مأثرة اكتشاف بيت المتنبي في حلب.. عزيزة السبيني

مأثرة اكتشاف بيت المتنبي في حلب.. عزيزة السبيني
        

لك يا منازل في القلوب منازل

          لم يكن المتنبي غائبا عن حلب، وعنا وعن العالم، على مدى عشرة قرون ونصف القرن، ولكن بيته كان ضائعا بين أطلال الماضي والحاضر، في غياب الإشارات والدلائل المنسية، في بطون الكتب القديمة النادرة المهاجرة إلى عواصم الشرق والغرب، وكان التقاط بعض هذه الإشارات كافياً، كدليل يقود إلى محيط ذلك البيت المجهول وموقعه، في المدينة التي عتّقها غبار التاريخ، وهي تبتعد عن الصحراء، ولا تخرج منها، وتقترب من البحر، ولا تسمع هدير أمواجه، لكنها تجمع بيدها خيوط طريق الحرير من الشرق، وتنثر فروعها في اتجاه الغرب والجنوب، وتلوي بيدها الأخرى سكة قطار الشرق السريع الوافد من نهايات أوربا، عبر المدن والجبال والأنهار الكبرى، وصولا إلى رأس الخليج العربي في البصرة، صنعت حلب تكويناتها بخصوصية شديدة، وبذلك الدأب التاريخي، وتلك الثقافة النوعية الدقيقة نسجت جمالياتها، بعضها لايزال كامناً، والبعض الآخر يقف شامخا، وقوراً، هادئاً.

          وأثناء زيارتها تحار من أين تبدأ، من قلعتها التي أعطت المدينة هوية الصمود؟ أم من مسجدها الجامع الذي حمل رسائل روحية وفلسفية منذ نداءاته الأولى؟ أم من كنائسها التي تمثل أكثر من عشر طوائف مسيحية؟ أم من خاناتها وحماماتها وأسواقها التي تسرد حكاية من مرّوا، وأقاموا فيها، أو رحلوا عنها، على طريقة المتنبي:

          «إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
                                        ألا تفارقهم فالراحلون همو»

          زيارتنا لمدينة حلب ليست الزيارة الأولى، إلا أنها تختلف عما سبقها، لأننا في هذه المرة في حضرة المتنبي، الشاعر العربي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وفي مناسبة تحديد موقع الحي والمنزل الذي أقام فيه، استناداً إلى المصادر التاريخية، حيث يشير الباحثون إلى أن المتنبي سكن في حي (سويقة علي)، وراء (خان الوزير) في القرن العاشر الميلادي قرابة تسع سنوات، تعتبر من أخصب سني عمره شعراً، كتب خلالها أهم ما حفظته الكتب وتناقله الرواة من شعره:

          مالنا كلنا جو يا رسول
                                        أنا أهوى وقلبك المتبول
          لا أقمنا على مكان وإن طا
                                        ب ولا يمكن المكان الرحيل
          كلما رحبت بنا الروض قلنا:
                                        حلب قصدنا وأنت السبيل
          فيك مرعى جيادنا والمطايا
                                        وإليها وجيفنا والذميل
          والمسمون بالأمير كثير
                                        والأمير الذي بها المأمول

          وقد أصدرت وزارة الثقافة السورية قراراً يقضي بتحويل البيت إلى متحف ومركز ثقافي، في محاولة منها للحفاظ على ما تبقى من ذاكرة الأمة في عصر اجتاحته العولمة، ولم يعد لنا فيه إلا ذلك المخزون الفكري الإنساني، باعتبار أن المتنبي في أشعاره يعكس مرحلة مهمة من مراحل تاريخنا العربي، وهي حالة إبداعية لا تتكرر.

          كان المتنبي مولعاً بالسفر بحثاً عن آفاق رحبة تليق بطموحاته، ولكنه يظل مسكوناً بالحنين إلى المنازل التي تركها وراءه على مضض:

          لك يا منازل في القلوب منازل
                                        أقفرت أنت وهن منك أواهل

