الطاقة الشمسية والشفرة الوراثية والإنترنت.. أدوات الثورات العلمية القادمة

الطاقة الشمسية والشفرة الوراثية والإنترنت.. أدوات الثورات العلمية القادمة

من المكتبة الأجنبية
عرض: الدكتور نضال قسوم

يقدم لنا هذا الكتاب من خلال دراسته للتطور التكنولوجي تصوّراً متفائلاً للحياة القادمة تمتزج فيه خيوط ملوّنة من العلم والأخلاق والفلسفة.

يعتبر فريمن دايسن شخصية فريدة من نوعها في الفيزياء والعلوم، وُلد في إنجلترا، ولكنه عاش السنوات الخمسين سنة الأخيرة في أمريكا، قضى معظمها في معهد الدراسات المتقدمة بجامعة برنستن (الذي عمل فيه أينشتاين حتى مات).

وقد اشتهر بشكل خاص بتوحيده لنظريات الديناميكا الكهربائية الكوانتية، ولكن مساهماته شملت عشرات المواضيع والمجالات الأخرى، خاصة أعماله في دراسات المستقبل البعيد جداً والمبدأ الأنثروبي (أي البشري). وقد ألف حوالي اثني عشر كتاباً لحد الآن، بين متخصص وعام، نذكر منها على وجه الخصوص:

- (إزعاج الكون)، وهو مذكرات علمية ممزوجة بأفكاره حول الحالة البشرية، وقد لاقى رواجاً منقطع النظير.

- (أسلحة وأمل)، وهو تأمل آخر في الطبيعة البشرية وكيف يجب أن تواجه العصر النووي بما يحمل من أخطار مصيرية.

- (لا نهائي في كل الاتجاهات)، الذي وجه فيه أنظاره إلى الخارج عوض الداخل، حيث يتجه الجنس البشري وحضارته.

وعرف دايسن كمفكر بارع وكعالم ذي قدرات هائلة وواسعة، وأيضاً كمحاضر وكاتب موهوب وشائق. وقد حصل من قبل على جوائز عدة، منها فيما يهمّنا هنا الجائزة الوطنية لنقّاد الكتب - وغيرها من التشريفات لمساهماته العلمية والفكرية. في كتابه الشهير السابق (لانهائي في كل الاتجاهات)، قدم دايسن تنبؤاته بأهم التطورات العلمية الحضارية القادمة، وكانت: الهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي والأسفار الفضائية، وبعد نحو عشر سنوات، هاهو يقدم لنا كتاباً (جمعه من سلسلة محاضرات ألقاها في مكتبة نيويورك العامة خلال عام 1997 لتنشر في شكل كتاب متجانس في ربيع 1999)، يصف فيه المستقبل الذي يأمل أن تأتي به العلوم والتكنولوجيا الحالية، ومن خلال هذا العرض يقدم دايسن تصوّراً كاملاً جميلاً ومتفائلاً، للحياة القادمة، نسج فيه خيوطاً ملوّنة من العلم والأخلاق والتكنولوجيا والفلسفة.

وهذه المرة هو مهتم بالمدى القريب أكثر من البعيد، ولذلك نجده يشطب على الأسفار الفضائية منذ البداية، ويبرر ذلك بالعثرات العديدة والإخفافات التي ظل يشاهدها في مشروعي وكالتي الفضاء الأمريكية والروسية (محطة (مير) على الخصوص). وكذلك الأمر في نظره بالنسبة للذكاء الاصطناعي، إذ لا نرى اليوم روبوتات أو أنظمة أذكى مما كانت عليه قبل 15 عشرة. أما فيما يتعلق بالهندسة الوراثية، فالأمر - طبعاً - مختلف تماماً، فقد شهد المجال تقدماً سريعاً ومفاجئاً، إذ وضعت لنا الشاة (دوللي) ومشروع (فك الشفرة الوراثية) ميدان البحث هذا في مقدمة الاهتمامات العلمية الراهنة، بل ربما ستشكل هاجس البشرية الأكبر (نقصد من الناحية الفكرية والفلسفية) خلال العشرينيات القادمة.

ومن البديهي أيضاً أن تطوّراً عظيماً آخر حدث منذ تنبؤات دايسن السابقة، هو شبكة الإنترنت. فقد صارت هذه الأخيرة، (عصب الحياة العصرية) (على حد تعبير المؤلف)،وهو شيء لم يكن حتى بل غيتس يستطيع التنبؤ به قبل اثنتي عشرة سنة.

أما المجال الثالث الذي أضافه دايسن لقائمته، فلم يكن بديهياً ولن يحظى بالإجماع، ويعترف المؤلف أن اختيار (الطاقة الشمسية) كان شخصياً أكثر منه موضوعياً، ويشرح ذلك بقوله إن هذه التكنولوجيا هي الكفيلة بنشر التطور والتقدم - بما في ذلك إيصال الإنترنت - إلى مختلف أنحاء المعمورة، خاصة أن المناطق الأكثر تخلفاً هي التي تتمتع بنصيب أوفر من الأشعة الشمسية.

