العباءة في التراث الشعبي العربي

العباءة في التراث الشعبي العربي
        

          العباءة لغةً هي كساء من صوف أو غيره، مشقوق من الأمام، واسع بلا كمين، يُلبس فوق الثياب. ويرجّح أنها مفردة آرامية الأصل، وتختلف باختلاف من يرتديها فثمّة عباءة يرتديها الفلاح أو الراعي فوق الثياب وهي رداء خشن واسع غير مردَّف، أي بلا كمين. أما العباءة النسائية فعرفت قديماً بالبساطة والسعة وسهولة الحركة، فكانت فضفاضة ومن دون كمين.

          لا تفتأ مروياتنا الشعبية ترفدنا بنماذج حية وعفوية وصادقة عمّا اكتنزه السلف من عيون الأقوال السائرة والحكم والحكايات والأغاني والأمثال الشعبية التي تمتلك جملة من الوظائف المتعددة التي عرفت عنها قديماً وحديثاً. فبعضها يروي تجاربنا الإنسانية، عامّها. ويعبّر بعضها الآخر عن آراء الجماعة ومزاجها الشعبي العام ووجهات نظرها في مجريات الأمور.

العباءة الفلسطينية

          وبالعودة إلى المعنى الشائع والمتداول للعباءة باعتبارها لباساً خارجياً أو رداءً طويلاً واسعاً، نبدأ بالنموذج الفلسطيني. فالعباءة الفلسطينية كانت تصنع من الصوف، وتخاط بواسطة قطع مستطيلة من القماش المزخرف بألوان زاهية. وكانت تلفّ حول أحد الكتفين ويترك الكتف الآخر عارياً. ويستشهد الباحث سليم المبيض على ذلك في كتابه «ملامح الشخصية الفلسطينية في أمثالها الشعبية» بلوحة بني حسن المشهورة التي تعود إلى سنة 1892 ق.م. لعائلة عربية كنعانية خرجت من جنوب فلسطين متجهة إلى مصر. مؤلفه التراثي هذا لا يعدم أمثالاً طريفة تتناول التعددية في تنوع الأزياء فضلا عن تمسك قومه بارتداء أزيائهم «ما يلبس تيابك غير حبابك» و«كل توب وإلو لبّيس» و«خود من توبك» أي تزوج من بنات قريتك أو مدينتك أو ممن ينتمون إلى الوسط البيئي الجغرافي عينه، والذين يتوحّدون فيما يتوحدون في أزيائهم الشعبية. ويروي في السياق نفسه مــثـلاً آخر يؤكد على وظيفة العباءة. فالفتاة تلبس عباءة فضفاضة لتستر بها جسدها وتحافظ من خلالها على وقارها وحشمتها «لبّس بنتك عباة وحطّها في بيت الفنا». وبما أننا في محضر التراث الشعبي الفلسطيني، نتوقف عند مثلين آخرين، فالأول هو «سلّكني وخذ عباتي» أي اعفُ عني وفي المقابل خذ عباتي. وبما أن المثل ورد على لسان البدوي الذي تكون عباته من نسيج ثمين أو من الصوف الكشمير الممتاز، فهو بذلك يتخلى لسائله عن أهم مقتنياته الشخصية. ويضرب هذا المثل عادة في مجال الجبن والهروب من الواقع والحقيقة. ونقرأ أيضاً «في أول خطراته ضيّع عباته» أي في أول سفراته طلباً للرزق أضاع عباءته. ويضرب لمن يهمل المحافظة على حاجاته المهمة فيضيع عباءته في أول سفرة له. وبالكلام عن مفقوداتنا فيقيني أن مفرداتنا تنوعت تالياً، فقد بتنا اليوم نستبدل النظارات والمظلات والحقائب اليدوية وحتى الحواسيب المحمولة بعباءات الأمس التي أضاعها البدوي في غمرة انشغالاته.

***

العباءة في الجزيرة العربية

          للأشقاء الكويتيين مثلان وردا في «الأمثال الكويتية المقارنة». الأول هو «العباءة ما تسدّ السيل»، وورد مثله في الجزيرة العربية بصيغة «يسدّ السيل بعباته». أما الثاني فهو «ما في العباءة رجَّال»، وتلفظ رجّال ريّال بقلب الجيم ياء على عادة الكويتيين. وترد في الجزيرة العربية بصيغة «ما بالعباءة رجل». ومعناه أنه بالرغم من مظهره كرجل فاضل يُعتمدُ عليه فإنه في الواقع لا يتصف بأخلاق الرجال.

          وفي مجال لبس العباءة ، يُقال عن المرأة الكويتية أنها «تبّعت» إذا وضعت عباءتها فوق رأسها، و«تِكمْكَمَت» إذا غطت نفسها بعباءتها جيداً كما ورد في «مختارات شعبية من اللهجة الكويتية».