اكتشاف المنزل

          يعود اكتشاف المنزل إلى جهود الباحث، المؤرخ محمد قجة، الحلبي أباً عن جد، الذي قرأ المتنبي وحفظ أشعاره وهو لايزال طالباً في المراحل الدراسية الأولى، وأثارته تلك الفترة التي عاشها المتنبي في مدينة حلب، فقضى سنوات طويلة باحثاً في الكتب والمصادر عن المكان الذي أقام فيه. ولم يصل الباحث إلى هدفه إلا بعد العثور على كتابين كانا مفقودين في الهند، لمؤرخ حلب في العصر الأيوبي كمال الدين بن العديم هما: «بغية الطلب في تاريخ حلب» و«زبدة الحلب في تاريخ حلب»، ويشير فيهما ابن العديم إلى أن «المتنبي عندما أقام في حلب عام 337 للهجرة، منحه سيف الدولة بيتاً بجوار بيوتنا في منطقة أدوار بني كسرى «وهذه المنطقة معروفة الآن بمنطقة (خان الوزير). واعتماداً على ابن العديم يقول قجة: ذكر ابن العديم في ترجمته لشخصية المتنبي، وفي الجزء الثاني من الكتاب، إلى أن نزول المتنبي بحلب كان عام 337 للهجرة، وكانت إقامته بجانب بيوتنا (بيوت آل العديم) في آدُر بني كسرى، هذا هو الخيط الذي أمسكت به، ولم أكن أعرف أين هي آدُر بني كسرى، وأين كانت بيوت آل العديم، حيث كانت حلب قد تعرضت للهدم والزلازل عدة مرات، وقد ساعدتنا إشارة أخرى في كتاب ابن العديم، هي قوله نقلا عن والده: «قال لي والدي إن بيت المتنبي أصبح الآن يقوم مكانه خنقاه سعد الدين كمشتكين، وهو أتابك (وزير) في الفترة الزنكية الأيوبية، وقد بقي هذا الخانقاه الذي قام في بيت المتنبي حتى تعرضت حلب لتدمير كبير على يد هولاكو (658هـ - 1260م)، وبعد هذا التدمير أصبحت جزءاً من الدولة المملوكية، وعاصمتها القاهرة، وكانت برتبة نيابة سلطنة، والوالي فيها يسمى نائب السلطان، وقد أعيد إعمار المدينة بما فيها القلعة والأسوار والأبواب والمنطقة التي يقوم فيها بيت المتنبي. وهنا تأتينا مراجع أخرى لتتحدث عن العمارة، فيصبح مكان خانقاه سعد الدين كمشتكين بناء يدعى المدرسة الصلاحية، نسبة إلى أمير مملوكي كان في حلب يدعى صلاح الدين الدواتدار، حيث اتخذها داراً واعتنى بها، وحين انتقل إلى طرابلس الشام، أوقف بيته مدرسة للعلوم الدينية فدُعيت بالمدرسة الصلاحية. وهناك الكثير المصادر التي تتابع التطورات التي طرأت على هذا البناء ككتاب (الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب) لابن الشحنة، وكتاب سبط بن العجمي (كنوز الذهب في تاريخ حلب) وكتابات ابن شداد وأهمها كتاب (الأعلاق الخطيرة).

          وبقي هذا المبنى يحمل اسم المدرسة الصلاحية الكبرى، حتى جاء تدمير حلب مرة أخرى على يد تيمورلنك في العام (1400 ميلادي - 803 هجري)، ومن جديد يعاد بناء المدينة، فيتم تقليص حجم المدرسة الصلاحية لحساب خان يقع جنوبها، يدعى خان (خاير بك) الذي كان نائب السلطنة المملوكية في حلب، فيصبح اسم المكان (المدرسة الصلاحية الصغرى).

          وخلال فترة الحكم العثماني لمدينة حلب، استخدم المكان مدرسة، ثم محكمة شرعية، ثم سكنا للطلاب، وبعد الزلزال الكبير الذي ضرب مدينة حلب أعاد ترميمه في مطلع القرن التاسع عشر بهاء الدين القدسي، فسمي بالمدرسة البهائية، لكنه بقي في سجلات الأوقاف يحمل اسم المدرسة الصلاحية، واليوم يحمل اسم مركز اللقاء الأسري.وإذا أردنا التدرج من الحاضر إلى الماضي نجد أنفسنا أمام موقع يحمل أسماء: المدرسة البهائية، الصلاحية، خانقاه سعد الدين كمشتكين، وقبلها بيت المتنبي بجانب بيوت ابن العديم في آدُر بني كسرى، وتعرف هذه المنطقة اليوم باسم سويقة علي، وتقع خلف خان الوزير، ومقابل خان الكتان الذي يعود إلى العصر المرداسي (القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي).

