعريب التعليم على كل شفة ولسان، ولكن النتيجة اختلفت فيما بعد؟!

          - أنا أعيد ذلك إلى عدم معرفة أساتذة الجامعات بلغتهم، أي العربية، وإلى استسلامهم للتدريب باللغة التي درسوا بها، وكذلك إلى محاولة الظهور بمظهر العالم، يتعالم الأستاذ على طلبته باستعمال مفردات أو كلمات أو محاضرات باللغة الأجنبية.

  • طبعاً لو اعتمدنا العربية من الأساس كلغة رئيسية للتعليم الثانوي والجامعي لكانت العربية اليوم في وضع أفضل، أي لكان عندنا الآن كيميائيون وفيزيائيون، وعلماء في كل علم وفن يكتبون بالعربية، أي أن العربية كانت قد تطورت أكثر؟

          - هذا صحيح. العربية لغة متطورة بذاتها. أي لغة في العالم هي قادرة على التعبير، سواء التعبير المعنوي أو العلمي أو الأدبي أو الفكري أو الاجتماعي. ليس هناك شيء يسمى لغة ناقصة، فلماذا تهاجم العربية بالذات. هذا سؤال جوهري.

          أنا لم أسمع أحداً يقول إن البلغارية، أو المجرية، أو الفنلندية، لغة غير قادرة. دعك من الصينية، أو اليابانية، على صعوبتها، كتابة وقراءة. الصيني أو الياباني لابد أن يتعلم لكي يكون عالماً، على الأقل ثلاثة آلاف رمز، في حين أن لدينا ثمانية وعشرين حرفاً!

          اللغة العربية تحمل رسالة حضارية بالرغم من كل الهجوم عليها من الداخل والخارج. اللغة العربية كانت باستمرار في حالة مواجهة مع أوربا.

          اليابان لم تواجه أوربا، ولا الصين، ولكن العرب واجهوا أوربا في تاريخهم القديم، من أيام حنبعل وما قبل حنبعل وأيام الكنعانيين، ومصر. العرب هم الذين واجهوا أوربا.

          نحن 22 دولة، ومع الأسف الشديد لا تربطنا أية رابطة اقتصادية أو سياسية ما عدا هذه اللغة. سمعت مرة برنامجاً من جيبوتي، وجدت أن المتحدثين كانوا يتكلمون العربية، في كل مكان من بلاد العرب تجد اللغة العربية، لقد توجهوا بطريقة أو بأخرى إلى تحطيم هذا الرابط القوي. ما الذي يحدث عندما تتحول لهجة لبنانية - مثلاً - إلى لغة مستعملة أو محكية؟ تتحول إلى كيان قائم بذاته، على مدى خمسين أو مائة سنة.

          الغريب أن الذين يدعون إلى استعمال العامية في محاضراتهم وفي دعواتهم، يستعملون اللغة المشتركة الفصحى. يقولون - مثلاً - إن اللغة العامية هي المعبر الحقيقي عن الناس. هم لا يقدرون على التعبير عما في صدورهم إلا بالفصحى المشتركة.

  • ولكن مقابل هذا النَفَس التفاؤلي الذي تتحدث عنه حول حاضر العربية، هناك نَفَس تشاؤمي. ثمة وجهة نظر تقول إن العربية هي بصورة من الصور بحالة احتضار، وأنه لم يعد هناك مَن يتحدث العربية كلغة فصيحة إلا قلة قليلة جداً. افتح التلفزيونات تجد أنه لم يبق سوى نشرة الأخبار تقدّم بالعربية. وحتى هذه النشرة فيها ألف خطأ نحوي وصرفي. أما مَن يسمّون بالأدباء والشعراء، فإن حظهم من لغتهم وأدبها حظ محدود، لم تعد هناك لغة أدبية عربية رفيعة.

          - أولاً بالنسبة للفضائيات، كان المفروض أن تكون هذه الفضائيات عامل توحيد ووحدة، وفي خدمة اللغة العربية. مع الأسف حُوّلت عن أهدافها، لأن الذين يسيّرونها غير مؤمنين بعروبتهم وبلغتهم العربية. ما عدا بعض المحطات المفروض أنها ليست عربية، فرنسا تقدّم باللغة العربية الفصحى، بينما تدعو إلى اللهجة المغربية والإنجليزية والتونسية، وتصرف الملايين.