          ورد في «الأمثال الشعبية في قطر» مثل يربط بين مدح المرء والأحقية في الاستحصال على قطعة ملابس عزيزة وغالية لدى الممدوح «امدحه وخذ عباته». وللنجديين رؤيتهم لتوظيف مفهوم العباءة في المجاز المرسل، لذا يرد في «الأمثال العامية في نجد» مثل «عباءة درويش»، أي كَعباءة الدرويش. ويضرب للقوم الذين ينتسبون إلى أشكال متعددة من الناس ولا تجمع بينهم رابطة. وذلك لأن عباءة الدرويش تكون كثيرة الرقع، ورقعها ذات ألوان متعددة من القماش.

          والعباءة قد تكون آخر مقتنيات الفقير الذي لا يملك من حطام الدنيا غيرها. لذا يقال في البحرين «ما على الفقير إلا عباته» أو «ما راس مال الفقير إلا عباته». فهي أضحت في نهاية المطاف «الحيلة والفتيلة» كما نقول في مأثورنا الشعبي.

***

العباءة العراقية

          للعباءة في العراق حكايتها وأمثالها المنسولة من طبيعة النسيج الاجتماعي في بلاد الرافدين ومن منظومة قيم أبنائه. وفي هذا المجال يذكر جلال الحنفي أربعة أمثال شديدة الدلالة على المكانة التي احتلها هذا الثوب الخارجي في سلوكيات الأفراد وعلى ألسنتهم. المثل الأول ورد على لسان كنة تعاني بغض حماتها الشديد تجاهها فتقول إنها «حسدتني على فجّة عباتي». ويبدو أنها تملك فجّة عباءة، أي إحدى القطعتين اللتين تُخاط منهما العباءة، أي نصف عباءة، ولا يُحسدُ من يملك مثلها. والمثل يُضرب لفرط الحسد بحيث ينصبّ على أتفه الأشياء. بيد أن هذا التفسير يلاقي توضيحاً في مؤلف عراقي آخر هو «جمهرة الأمثال البغدادية» الذي يؤكد أنه مثل نسائي، لكنه يفسره على وجه آخر. فالفجّة هي شق العباءة التي تتألف عادة من شقين أو فتحتين: عليا وسفلى. ويبدو أن المقصود بالفجّة في المثل العباءة كاملة لا نصفها. وذكرت الفجّة لتصغيرها وللتدليل على استهلاكها وعدم فائدتها للاستعمال. ويلفت إلى أن العباءة المهترئة ليست مما يستوجب الحسد، ولكن مبعثه كره الحماة التقليدي وحقدها الدفين على كنتها. وورد المثل نفسه، لدى أنيس فريحة في «معجم الأمثال اللبنانية الحديثة» وبالدلالة عينها بصيغة «جلجوقة عباتي» بدلاً من «فجة عباتي».

          مثل ثانٍ يستمد معناه من طبيعة الأعراف والتقاليد الاجتماعية المعتمدة لدى تزويج الفتاة وهو «شوف عباته واخطب بناته». ويضرب في أن للشرف أعرافاً وسمات معينة. وورد المثل في «الأمثال السامرائية» وذكر أنه يضرب للرجل الذي ليست له مكانة بين الناس. والمثل نفسه ورد بلفظ «طلّع في عباتها واخطب بناتها». والمقصود هنا أن عباءة كل من الأب والأم أمارة من الأمارات الدالة على أوضاعهما الاجتماعية وظروفهما المعيشية.

          وقد أورد التكريتي في «جمهرة الأمثال البغدادية» مثلا آخر هو «الحرامي يخاف على عباته، والزاني على مراته». والملاحظ هنا أن أهل بغداد لا يقولون «مراته» الا في هذا المثل، وذكرت بهذه الصيغة للسجع، فهم يقولون عادة «مرته».

          وثمّة تعبير جارٍ على الألسن هو «تحت العبا»... وله قصة طريفة. إذ كانت بعض الحاجات تباع بطريقة المزاد العلني. ومتى رغب أحد الحاضرين الاتفاق مع الدلاّل، دسّ يده بيده من تحت العباءة حتى لا يراهما أحد، وتفاهم معه بحساب الأصابع. لذا كنّوا عن البيع سراً بـ «جوّا العبا». والمثل يضرب لكل ما يجري بالخفاء.

***

بين عباءة العم وعباءة الخال

          يضيف الأردنيون مثلاً ذا دلالة مجازية في «الأمثال الشعبية الأردنية» فيقولون «العباه بدها قبّة»، ويضرب في أن ما يظنه الآخرون كاملاً ما زال ناقصاً. ويردفونه بآخر مفاده «عباتي وَنا بيها»، ويضرب لمن يعرف الأمور معرفة جيدة. وهم يميزون بين «عباءة العم وعباءة الخال» وهي عباءة تهدى إلى عم العروس، وأخرى إلى خالها يشتريهما العريس إكراماً لأهل عروسه وفق ما جاء في «معجم العبارات الريفية في شمال الأردن».