ليست التكنولوجيا

تقوم فلسفة دايسن على مبدأين اثنين: أولهما أن التكنولوجيا - مع الأسف الشديد - لا تشكّل أهم عامل دفع في التطوّرات التاريخية (فالسياسة والدين، والاقتصاد والإيديولوجيا، والنزاعات العسكرية والثقافية كلها أهم)، وثانيهما أنه يتوجب على العلماء أن يدفعوا ويشجعوا التكنولوجيا التي تكون صغيرة في الغالب وتساهم في تسهيل حياة البشر وتحسين وضعهم العام من شتى النواحي.

ويعترف مفكّرنا أنه ظل متأثراً بمقولة صرّح بها أستاذه الرياضي الكبير غودفري هاردي: (يقال عن علم ما إنه مفيد إذا أدى تطوّره إلى توسيع الفوارق في الثروة ونمط الحياة لدى الأفراد والفئات، وإلى إحداث دمار أكبر في محيط الحياة). وطبعاً كان هاردي يعبّر بتهكّم مرير واستهزاء عميق عن نقده لما كان يمثل - في عصره - (تطبيقات) العلوم. ويوضح لنا دايسن، الذي كان في الأصل فيزيائياً نظرياً بحتاً، أن هذا جعله يهتم بالجانب التطبيقي للعلم وبالمشاريع الصغيرة والأبحاث التي تهتم بتطوير تطبيقات مفيدة في حياة الإنسان.

ولذلك نجد الكتاب، (الطاقة الشمسية، والشفرة الوراثية، والإنترنت)، يحمل عنواناً تحتياً توضيحياً هو (أدوات الثورات العلمية القادمة). فمن خلال هذه المجالات الحيوية الراهنة والمستقبلية، يريد دايسن أن يناقش أولاً فكرة مهمة هي: كيف تولد الثورات العلمية? فالجواب عن هذا السؤال ظل يقدّم من طرف فلاسفة العلم في إطار النسق الذي وضعه توماس كون في كتابه التاريخي والشهير (بنية الثورات العلمية) (الصادر أصلاً سنة 1962 والمنشور باللغة العربية ضمن سلسلة (عالم المعرفة) سنة 1992): أن ثورة علمية ما لا تحدث إلا عندما تأخذ مجموعة كبيرة من الباحثين في مجال ما بعين الاعتبار جملة من النتائج التي تناقض النظرية أو التفسير السائد والمتفق عليه. ولكن دايسن يرى أن كتاباً مهماً صدر سنة 1997 عن الفيزيائي بيتر غاليسن تحت عنوان (الصورة والمنطق) قد هزّ ذلك النسق الفكري (الذي ساد منذ صدور كتاب كون) بتقديمه تفسيراً جديداً لظاهرة ولادة الثورات العلمية في الشكل التالي: أن تلك الثورات تظهر عندما تتوافر لدى الباحثين أدوات مبتكرة وأجهزة جديدة تسمح لهم بخوض آفاق وأعماق أكبر مما أتيح لهم من قبل. ويبدو أن هذه الفلسفة العلمية الجديدة تميل إلى إعادة التوازن بين كفة التفكير المحض وكفة الاستكشاف العلمي التجريبي.

ومن الطريف، كما يشير كاتبنا، أن كتاب غاليسن تزامن صدوره مع الخدعة التاريخية التي قام بها الفيزيائي آلن سوكال على المجلة الاجتماعية المحترمة (النص الاجتماعي) Social Text، والتي أثبت من خلالها الخطأ الفادح في وجهة نظر المدافعين عن نظرية (العلم إنما هو تركيب اجتماعي وليس بنيانا موضوعياً مستقلاً عن محيطه التاريخي) (للتذكير، قدم سوكال (بحثاً) لتلك المجلة المحترمة تعمّد فيه خلط مفاهيم علمية محضة بمعان اجتماعية، كما يفعله بعض المفكرين الاجتماعيين الحداثيين، واستنتج آراء نسبية (تقدمية)، يستطيع أي طالب في العلوم الدقيقة كشف خطئها، لكن هيئة تحرير المجلة الاجتماعية سقطت في الفخ ونشرت البحث، وتمت الخدعة... فأحدثت ضجة غير مسبوقة مازالت تداعياتها متواصلة إلى اليوم!).

ويصرح دايسن في هذا الكتاب المتفائل أنه يأمل أن تشكّل الأدوات العلمية الثلاث الكبرى المذكورة في العنوان أساساً لمستقبل أفضل للإنسانية، وفي الوقت نفسه أساساً لتطوّرات مهمة (وربما ثورات) في مجالات مختلفة من العلم.

