اللغة العربية بين تفريط السياسات التعليمية، ومغالاة الحُرّاس والسّدنة

اللغة العربية بين تفريط السياسات التعليمية، ومغالاة الحُرّاس والسّدنة
        

          مما لا شك فيه أنّ مجلة العربي هي مجلة العرب الأولى منذ تأسيسها عام 1958، وحتى يوم الناس هذا, التي تُعنَى بالهوية العربية لغةً وثقافة، وهي المجلة التي حرصت وتحرص على غرس القيم العربية النبيلة في نفوس أبنائنا، وحثّهم على التمسك بعروبتهم ولغتهم أمام زحف الثقافات الأخرى التي تسعى حثيثًا إلى طمس الهوية العربية وهدِّ أركانها ودكِّ مقوِّماتها. وهذا ما جعل «العربي» على هذا القدر من الانتشار.

          وخير دليلٍ على ذلك هو ما كتبه الدكتور سليمان إبراهيم العسكري رئيس تحرير «العربي» حول هذه القضية في عدة أعداد كان آخرها: «الهويّة العربية بين سندان التغريب ومطرقة التطرف» (العدد 612 نوفمبر 2009)، وما كتبه د. حسن محمد أحمد محمد ردًا على هذا المقال بعنوان: «هويتنا العربية» (العربي العدد 615 فبراير 2010 )، وما كتبه رئيس التحرير تحت عنوان: «العربفونية في عصر العولمة» (العدد 613 ديسمبر 2009)، وما كتبه عاطف محمد عبد المجيد تعقيبًا على هذا المقال بعنوان: «كيف ننهض فعليًّا باللغة العربية داخليّا وخارجيًّا؟» (العربي العدد 615 فبراير 2010)، وما كتبتْهُ د. ريمة حلمي تحت عنوان: «رفقًا باللغة العربية» (العربي العدد 616 مارس 2010). فكل هذه البحوث والدراسات وغيرها الكثير والكثير تنطلق من مبدأ الحرص على اللغة العربية بوصفها مكوِّنًا من مكوّنات الهوية العربية. إن مواكبة التطورات العالمية، ولاستيعاب ما يستجد ويُستحدثُ من المكتشفات العلمية وما يُصاحبها من مسميات ومصطلحات، يُعدُّ حفاظا على قوميتنا وخدمةً لها حتى يصل أبناؤنا إلى المستوى المنشود من المعرفة التي لم يعد بالإمكان التغاضي عنها أو عدم الالتفات إليها. يُضاف إلى ذلك أنَّ اللغة هي الوسيلة والمفتاح الوحيد لتلقِّي كلِّ العلوم والمعارف، فاللغة يجب ألا يُنظر إليها على أنها علمٌ مستقلٌ عن غيره من العلوم، بل إنها وسيلةٌ لفهم كلّ العلوم ونقلها بين المُعَلِّمِ والمُتَعَلِّمِ، أو المُعطِي والمتلقّي، وهي الوسيلة الوحيدة التي تُحفظُ بها المعارفُ والعلومُ لتنتقل من جيلٍ إلى جيل، وهي الوسيلة التي ينتقل عبرَها التراثُ من السابق إلى اللاحق. فلولا اللغة لما وصلتْ إلينا علوم السابقين وأخبارهم ومعارفهم وعلومهم، ولولا اللغة لما استفدنا من سابقينا، ولولاها لن نكون قادرين على أن نفيدَ لاحقينا. إنَّ النهوض باللغة العربية لتصل إلى المستوى المُتوخَّى يحتاج إلى أن تتوافر أربعة محاور متضافرة فيما بينها. وهذه المحاور هي:

          أوَّلا ـ السياسات التعليمية العليا من طرف الدولة:

          المقصود بها هو الجهود التي يجب أن تبذلها الدول والحكومات من أجل خدمة اللغة العربية، وأقل هذه الجهود والمخططات هو تشجيع التلاميذ والطلاب على التخصص في مجال اللغة العربية وذلك بوضعِ حوافزَ ومزايا أمام خرَّيجي اللغة العربية لا تُمنح لغيرهم من التخصصات الأخرى وذلك مثل: مِنَحٍ دراسية، مكافآتٍ، إسكانٍ طلابي مجاني، مواصلاتٍ طلابية مجانية، وفتح باب الدراسات العليا بالداخل والخارج أمام المتفوقين منهم، وإعفائهم من رسوم الدراسة.