          مشكلة اللغة العربية هي في النحو والقواعد، لا في المفردات، ولا في الألفاظ والمصطلحات. اللغة العبرية كان فيها قواعد، نحو وكسر وجمع، ولكنهم تخلصوا من قواعدهم، سكنوا كل شيء. أنا الآن أتكلم لغة فصحى ولكني لا ألتزم بتحريك أواخر الكلمات. بدلاً من أن أقول: لا ألتزم، يأتي آخر ويقول: شمش ملتزم». هذه عامية. لا ألتزم، ولو غير متحركة في آخرها، عربية فصيحة، ليس من الضرورة أن نُعرب، أي أن نرفع ونكسر ونضم. هذه لغة أدبية خاصة.

          عندما أقول إنني متفائل، فمن منطلق أنني أرى أن أعداد الذين يتكلمون اللغة العربية المشتركة يتكاثرون مع الوقت ولا يقلّون.أما الركاكة في الأسلوب، أو في المفردات، فإنك تلاحظها في كل العصور، حتى في العصر الجاهلي كان هناك ركاكة، كان هناك شعر ركيك. سوق عكاظ كانت سوقاً لكبار الشعراء، وكانوا يقولون هذا جيد، وذاك غير جيد.

          ولكن وسائل النشر الآن عندنا أكبر، على نطاق أوسع، ولهذا تكون الركاكة أكبر. في الماضي، كانت «الأهرام» تنشر قصائد لأمير الشعراء شوقي في صفحتها الأولى، وليس كل من هبّ ودبّ يستطيع أن يقول شعراً. أنا متفائل لأن عدد المتعلمين في المدارس هو الآن أكثر. وهذه المدارس أعطت على الأقل شيئاً ما للغة المشتركة. قبل ذلك كانت الأميّة تبلغ 98 في المائة في الوطن العربي.

          ورب ضارة نافعة، هناك ضرر في استعمال الدارجات من ناحية، ولكن فيها نفعا من ناحية أخرى. الآن المسلسل السوري يفهمه كل العرب من السودان إلى موريتانيا إلى الخليج. من 50 سنة كان من الصعب أن يُفهم هكذا مسلسل. مسلسل باللهجة الخليجية يُفهم الآن، وكذلك بالمغربية. لكن يجب أن تتشذب هذه الدارجة. لست ضد استعمال الدارجات. من غير المعقول أن أطلب من عامل في مقهى أن يتكلم الفصحى، إنما اللهجات يجب أن ترقّى شيئاً فشيئاً إلى ما سُمّي منذ مدة اللغة الثالثة وهي غير ملتزمة بالإعراب. ولكنها لا تهبط حتى تصبح لغة غير مفهومة.

  • في العصور العباسية، استفادت العربية من العلوم اليونانية الطارئة على الحياة الثقافية العربية، كالمنطق مثلاً. ألا ترى أن العربية المعاصرة بحاجة إلى مثل هذه الاستفادة من علوم الغربيين؟ بل وإلى انتفاضة على طريق التحديث والتطوير؟ وما دور مجامع اللغة العربية في هذه الانتفاضة؟

          - هذا سؤال في منتهى الأهمية، حضرت اجتماعات مجمع القاهرة أخيراً. مجمع القاهرة هو الآن أكبر المجامع العربية ومن أقدمها. مجمع دمشق أقدم مجمع القاهرة احتفل بمرور 75 سنة على إنشائه (أنشئ سنة 1932)، وكان هناك لجان للمصطلحات: مصطلحات الأدب، مصطلحات الجيولوجيا، الجغرافيا والكيمياء. لاحظت أمراً جيداً هو التساهل في استعمال الكلمات الأجنبية بدل تعريبها. وهذا هو المنهج الذي اتبعه العرب عندما قالوا «فلسفة». وهي كلمة يونانية، واشتقوا منها كلمات: فلسف يفلسف فلسفة.. وقالوا «كيمياء» من كلمة يونانية. و«جغرافيا» وهي يونانية أيضاً. وقد استعملوا في بداية الترجمات «روطوريقا» ثم قالوا «الخطابة»، واستعملوا «البولوثيقا»، وهي السياسة فيما بعد. واستعملوا «أرغماثيقا» ثم وجدوا الرياضيات، وظلت كلمة «استطيقا»، أي علم الجمال.