***

          وبدورهم يردد الليبيون أمثلة خمسة وردت في «معجم الأمثال الليبية»، وتتمحور حول العباءة التي تعني الجرد والرداء. الأول هو: «عبا تحتِ القمر»، ويضرب لمن يبحث عن شيء من دون أن يعي موقعه بدقة؛ كما يضرب لمن يختلط عليه الأمر لبلاهته وخفته. وقصته تُعزى إلى جحا. أما المثل الثاني فيعبر عن تعلق المرء بعباءته: «مْغير (غير) اطلق عمّك بعباته». يحكي المثل قصة رجل قصد أولاد أخيه طالباً منهم المال، ولم ينل منهم إلا الوعود وتجريده من كل ممتلكاته. وعندما أراد الرحيل نازعوه عباءته فاستغاث وناشدهم أن يتركوه يعود بسلام متدثراً إياها. والثالث مماثل لآخر فلسطيني يخبّر عن فقدان العباءة: «يضحك عبد السلام وعباته رايحه». ويضرب لمن لا تتناسب ردة فعله مع الظروف أو المواقف التي يمر بها، كمن يستغرق في الضحك وهو يبحث عن عباءته الضائعة. والرابع هو «بحري بعباته!» ويضرب للسخرية ممن لا يضع الشيء في مكانه الصحيح، أو يتعارض مع الطبيعة والمنطق. فالبحار على ظهر المركب لا يرتدي عباءته لأنها تعيق حركته. أما المثل الخامس والأخير فهو «الصاحب على الصاحب يبيع عباته» ومعناه أن مساعدة الصديق لصديقه تستوجب أحياناً التضحية بأغلى ما يملك المرء كالعباءة مثلاً.

العباءة في التراث اللبناني

          وللعباءة نصيبها من الأمثال في لبنان حيث يورد «معجم الأمثال اللبنانية الحديثة» مثلاً مفاده «قالوا : فراق البدوي بعبا. قلت يكون بسوق العبي كله». أي إذا كان ثمن التخلص من غلاظة البدوي منحه عباءة، فليأخذ سوق العباءات بأكمله. ويورد مثلاً آخر «هالعباية ياما قَطْعِّتْ فِرِي» ويضرب في معرض التعجب من استنفاد الغالي والنفيس لمصلحة أمر رخيص.

          ولم تغب مفردة «العباية» عن معجم لهجي فرنسي- عربي رصد من خلاله المستشرق برتلمي Barthélemy مختلف المفردات والتعابير الرائجة على ألسنة أهالي بلاد الشام في مطلع القرن المنصرم. إذ نقع على عبارة «ولَكْ عباية» وهي صرخة كان يطلقها أحد المترصدين لإسكات الجمع، وتحذير المهربين خاصة من وصول ورديان الريجي، أو حتى لتنبيه «المعترّين» من وصول دورية الشرطة. والشيء بالشيء يذكر؛ فأسواق بيروت الأربعينيات كانت معتادة على كلمة سر جوّالة تطلق بصوت منخفض هي «عباية عباية». كان هذا التعبير يتردد بين دكاكينها المخالفة للقانون أو بسطاتها غير الشرعية إن في «سوق النورية» أو في «سوق اللحامين»، إيذاناً بوصول «الحكومة» وضرورة أخذ الحيطة والحذر. المعنى الشعبي للعباءة في هذين المثلين هو ضرورة «الضبضبة» و«الاستتار»، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعباءة الساترة للعيوب والمخالفات والتجاوزات! وهنا أيضاً يتوسع المعنى القاموسي ليطال دلالات أنتجتها العامة استجابة لضرورات التواصل المستجدة.

          كما نجد تعبير «على غير عباية» أي «من دون قصدٍ» في «معجم الألفاظ العامية».

          أما اليوم فقد أصبحت العباءة موضة نسائية بامتياز، تتنوع ما بين شامية وخليجية، وتصنّع في كبرى دور الأزياء، وتتباهى بارتدائها العارضات الجميلات، وتعتمد في السهرات التراثية والرمضانية خاصة، لعبت في تراثنا الشفاهي المنقول وظيفة لافتة وذات دلالات متباينة كما رأينا. وقد خلّدتها الأمثال الشعبية في وجداننا وفي مدوناتنا، فهي في نهاية المطاف لون من ألوان الزي التراثي العربي التي تحفظ، كما اللغة، قيمنا وعوائدنا وثوابت اجتماعنا الثقافي.
------------------------------
* كاتب وباحث لبناني.

 

 

 

نادر سراج*   




عباءة من فلسطين، الزي لا ينفصل عن محيطه وثقافته فهو تعبير عن ارتباط الإنسان بأرضه





في دكان متخصص لبيع العباءات العراقية





عباءات نسوية في ليبيا