          وبعد أن تمّ الكشف عن مكان البيت وتوثيقه أصدرت وزارة الثقافة السورية قراراً بتحويله إلى متحف يحمل اسم المتنبي، وقامت مديرية الآثار والمتاحف بإعداد الدراسات اللازمة من مخططات، وأعمال ترميم وتوصيف للوظائف التي سيشغلها المتحف، وتم إيجاد مقر بديل لمركز اللقاء الأسري، ومن المتوقع أن تنتهي أعمال الترميم والتأهيل خلال هذا العام 2010.

متحف المتنبي

          لعل الفترة الذهبية التي عاشتها حلب من خلال أميرها سيف الدولة الحمداني المدافع عن الثغور، وبلاطه الذي شهد سجالات شعرية، وجمع العديد من الأدباء والمفكرين الذين خلدوا تلك المرحلة، وفي مقدمتهم المتنبي وأبوفراس الحمداني، برزت فكرة إنشاء متحف المتنبي بعد أن تم تحديد المكان الذي عاش فيه خلال وجوده في مدينة حلب، وأعدت مديرية الآثار والمتاحف الخطوط العريضة لإقامة المتحف بما يليق بمدينة حلب، التي سجلت في قائمة التراث العالمي منذ ثمانينيات القرن الماضي، وما يليق بشاعر كالمتنبي. وحدثنا الأستاذ نديم فقش مدير الآثار والمتاحف في حلب عن مشروع توظيف متحف المتنبي بقوله: يعتبر مشروع متحف المتنبي نوعياً يقدم جانبا مهماً من تاريخنا العربي العريق والغني بالأدب والشعر من خلال شخصية المتنبي.

          تقوم عناصر المشروع بتقديم شخصية المتنبي بكل جوانبها وأبعادها، ومدى تأثيراتها من خلال السيرة الذاتية والكتب النقدية، ودواوين الشعر. وسوف تمثل كل غرفة مرحلة من مراحل حياته، ويتم عرض تفاصيلها عبر شاشات إلكترونية، وشروحات ولوحات تصف حياته. بالإضافة إلى بعض المقتنيات، والكتب المرافقة لكل مرحلة معروضة ضمن خزائن ذات طراز قديم.

          وسيكون عند مدخل المتحف قسم لبيع التذاكر والبروشورات والأقراص الليزرية التي تتضمن جولة استكشافية للمكان، وتترك لدى الزائر انطباعاً جميلاً عنه ليشجع محيطه لزيارة المتحف. وأول ما يلتقي به الزائر في باحة الدار تمثال يجسد شخصية المتنبي، للفنان عبدالحميد نداف وتمثال آخر للفنان الحلبي الراحل فتحي محمد، وكل منهما يحاول أن يعطي فكرة للزائر عن بعض ملامحه، بالإضافة إلى أركان استراحة متوزعة في أماكن متفرقة من الباحة السماوية.

          وستمثل القاعة الرئيسة في المتحف المرحلة الحمدانية من حياة المتنبي وتحتوي على كتيبات وخزائن للمخطوطات والنقود والنحاسيات، فضلا عن ركن يأخذ الزائر إلى جلسات تداول الشعر في تلك المرحلة، ويضم الطابق العلوي قسم الإدارة، وركناً للاجتماعات.

          وأخيراً، وفي القسم الملحق بالدار ستجهز قاعة للمحاضرات مزودة بجهاز إسقاط.

أعمال الترميم

          يتألف البيت من طابقين، وعدد من الغرف، أبوابها من الخشب، ونوافذها تعلوها قناطر مزينة بأناقة، وباحة دار تطل عليها جميع الغرف، وتشير المصادر إلى أن البيت كان يمتد على مساحة أكبر مما هي عليه الآن، فقد ضمّ غرفا للخدم، واسطبلات للخيول. وللوقوف على أعمال الترميم التقينا المهندس تميم قاسمو عضو لجنة الترميم، الذي تحدث عن المكانة الأدبية والاجتماعية التي حظي بها المتنبي، وأشار إلى أن متحف المتنبي لن يكون كباقي المتاحف التي تعتمد على الأشياء المحسوسة بل سيكون مركزاً للمعلومات والأبحاث، التي تغطي النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة في تلك الفترة، فلن يكون متحفا خاصا بالمتنبي، وإنما عنه وعن حلب سيف الدولة، ولن يقتصر دوره على الجانب التاريخي، بل سيكون مركزاً لإقامة الندوات والمحاضرات وورشات العمل التي تجمع الأساتذة بالطلاب والباحثين.