          نحن منفتحون، وقد لاحظت أن المجامع العربية، وعلى رأسها المجمع المصري، ومنها المجمع الليبي، منفتحة تماماً على اللغات، لكن هناك فرقاً هائلاً، بين أن ننفتح، وبين أن نُبتلع. مثلاً عندما نجد كلمة قابلة لأن تُترجم مثل «تلفون»، نقول «هاتف». أقول أهتف لك. وتهاتفني.. لكن «تلفزيون» مثلاً، لأنها كلمة مركبة «تلي/فزيون»، من الصعب ترجمتها.

          ولكن ليس هناك مانع من أن أقول «تلفز» أو: تلفز يتلفز تلفزة، أو برنامج متلفز. لكن عندما آتي إلى كلمة «فاكس»، من الصعب أن تشتق منها فعلاً. نحن نستعمل كلمة «ناسوخ»، على وزن فاعول، ونوسخ ينوسخ نوسخة. والورقة التي تخرج هي نسيخة. وفرق ما بين الناسوخ والناسخة، أو «الكوبيتر» التي تنسخ، الحاسوب هو الكمبيوتر. والآلة الحاسبة، للحساب.

          اللغة العربية في منتهى الدقة في تعبيراتها، وهي لغة قديرة جداً، كل ما في الأمر أن أبناءها فقدوا إيمانهم بها، وأنا أستاذ جامعي منذ سنة 1962، الطلبة يخطئون في اللغة، فاسألهم: لماذا تخطئون؟ يجيبون: «يا أستاذ أنا مش متخصص عربي». أقول لهم: يا أبنائي! العربية ليست تخصصاً، إنها لغتكم القومية.

          مشاكل اللغة العربية ليست من الصعوبة التي يتصورون، أكثر لغة منفتحة هي اللغة العربية. أنا شخصياً باعتباري رئيساً لمجمع اللغة العربية تأتيني استشارات، وعندي لجان أعتمد عليها، ونحن متساهلون جداً، لأننا لا نريد تعقيد حياة الناس. لست من أولئك المتزمتين الذين يحاولون أن يتكلموا بلغة الشنفري.

          أنا وزملائي، نؤمن بأن هذا المجمع بالذات، يجب أن يكون ملتصقاً بالحياة. وقد نظمنا ندوة في المجمع حول اللهجة الدارجة في ليبيا، ولهجة البدو، حتى نخرج الفصيح والدخيل حتى نغربل.

  • إذن أنت تعتبر أن مرحلة «الشاطر والمشطور وما بينهما الكافح» قد عبرت وانتهى أمرها في مسيرة مجامع اللغة العربية؟

          - هذه نكتة قيلت وليست حقيقة. هي ليست حقيقة. هي سمّيت «شطيرة». أولاً «شاطر ومشطور وما بينهما كافح»، «كافح» كلمة فارسية لا عربية. هذا يذكّرني بما فعله أحد المجامع عندما أراد أن يترجم «بسكويت»، ترجمها «خشكمان»، والخشكمان باللغة الفارسية تعني الخبز الخشن، وطبعاً هذه نكتة.

          إنما هي اسمها «شطيرة»، ولكن دعني أسألك: أيهما أفضل «شطيرة» أم «سندوتش»؟ لماذا سمّيت ساندويتش؟ شخص كان اسمه إيرلو ساندويتش، وهناك جزيرة صغيرة في جنوب بريطانيا، هذا الشخص كان «الباشا» لهذه الجزيرة. توالى يلعب القمار يوماً أو يومين، وكان يجوع، ثم يأخذ الخبز يشطره ثم يضع فيه اللحم ويقضمه وهو يلعب، ومن هنا جاءت التسمية. كلمة «شطيرة» أحلى، وهناك «الفطيرة».

          المجامع العربية لا تجد - مع الأسف الشديد - مَن يسندها. عند الفرنسيين، ومنذ عهد شابان دلماس صدر قرار يمنع استعمال أي كلمة أجنبية «والمقصود إنجليزية» إذا لم تقررها الأكاديمية الفرنسية، أو مجمع اللغة الفرنسية، والقرار يتضمن عقاباً. الفرنسيون خائفون جداً من طغيان اللغة الإنجليزية. نحن نرحب بالإنجليزية والفرنسية، نتعلمها لعلم، لكن تظل لنا لغتنا القومية نحافظ بها على كياننا. ليس معقولاً أن أُقتلع بهذا الشكل، وإلا الذين تعلموا في إيطاليا يتكلمون الإيطالية، والذين تعلموا في فرنسا يتكلمون الفرنسية. هذه مأساة.

