كتاب التغيّرات.. الينابيع الحية للفلسفة الصينية

 كتاب التغيّرات.. الينابيع الحية للفلسفة الصينية
        

          الغرب يستفيق من نرسيسيّته. ويتذكر أن هناك فلسفة في الشرق طالما أهملها. فمن هيجل إلى هايدجر، إلى آخرين عديدين من المفكرين، والاعتقاد السائد أن الفلسفة لا تتكلم إلا اليونانية، وأنها لا تمارس وظيفتها كاملة، إلا في الغرب، وحدها اليونان موطن «اللوجس»، ومَن تبقّى من الشعوب لم يحبل بغير الأحلام والهذيان.

          قلت الغرب يستفيق ويتذكر، لأنه حيّ أواخر القرن التاسع عشر، كان يقدر فلسفة الشرق حق قدرها، ففي فرنسا مثلاً، كان فيكتور كوزان (1792 - 1867) يجاهر بأن الهند هي عالم فلسفي. وفي أيام حكم الملك لويس - فيليب الأول (1830 - 1848) كان الطلاب الفرنسيون على علم بمذاهب الشرق الفلسفية أوفى بكثير من علمهم في هذا الزمن. وفي ألمانيا، ذهبت الحماسة بفريدريك شليجل (1772 - 1829)، وهو شاعر وعالم وأحد مؤسسي الرومنتيكية الألمانية، ذهبت به حتى الادّعاء «بأن علينا أن نبحث في الشرق عن الرومنتيكية السامية». وكانت الهند عنده هي الصوت الأول للفلسفة. فهناك على ضفاف «الجانج» سادت السنسكريتية، لغة الفلسفة، لغة الفكر البدائي، أي الكامل لعصر ذهبي وزمن ثابت. كذلك يعتبر شوبنهور أول فيلسوف أوربي كبير لفت انتباه الناس إلى الأوبانيشاد والبوذية، وتأثر بهما تأثراً عميقاً، إلى حد أن قمة فلسفته هي المثال التصوفي للنرفانا - أي السكينة المطلقة، أي وأد «إرادة الحياة» التي أخذها عن البوذية، بقصد تأمين سبل الخلاص من عبثية الوجود المأساوية.

          بعد انقضاء الربع الأول من القرن الماضي، أخذت تتوالى محاولات جادّة لرأب الصدع في الفكر الغربي. وهي تتنوع بين الدراسات والترجمات. ولعل أهمها ترجمة كتاب «يي كينج» «Yi King» أي «كتاب التغيرات» الذي راج على الأخص في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان رفيق درب الهامشيين في أوربا.

          يحتل هذا الكتاب في التراث الصيني، منزلة أشبه بالتي يحتلها الإنجيل في التراث المسيحي، والقرآن في التراث الإسلامي. ومن الممكن استنتاج تأثيره من التيارين الكبيرين في الفكر الصيني وهما: الكونفوشيوسية والطاوية، كما ظل عبر الأجيال هدفاً للمفسّرين والدارسين، حتى ليقدّر عدد الرسائل التي صنفت حوله بألفي رسالة حتى 1692 ميلادية.

          وفي عصر كعصرنا، حيث الحضارات تقف وجها لوجه، على غير ما عوّدنا التاريخ، وتجد ظاهرة «الإنسان الكوني» إمكان تحقيقها، في بعض الظواهر الحياتية، كان لابد من أن يستأثر باهتمام المثقفين الغربيين والهاربين من كوابيس مجتمعاتهم، كتاب يعد بين الأهم في التراث الشرقي، لاسيما بعد النصف الثاني من القرن الماضي.

اهتمام علم النفس الغربي

          والملاحظ أن «يي كينج» لم يُثر في الغرب فضول الفلاسفة أو العلماء، بقدر ما أثار علماء النفس، وخاصة «يونج» الذي وضع مقدّمة للطبعة الألمانية التي قام بترجمتها العالم النفسي ريتشارد فيلهلم عام 1924. وهي الطبعة التي اعتمدتها من بعد بقية الترجمات. فهؤلاء العلماء وجدوا فيه رواسب متعاقبة، تجمّعت عبر ملايين السنين، ومنذ الأحداث السحيقة القدم، لتشكّل نصوص الكتاب كما هي، مما يقدم أداة ثمينة للتعرّف إلى أسرار النفس الصينية في صفائها، وأرضاً خصبة للبحث عن عمل الحلم الذي وضع قواعده «فرويد» في حدود الذات الفردية.