          ثانيًّا ـ السياسات التعليمية من قطاع التعليم:

          والمقصود بذلك هو البرامج التي يقوم بها قطاع التعليم من أجل اللغة العربية. أن يقوم بتدريسها ابتداءً من المرحلة الابتدائية أكفأُ المعلمين والمدرسين وأكثرُهم خبرةً. كما يجب على المدارس أن تقتدي بمواصفات الفصل التعليمي النموذجي التي تصدر عن منظمة الأليكسو من حيث عدد التلاميذ في الفصل، ومن حيث مواصفات القاعات الدراسية، ومن حيث التوافق بين العمر الزمني والمستوى التعليمي، ومن حيث عدد الساعات الدراسية في اليوم الواحد.

          هذا بالنسبة إلى التعليم العام أو الأساسي. أما في التعليم العالي، فإنّ اللغة العربية يجب أن تكون أكثر حظا وأوفر اهتمامًا واعتناءً بحيث لا يُقبل بتخصص اللغة العربية بالجامعات والمعاهد العليا وكليات المعلمين بصفةٍ أخصّ إلا مَن تتوافر فيه الشروط التي تؤهله لأنْ يكون معلمًا أومدرسًا ناجحًا في المستقبل

          ثالثًا ـ دور مجامع اللغة العربية في خدمة هذه اللغة وتنقيتها وترقيتها :

          لمجامع اللغة العربية دوران اثنان للنهوض بهذه اللغة وهما:

          1 - دور يتعلق باللغة العربية ذاتيا، ويُعنَى هذا الدور بتخليص اللغة العربية مما يعوقها من العراقيل مثل الحروف التي تُكتبُ ولا تُنطقُ، ومثل الحروف التي تُنطقُ ولا تُكتبُ.

          2 - دور يتعلق باللغة العربية وسدنتها والتحجير عليها:

          تُعدُّ سدانة اللغة العربية والوصاية عليها من أهم المشكلات والعراقيل التي تعوق اللغة العربية عن مواكبة غيرها من اللغات ومواكبة العلوم والمعارف.

          وعلى المجامع اللغوية العربية أن تحرِّرَ هذه اللغة من هذه القيود التي تضرُّ باللغة أكثر من أن تفيدها، وذلك بالتوسع في مجال الترجمة والتعريب بحيث يكون العمل بين المجامع عملا موحّدًا وملزِمًا.

          رابعًا - الإعلام العربي ودوره في النهوض باللغة العربية:

          لعلّ من أهم وسائل الإعلام في خدمة اللغة العربية هو تلك القنوات الفضائية التي أخذت تنتشر وتتزايد بشكل ملحوظ. وبما أن الأطفال هم الشريحة التي تأخذ أطول وقتٍ أمام أجهزة استقبال القنوات المرئية (أجهزة التلفزة) فإنّ هذه الشريحة هي التي سيقع عليها التأثير سلبًا أو إيجابًا من هذه القنوات.

          والحفاظ على اللغة العربية من خلال القنوات الفضائية يستوجب أن تكون للأطفال قنوات خاصة وكثيرة ومتنوعة منطلقة من أرضية عربية صحيحة وليست استنساخا من قنوات غربية، وأن تكون برامج هذه الفضائيات ذات إنتاج جيد يشد المشاهد إليها.

          فإذا لم تراجع النُّظمُ العربيةُ، وقطاعاتُ التعليمِ سياساتِها التعليمية للغة العربية، وإذا لم يتحرّر علماؤنا اللغويون من الخوف الذي جعلهم - من حيث لا يعلمون - يفرضون على اللغة العربية ودارسيها، ومدرسيها، ومستعمليها قيودًا، ومقاييسَ ومعاييرَ، كبّلتها وأوشكتْ أن تُميتها، فإنّ هذه اللغة ستتراجع وتندحر إلى أنْ تفسح المجال للّغات الأخرى كي تزحف عليها وربما تقضي عليها نهائيا.

د. الطاهر خليفة القراضي
ليبيا