  • هناكَ مَن يرى أن العرب اليوم بحاجة إلى ما يسمّونه «مشروع لغوي»؟

          - ماذا يعنون بـ«مشروع لغوي»؟ أنا لا أفهم هذا المصطلح. كان هناك «تأصيل لغة عربية»، وهناك الآن هيئة تنشأ اسمها «هيئة معجم تاريخ اللغة العربية»، يعيدون اللفظة إلى أوائلها الأولى. طبعاً كل اللغات لديها تاريخها. «مشروع لغوي»، أفهم ببساطة مطلقة، ومن دون تعقيد: قرار سياسي باستعمال اللغة العربية المشتركة أو الفصحى، في أي قطر من الأقطار العربية.

          نحن نلجأ إلى العدو لكي نضرب مثلاً. اللغة العبرية ماتت منذ ألفي سنة، ثم أحيوها. والآن كل شيء بهذه اللغة. الكيان الصهيوني بالعبرية. فكيف يقال عن لغة حية عظيمة اسمها العربية، إنها غير قادرة؟ يصيبني نوع من التعجب والاستغراب. هل اللغة اليابانية عجزت، أو الصينية؟ المجر سكانها 10 ملايين نسمة، ويأتيها 51 مليون سائح سنويا، وليس هناك كلمة غير مجرية على ألسنة القوم وعلى أقلامهم. وهي لغة منبتّة في جميع اللغات الهندو/أوربية. تصوّر أنهم لا يكتبون عبارة «رستوران» وهي كلمة دولية، يكتبون «أتاريم»! ولا يكتبون «تاباك»، وهي كلمة عالمية، يكتبون «زوهان»، أو «دخان» بالمجرية! وهكذا.

          مشكلتنا نحن أننا نُعامل كأمة، يُنظر إلينا كأمة عربية واحدة، في حين أننا في واقع الأمر لسنا أمة واحدة، بل أمم.

          نُعامل كأمة في الخارج، ولكننا لسنا كذلك. نحن دول متناحرة، وليست متعاونة. في حين أننا في الحقيقة أمة واحدة. قبل قليل دخل علينا شابان من موريتانيا وتحدّثا معنا. هل وجدت أنهما من أمة غير الأمة العربية؟ هل وجدت فرقاً بيننا وبينهم؟!

  • أعرف أن لكم نظرية في مسألة اللغة العربية وكيف تطورت، وفي تأثيرها في اللغة اللاتينية على سبيل المثال، وفي مسألة تقسيم اللغات أيضاً؟

          - علماء اللغات خدعونا فقسّموا اللغات إلى مجموعات: مجموعة سامية، مجموعة حامية، مجموعة آرية. من المضحك أنهم عندما وجدوا الهنود الحمر يتكلمون لغة مختلفة، قالوا: ما هذه اللغة لا هي سامية، ولا هي حامية ولا هي آرية؟ البعض أفتى أن هؤلاء أولاد الشيطان يتكلمون لغة الشياطين، وحلّل قتلهم بابا روما.

          هذه الأكذوبة عبارة عن تقسيم توراتي. نوح - عليه السلام - كان عنده ثلاثة أولاد: سام وحام ويافث. طبعاً هذا التقسيم عنصري. السود في مصر، وإفريقيا حامية، والعرب والبابليون ساميون. الأوربيون والصين والبقية كلهم ولم يكونوا يعرفون الصينية صُنّفوا كآريين.