          على أن «يي كينج» يسجل تجاوزاً لهذه الحدود الضيقة، إنه يشمل شعباً وتاريخاً، بحيث نجد أنفسنا أمام حلم جماعي، وصور وأفكار عظيمة كانت وراء تكون الحضارات، وعليه، فليس الأمر محصوراً ضمن تحليل للفردية، والرجوع إلى تراكمات محدودة ترتكز على طفولة تحدد عقد الفرد، إنما يمتد إلى تراكمات أعم، وربما تمثل الخلفية الطفولية، للإنسانية جمعاء.

          ليس ثمة مستقبل، ثمة دفق أبدي للحاضر، على هذه الحقيقة، أو بالأحرى، على اختبار هذه الحقيقة، تأسس هذا الأثر الصيني العتيق. وهو أنشئ أصلاً في الصين القديمة، ليكون «الطريق الملكي» إلى معرفة الحياة والكَون، في قصور الأمراء والندماء، ومثقفي ذلك الزمان، والطريق عند منشئيه، أولئك العرّافين الأوائل، هو أن يقرأ المرء «النظام الكوني» ليقيم الانسجام في ذاته. ولكن كيف يُقرأ هذا النظام، هذا الحبل الدائم بالكون؟ أو أن ندرك أن لاشيء يدوم في شكل مطلق، وأن قوانين التغير وحدها أزلية، وأوان نستشِفّ وراء العماء الطاقات الأوّلانيّة..

          جاء في الحاشية الرابعة، الفقرة السادسة من «يي كينج»: «الرجل العظيم هو ذلك الذي يكون في انسجام بصفاته مع السماء والأرض، وبتلألئه مع الشمس والقمر، وبخطواته المنسّقة مع الفصول الأربعة، وبصلته مع ما هو مستحبّ وما هو مشئوم، منسجماً مع شبيه الروح الفعّالة «للإله». يسبق السماء فلا تعمل السماء ضده، ويتبعها فلا يكون عمله إلا ما تحمل في ذلك الحين. وإذا لم تعمل السماء ضده، فما أصغر الناس إزاءه، وما أصغر شبيه الروح»!

سبق الصين على الإغريق

          نرى هنا كيف يسبق «يي كينج» الذي يعود تأليفه إلى العام 3322ق.م بمئات السنين، الفلسفة الرّواقية اليونانية القائلة: «عش منسجماً مع الطبيعة».

          لكن ما يلفتنا بنوع خاص، هو فكرة التغيّر المسيطرة عليه. وبذلك يكون تقدّم على هيراقليطس (500 ق.م) أيضاً بقرون عدّة، في شأن مبدأ (السّيلان العام)، الذي عُدّ اكتشافاً فلسفياً كبيراً في تاريخ الفلسفة، وحكراً على اليونان طوال أجيال.

          إليك قولَ هيراقليطس لتتوضّح المقارنة: «كل شيء يسيل، ولاشيء يبقى، كل شيء يترك مكانه ولا شيء يبقى ثابتاً».

          أو قوله: «لا يمكنك أن تنزل في النهر نفسه مرّتين، فإن مياهاً أخرى تسيل باستمرار».

          والغريب هنا، أن معاصره كونفوشيوس (511 ق.م) هتف بالمعنى ذاته، وهو يقف يوماً إلى جوار نهر: «كل شيء يتدفق على الدوام ليل نهار كهذا النهر».

          ونسجل أيضاً لكونفوشيوس استطراداً، سبقه على أفلاطون في مثله الشهيرة، حيث رأى «أن في فجر الأزمان وجوهاً مثالية، وجوه «ياو» «Yao»، ووجوه «تشوان - هيو» «Tchouan-Hieu»، وهي تعلق أبصارها على الأنماط الأولى في السماء».

          غير أن هناك فرقاً بين التغيرين: الهيراقليطسي والصيني. «الشيء الوحيد الذي سيطر على هيراقليطس هو تغير الضد إلى ضدّه. تغير الرطب إلى الجاف. وبالعكس. حتى الآلهة يتغيّرون إلى شيء ما، أو في صورة أدق، إن اسماً إلهياً يحتوي عملية تنظيم، كما عملية تدمير. الحرب وزوس شيء واحد. والتغيّر هو الشرط النهائي لكل شيء. في التغير راحة الأشياء، والشقاق أو الحرب هو الله، والشيء الأسمى هو الحرب أو التوتر، والسلام والسكون هما تنازع في حركة بطيئة».