          ويرى أستاذ اللغات والمناهج في جامعة حلب الدكتور صلاح كزارة، أن المتنبي حين اختار مكان إقامته، كان يريد أن يكون قريباً من سيف الدولة الحمداني، بحيث أن استدعاءه لا يستغرق وقتاً طويلاً بالوصول إليه. مشيراً إلى أن الباحثين الذين يدرسون المتنبي تعودوا دراسته في المديح والهيجاء، ولم ينتبهوا إلى الجانب الاجتماعي، والبيئة، والأوساط التي خالطها، ولعلنا في إقامة المتحف، ومن خلال محتوياته التي بدأنا بجمعها عن طريق الاتصال بالباحثين، والمكتبات، ودور النشر، وحتى المكتبات الخاصة للأفراد، نقوم بالإحاطة بتراث المتنبي وشخصيته التي أثارت جدلاً كبيراً ولاتزال.

جمعية أصدقاء المتنبي

          المتنبي هو جزء من ذاكرتنا الحضارية، ووجودنا واستمرارنا لأنه يقدم حقيقة الإنسان وتماهيه مع الإبداع الفني، هو ليس شاعراً عابراً، فإذا أخذنا عشرة شعراء فهو واحد منهم، وإذا أخذنا ثلاثة شعراء فهو واحد منهم، وإذا أخذنا شاعراً فهو الشاعر الوحيد، بهذه العبارات بدأ د.فايز الداية حديثه عن إطلاق جمعية أصدقاء المتنبي، في دعوة لإحياء المجتمع الأهلي بترويج الفكر والثقافة، مؤكدا أن إطلاق الجمعية، وإقامة المتحف، سيكونان رداً على دعاة التغريب، وستقوم الجمعية بالترويج للثقافة الأصيلة من خلال التحف والتذكارات والكتب، والزيارات السياحية، فكل سائح يمر على حلب لابد من مروره إلى بيت المتنبي، ولنا حماسة إضافية مع المتنبي لأنه ملك للإنسانية، وأيقونة عالمية، شاعر عربي أمضى ثلاثين عاماً من عمره الذي لا يتجاوز الواحد والخمسين عاماً في ربوع الشام، متنقلا بين أنطاكية، واللاذقية، وحلب، وحمص، ودمشق، والرملة، وطبرية.

          وأطول مدة متصلة كانت في مدينة حلب. وقد ذكر ذلك الثعالبي بقوله: «شامي المذهب الشعري، وإن كان كوفي المولد»، لذلك فنحن الأولى باحتضانه، مختتماً بالقول: ما أخذه المتنبي من سيف الدولة سيعيده أضعافا إلى مدينة حلب من خلال إنتاجية ثقافية اقتصادية.

          وفي اليوم التالي لزيارتنا كان لابد من زيارة بيت المتنبي، وسلوك الطريق الذي كان يسير به بدءا من لحظة خروجه من منزله، وصولاً إلى قصر الحلبة الذي لم يعد موجودا اليوم، وعلى الرغم من سوء الأحوال الجوية، وهطول المطر بغزارة، فإنها كانت زيارة ممتعة وغنية، عشنا فيها لحظات لا تنسى في حضرة سيف الدولة والمتنبي.

          وصلنا إلى بيت المتنبي في سويقة علي، ثم اتجهنا نحو باب أنطاكية، مروراً بسوق الزرب، الذي يتفرع عنه مجموعة من الأسواق المسماة حسب ما يباع فيها، عابرين نهر قوي، وصولا إلى دار الحلبة، أو قصر البستان، حيث كان يجلس إلى جانب سيف الدولة يراقبان سباقات الخيل، في منطقة تعرف اليوم ببستان القصر. وفي طريق عودته يسلك الطرق ذاته.
----------------------------------
* كاتبة من سورية
** مصورة من سورية

 

 

 

عزيزة السبيني*   




نحت لوجه أبو الطيب المتنبي





منزل المتنبي من أعلى





المنزل من الداخل





خان خاير بك





قلعة حلب





د. صلاح كزارة





مدخل منزل المتنبي