          هذه النظرية غير علمية على الإطلاق، المهم هو التقسيم الجغرافي. ليس معقولاً أن تكون مصر التي تتوسط الوطن العربي مجتثة. أنا كتبت «آلهة مصر العربية»، ثم كتبت «العرب والهيروغليفية». رأيي أن ما يسمّى الحامية والسامية قد أُدمجتا في كتلة واحدة يسمونها الحامية السامية، أنا أسمّيها العروبية. «العروبية» تضم مجموعة اللغات القديمة: بابلية في العراق، كنعانية في بلاد الشام، «يسمّونها فينيقية في الساحل الشامي»، والسبئية والمصرية والنوبية القديمة.. إلى آخره. هذه عبارة عن مجموعة من اللهجات تفرّعت عن لغة واحدة اسمها اللغة العروبية، بما فيها اللغة العربية، عربية الجزيرة. ثم هناك «لُهيجات». نأخذ المصرية القديمة، يسمّونها خطأ بالهيروغليفية، هذه لهجة لا أكثر، بحسب الزمان أو المكان، لهجة الصعيد ولهجة الدلتا ولهجة الألف قبل الميلاد.

          الشيء نفسه وقع في جزيرة العرب. هناك لهجات قبائل، وهناك لهجات كُتل. السبئية سمّيت الحميرية بعد ذلك، هي عبارة عن لهجة من العروبية. والعربية العدنانية هي لهجة أخرى، وهي التي نتحدثها الآن. وهناك طبعاً قبائل متفرّعة: هذه تميم، وهذه غطفان، وهذه عبس.

          الذي مكّن العربية من أن تسود هو ظهور الإسلام والقرآن الكريم. فسادت هذه اللهجة على اللهجات الأخرى. كانت الآرامية مستعملة، عوامل سياسية، وعوامل دينية غلّبت اللهجة العربية - نسبة إلى الحجازية - على بقية اللهجات: المصرية، القبطية، الآرامية، النبطية، البربرية.

          تماماً كما حصل باللغة الإنجليزية، كانت سكتلندا عندها لغة، وإيرلندا عندها لغة، وويلز عندها لغة، والإنجليز محصورون في الركن الجنوبي من بريطانيا. ثم تغلبوا على الآخرين، فأرسوا لغتهم.

          إن  العربية التي نتحدثها الآن هي عبارة عن لهجة من اللهجات لا أكثر ولا أقل. لكن كلمة «العرب» لم تكن مستعملة في الشعر الجاهلي على الإطلاق. كلمة عرب كمجموعة ثقافية، أو قومية، عرقية، لم تكن معروفة، كانوا قبائل. هذه هذيل، هذه تميم، وهذه عبس، إلى آخره. كلمة عرب استُعملت بمعنى البدو، من مادة «عَرَبْ» بمعنى ظَهَر في القرن الثامن قبل الميلاد في النصوص البابلية أو الأكادية. لكن لم تتبلور كفكرة قومية إلا بظهور الإسلام. عندما توحّدت هذه القبائل المتناحرة ضد القوتين العظميين في ذلك العصر: فارس وبيزنطة، واكتسحت العالم كما هو معروف، وأصبح «العربي» هو مَن جاء من الجزيرة.

          أنا أسمّي كلمة العرب، المضريين، أو العدنانيين، كما شئت، ولكن هذا لا يمنع عروبة الآخرين. ابن منظور في مادة كَنع في «اللسان» نقلاً عن خليل بن أحمد الفراهيدي، في كتاب العين، يقول: «بنو كنعان قوم كانوا يتكلمون لغة «تضارع العربية»، أي تشبهها، والنقوش الكنعانية لم تكتشف إلا في سنة 1926، في القرن الماضي. أي الآن. وعندما تقرأ هذه النقوش تجد أنها لغة عربية فصيحة. كذلك الأمر في نقوش إبلة، في سورية. 3030 لوحة، تقرؤها في لغة عربية فصيحة، ماذا يعني هذا؟ يعني أنه كان هناك مجموعة لهجات. لنأخذ - مثلاً - الأكادية في العراق. هناك آشورية، هناك بابلية، هناك أكادية، سمّها ما شئت، لهجة الجنوب في العراق، لهجة الشمال، لهجة الوسط.

          عندما أقول «العروبية» استعمل مصطلحاً بديلاً من الحامية السامية أو بديلاً من الحامية أو السامية. وأقول إن هذه الكتلة الممتدة من الخليج إلى المحيط هي كتلة واحدة، كانت منذ القديم كتلة واحدة بما فيها الحضارة المصرية القديمة التي ثبتت عروبتها الآن بلا أي نقاش فيها. والكنعانية والنوبية إلى آخره، كانت كتلة واحدة.

 

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية





د. علي فهمي خشيم





جهاد فاضل