اليهودية دين أم سمة ثقافية؟

اليهودية دين أم سمة ثقافية؟
        

          قرأت باهتمام دراسة الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم حول بيان التأثير الإسلامي على الفكر الديني اليهودي والمنشورة في مجلة العربي العدد ( 614 / يناير - 2010 ) ونظرا للأهمية التاريخية التي تختزنها هذه الدراسات باعتبارها حلقة في سلسلة الحوار الفكري الذي تمر به الحضارات الإنسانية خاصة فيما يتعلق بالبعد الديني للمجتمعات من جهة, ولأنها تتعلق بخصوصية العلاقة المتميزة بين الإسلام واليهودية أو بين اليهود والعرب من جهة أخرى, فيهمني أن نبدأ في طرح رؤية للمشهد العام لهذه العلاقة ولكن من خلال الفصل بين الدين والدولة، وفي البداية لابد من بيان جذور العلاقة بين العرب وإسرائيل وفق الاعتبار القومي أي باعتبارهما أُمتََين تكتنف كل منهما مجموعة كبيرة أو صغيرة من المجتمعات لها تقاليدها وتراثها الخاص، ولأن الصراع اليوم بين العرب وكيان إسرائيل يتركز حول قضية الوجود الفعلي على حيز مقتطع من الأرض العربية، فلابد أن نحدد بدايات الصراع بصورة علمية، على الرغم من محاولة مؤرخي اليهود منذ عهد جمع التوراة التي هي أسفار موسى الخمسة والتي كتبت في مدينة بابل في العراق. والراجح أن لغتهم كانت في الأصل اللغة العربية القديمة التي كان يتكلم بها أهل الجزيرة قبل هجرتهم إلى الهلال الخصيب، ثم تفرعت منها مختلف اللهجات المتأخرة، ومن هنا فإن القدس مدينة عربية النشأة، وعندما قدم اليهود القدس في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ومن مظاهر هذه الحقيقة بنى بريستد نظريته القائلة: ( إن بني إسرائيل «قوم موسى» عندما جاءوا إلى بلاد كنعان، كانت المدن الكنعانية ذات حضارة قديمة فيها كثير من أسباب الراحة وحكومة وصناعة وتجارة وديانة )، وحيث كانت لليهود عادات وتقاليد وأعراف خاصة بهم فقد تمايزوا عن غيرهم من سكان المنطقة، وباعتبار تدينهم باليهودية فقد سكنوا مناطق محددة ومستقلة في القدس القديمة، وهو نتيجة طبيعية للتعليمات المركزة في التوراة والتي تصب في مفهوم واحد يعتبر بني إسرائيل العنصر الأفضل والأهم من بين الأجناس البشرية الحية. يقول غوستاف لوبون: (غير أن استقرار العبريين بفلسطين تم بالتدريج فالعبريون قضوا زمناً طويلاً ليكون لهم سلطان ضئيل في فلسطين)، ومن هنا لايكون لما يعتقده الإسرائيليون من كون القدس هي ( أرض الميعاد) شأن يُذكر، يقول الفريد جييو: إن الوعد الغامض المقطوع لأسباط إبراهيم بأرض الميعاد الممتدة من نهر مصر «النيل» إلى النهر الكبير «الفرات» سفر التكوين 15 : 18 هو وعد قطعه الله لنسل إبراهيم في جميع أرجاء المعمورة، قبل مولد إسماعيل وإسحاق وعلى ذلك فهو وعد مقطوع للعرب مسلمين ونصارى ويهود، من أبناء إبراهيم، ولم يقطع بأن أرض الكنعانيين هي لليهود وحدهم، إلا أن فكرة اختصاص اليهود بهذه النبوءة تطغى في الأدبيات الإسرائيلية على كل فكرة، ولم تتحول إلى عمل سياسي واجتماعي ملموس هدفه بناء الدولة اليهودية على أساسه إلا في الفترة الأخيرة من تسعينيات القرن التاسع عشر، وهو يجسد في العصر الحديث رغبة أوربا لاحتواء وتحييد اليهودية كقومية لتشكيل سيادة دينية أخرى في أوربا المسيحية أصلا. أما تاريخ الـ (جيتو الخاص) باليهود الذي ينفيه الدكتور عبده عنهم بقوله: من الثابت تاريخيا أن اليهود في ظل الحضارة العربية الإسلامية لم يعيشوا في جيتو اجتماعي أو سكني أو حرفي أو ثقافي وهو ما أتاح لهم أن يؤثروا في المجتمعات الإسلامية - فضارب في القدم في الأدبيات والسلوكيات الإسرائيلية، فقد كانت لليهود تجمعات في جنوب شبه الجزيرة العربية واليمن و«كانت هناك مستعمرات يهودية زاهرة في المدينة وفي واحات كثيرة من أعمال الحجاز الشمالي»، وكانت يثرب تضم تجمعا يعد من أكبر تجمعات اليهود في شبه الجزيرة، ويتوزع في ثلاث قبائل: بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع، الأولى والثانية كانتا من الكهنة ويقال لهما بنو هارون، وكان لهم أيضا تجمع في أعلى الحجاز على الطريق بين يثرب والشام في خيبر، ويقال لها ريف الحجاز، بالإضافة إلى تجمعات محدودة في فدك وتيماء ووادي القرى، وهي تجمعات سكانية مبنية أساسا على «جيتو اجتماعي قبلي» يعتمد الانتماء لليهودية كشرط للانضمام إليه، وبقي هذا الأمر متعارفا في الجزيرة حتى بعد ظهور الإسلام على تلك المستعمرات، فقد بادر اليهود الإسلام بالخصومة وأخذوا يتدخلون تجسسا وتأليبا وموالاة في الصراع المتصاعد بين المسلمين وكفار قريش، فأجلى المسلمون بني قينقاع إلى الشام لنقضهم العهد، أما بنو النضير فقد حاولوا اغتيال الرسول فأجلاهم عن المدينة، فنزل البعض منهم في خيبر والبعض الآخر مضى إلى الشام، وبحسب المصادر الإسلامية فإن ما كان من يهود خيبر ليس بأقل مما كان من أقرانهم من تأليب وتحالف وإعداد، فعاجلهم المسلمون في السنة السابعة للهجرة وحاصروهم في حصونهم إلى أن استسلموا على أن تحقن دماؤهم، فصالحهم المسلمون على ذلك وتركوا لهم الأرض يزرعونها بالنصف، ثم نزل بقية اليهود في فدك وتيماء ووادي القرى على مثل ذلك، ثم كان من عمر بن الخطاب رضي الله عنه -خليفة المسلمين الثاني- لما بلغه حديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» أن أجلى يهود خيبر وفدك ونجران، وأدى إليهم حقوقهم ويسر لهم التوطن في الشام والعراق خاصة الكوفة.

حسين جويد الكندي