          الحياة عند هيراقليطس حركة يولّدها اصطدام الأضداد. «في حين آمن الصينيون بوحدة مبدأي «الحركة و«القانون الثابت» الذي يهيمن عليها»، أي بالعكس، فالحياة عندهم كالحرباء (يي) التي تتغيّر ولا تتغيّر، لأن طبيعتها الحقيقية هي التغيّر، فالحرباء هي مرآة كيانها. كذلك لُحمة النسيج «كينج» التي ترمز إلى لُحمة الظواهر الكونية، حيث كل ظاهرة تهتز في انسجام تام مع الأخرى.

          التغيّر عند الصينيين أصل الموجودات، وهو لا يهدأ أبداً. وإذا سكن «كما ورد في الكتاب» فلن ينتج منه موت. لأن الموت وجه آخر للحياة. وعليه، فالسكون في المفهوم الصيني ندٌّ للحركة، وشريكٌ لها في إنتاج التغيّر.

          أما الإنسان أمام كل ذلك، فدوره كبير، إنه مركز الأحداث. وفي وسعه، إذا أدرك مسئوليته، أن يتسلّط على التغيّر.

          وجدير بالذكر، أن «يي كينج» عدا كونه مجموعة من الأفكار الفلسفية أو الأخلاقية، يملك شهرة سحرية، إلى حد يصعب فصله عن العرافة والكهانة اللتين لازمتاه، فعلى مدار تاريخ الصين الطويل، استمدّ منه المصلحون العظام إلهامهم ووحيهم، ومنهم جنكيزخان الذي كان يستنبئه في بعض قراراته السياسية الخطيرة أو غزواته الحربية. كذلك عامّة الشعب «وحتى عهد قريب جداً» كانت تلجأ إليه عند مواجهتها مشاكل الحياة، وكثيراً ما كانت المدن الصينية تشاهد تجّار آيات «يي كينج» يدورون في الشوارع، عارضين نصائحهم وتكهناتهم، إذ اعتبره الناس وسيلتهم لمعرفة «الإنسان»، وإدراك كنه «الكون».

          ولعل ما زاد في رفعته، اتسام فقراته بالغموض، واستعصاؤها على الفهم. مما جرّ ذلك الذيل الطويل من المفسّرين، ومنهم الفيلسوف والحكيم الصيني كونفوشيوس الذي ذيّله وأتباعه بتلك الحواشي والتعليقات التي أصبحت من صلب «الكتاب» في صورته الحالية المتداولة. وتعرف تلك الإضافات الكونفوشيوسية باسم «الأجنحة». وهي تؤلف مجمل مناقشات كونفوشيوس مع مريديه حول «الكتاب».

          ويضم «يي كينج» أيضاً 64 رسماً اقتُبست من الرسوم الناتجة من حرق صدفة السلحفاة. ومنها بخطوط مستقيمة (ـــــــــــــ) أو بخطوط منكسرة (- - -). وكل رسم وضع له الكهّان والعرّافون معاني ومغازي تُقرأ على أساسها الطوالع.

          ويجد الكتّاب الصينيون المعاصرون في الأجزاء الأقدم لهذا «الكتاب» مضموناً عينياً يلقي الضوء على تطوّر أنماط الحياة، كالبداوة مثلاً، والآداب الاجتماعية، من زواج واغتصاب وعقاب، تعود إلى سلالة «شانغ». إننا مع هذه النصوص الغامضة ذات المصطلحات التقنية التي لا مثيل لها في اللغات الأخرى، في قلب الينابيع الحيّة للفلسفة الصينية، التي تظل دائماً فلسفة طبيعية مرتبطة بالحسّي والتمثّلات المرئية المعبّر عنها في شكل رسم تخطيطي شامل. وإن كل المفردات الصينية تقريباً ترجع إلى «كتاب التغيرات» الذي لا غنى عن دراسته لمن يشاء التعمّق في الفكر الصيني.

شذرات من «كتاب التّغيّرات»

          مَن يستطيع أن يمشي على ذيل نمر، من دون أن يجعله يصرخ، ينجح في الحياة.

***

          الصغير يتجه نحو الكبير، والكبير نحو الصغير، ومن هنا، كان تطوّر الأشياء السعيد. (المادة تتجه نحو القوة، والأرض نحو السماء، والصغار نحو الكبار).

***

          المرأة القوية والوقحة، لا ينُصح بزواجها.

***

          نستطيع أن ننقل مدينة من مكان إلى آخر، ولكن ليس البئر، إننا نكتسب البئر أو نفقدها (هي كائنة وغير كائنة). نذهب إليها، ونعود منها. منفعتهاعظيمة. وإذا جفّ الماء وانقطع الحبل أو فُقد، فليُحطّم السطل.

          (ترمز البئر إلى الضرورة الحيوية للجماعة التي ليس في الإمكان تغييرها).

***

          الماء تحت النار يرمز إلى التغيير، الرجل الأسمى ينظّم حساباته (روزنامته) بحسب تغيّرات السماء، ويُعلن الأوقات والفصول. حتى في المستنقعات توجد النار.

***

          القِدر المعدنية رمز المبدأ السعيد والتطوّر الناجح.

***

          عندما تقترب الصاعقة تنشر الرّعب. وتصمت فجأة الأحاديث والضحكات. الصاعقة تُخيف مئة زنبقة، ولكن يجب ألا تُبعد ملعقة الذبيحة عن أفواه الأرواح.

***

          عظيم حقاً هو المبدأ الأول: كيين «Kien» كل الأشياء نجمت عنه. هو أصل السماء ويشملها كلها. وفيه تتكون الغيوم وتتدفق الأمطار وتستمد منه جميع الكائنات المختلفة أشكالها. ولتفسير البداية والنهاية، نستعمل ستة خطوط في ستة أوضاع مناسبة، بواسطتها، كما في عربة تجرّها ستة تنانين، نجتاز السّماء (ونَسْبر غور أسرارها). إن وظيفة «كيين» العادية هي في تشكيل الكائنات وتطويرها. كل كائن له طبيعته وعمله المحدّدان. وهكذا يستمر الاتحاد والانسجام الأسْميان. وهكذا يتقدم كل شيء، ويتقبّل نعمه ويتكامل.
------------------------------------
* كاتب من لبنان.

-----------------------------------

          أبَـا هِـنْدٍ فَـلا تَعْجَلْ عَلَيْنا
                                        وأَنْـظِرْنَا نُـخَبِّرْكَ الـيَقِينا
          بِـأَنَّا نُـورِدُ الرَّايَاتِ بِيضاً
                                        ونُـصْدِرُهُنَّ حُمْراً قَدْ رَوِينا
          وأَيَّــامٍ لَـنا غُـرٍّ طِـوالٍ
                                        عَـصَيْنا المَلْكَ فِيها أنْ نَدِينا
          وسَـيِّدِ مَـعْشَرٍ قَـدْ تَوَّجُوهُ
                                        بِتاجِ المُلْكِ يَحْمِي المُحْجَرِينا
          تَـرَكْنا الـخَيْلَ عاكِفَةًعَلَيْه
                                        مُـقَـلَّدَةً أَعِـنَّـتَها صُـفُونا
          وأَنْـزَلْنا البُيُوتَ بِذي طُلُوحٍ
                                        إِلَى الشَّاماتِ تَنْفِي المُوعِدِينا
          وقَـدْ هَرَّتْ كِلابُ الحَيِّ مِنَّا
                                        وشَـذَّبْنَا قَـتَادَةَ مَـنْ يِـلِينا
          مَـتَى نَـنْقُلْ إلى قَوْمٍ رَحَانَا
                                        يَـكُونُوا في اللِّقاءِ لَها طَحِينا
          يَـكُونُ ثِـفَالُها شَـرْقِيَّ نَجْدٍ
                                        ولَـهْوَتُها قُـضاعَةَ أَجْمَعِينا
          نَـزَلْتُمْ مَـنْزِلَ الأضْيافِ مِنَّا
                                        فَـأَعْجَلْنا القِرَى أنْ تَشْتِمُونا
          قَـرَيْـناكُمْ فَـعَجَّلْنا قِـرَاكُمْ
                                        قُـبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونا

عمرو بن كلثوم

 

 

 

هنري فريد صعب*