الهندسة الوراثية

يعتقد دايسن أن أحد أهم التطورات الأولى التي سوف تنبثق عن ثورة الهندسة الوراثية هذه هو تكنولوجيا الفيروسات الاصطناعية. إذ صار بالإمكان (تقريباً) اليوم تصميم وتصنيع فيروسات تدخل الخلايا وتغيّر أو توقف عمليات حيوية محددة، وبالتالي القضاء على داء معيّن أو إحداث تغييرات في صفات فرد ما. ويأمل الباحثون البيولوجيون أن يتم التوصل إلى صنع فيروس قادر على التعرّف على الخلايا السرطانية والدخول إليها للقضاء عليها أو توقيف تكاثرها، إلى جانب تطبيقات طبية عدة أخرى. وهكذا سيسمح الفيروس الاصطناعي باستبدال أدوات الجرّاح القاطعة وعقاقير العلاج الكيميائي المزعجة بعنصر أذكى وأدق وأقل ضرراً من حيث الآثار الجانبية.

وعلى صعيد آخر، نجد كثيراً من الأمراض البشرية سببها فقد البروتينات التي ينتجها الجسم في الأحوال العادية. ولا نستطيع استخراج هذه البروتينات بكميات كافية من الدم أو من الجثث البشرية، ولكن بإمكاننا نقل جين بشري معيّن إلى حيوان محدد (بقرة مثلاً) بحيث يقوم هذا الأخير بإفراز وإنتاج كميات مناسبة من الحليب، ثم يبقى علينا استخراج البروتين المطلوب من الحليب وهو شيء ممكن وسهل بالتكنولوجيا الحالية، رغم كونه مكلفاً جداً ويتم بكفاءة محدودة، مما يجعل هذه البروتينات نادرة حالياً. ولذلك نجد علماء البيولوجيا والوراثة يفكّرون جديّاً في مبدأ استنساخ البقرة الحاملة للجين البشري، بحيث لا نحتاج إلى عملية نقل ذلك الجين من البشر إلى الحيوان (العملية المكلفة) إلا مرة واحدة.

ولذلك يعتبر مشروع (الشفرة الوراثية البشرية)، الجاري حالياً والذي اقترب من النهاية، مشروعاً ذا أهمية فائقة، بالنسبة للبيولوجيا إن لم يكن للبشرية ومستقبلها. هدف المشروع هو التعرّف على السلسلة الكاملة للحمض الأميني البشري - وعدد قطعها يزيد على 3 بلايين - وتدوينها، ورغم أن عملية التعرف والتدوين كان يتوقع أن تستغرق 15 عاماً، إلا أن المنافسة الشديدة التي احتدمت أخيراً يبدو أنها أوصلت إحدى فرق البحث إلى النجاح المبكّر.

ويرى دايسن أن قرار التعرّف على السلسلة الكاملة كان قراراً خاطئاً لأنه اتخذ على أسس سياسية لا علمية. ففي نظره كان الأفضل أن يبحث في الـ10% الجوهرية من السلسلة، وتخصيص باقي الميزانية المحددة للمشروع من أجل تطوير طرق وأساليب للبحث والكشف تكون أكثر دقة وفاعلية من تلك المتوافرة حالياً. وفي هذا الصدد، ينصح دايسن البيولوجيين باتباع سلوك الفيزيائيين الذين جعلوا من طرق تطوير الأجهزة فرعاً من الفيزياء ذاتها، توصل بعضهم من خلاله إلى الفوز بجائزة نوبل، وهذا أكبر دليل على أهمية هذا المجال في البحث العلمي.

ويستخلص هنا مفكّرنا عبرة غاية في الأهمية، مفادها أن تغيير أهداف وأساليب مشروع ما بعد انطلاقه يعتبر - في السياسة - خطأ ودليلاً للضعف ولعدم القدرة على النظر بعيداً، ولكن في العلوم يكون ذلك دليلاً على الحكمة والقدرة على أخذ التطورات الجارية بعين الاعتبار، ومع الأسف في مشروع (الشفرة الوراثية البشرية)، طغت السياسة على العلم!

ثورة الإنترنت

إن أهم وأكبر ميزة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجديدة هو ميلها نحو العولمة. فهي تتجاوز وتتجاهل حواجز اللغة والثقافة والتقاليد المحلية. وليست هناك أي عوائق تقنية تمنعها من ربط العالم وشعوبه بعضها بالبعض الآخر. بل إن إمكانات إيصال المعلومات اليوم صارت أسهل بكثير من قدرة البلدان على توصيل الماء والكهرباء وتوفير السكن والطب لشعوبها. طبعاً ليس بوسع شبكة الإنترنت أن تحل مشاكل العالم الاجتماعية أو الاقتصادية، ولكننا بدأنا نلاحظ آثارها الإيجابية في مجالات عدة ومتنوعة لم تخطر ببال أحد عندما خُطط للشبكة. ولأن الإنترنت سيساهم في تقليص الفوارق في العالم، فإن دايسن يعتبره هنا بمنزلة الثورة الإيجابية الثانية التي ستفرض نفسها في المستقبل القريب.

ولتوضيح الفكرة، يقدم لنا الكاتب مشابهة مفيدة في هذا السياق، فيقول إن استخدام الحاسوب والإنترنت هو مثل التأمين الصحي: كلنا نحتاج إليه، ولكن معظم الفقراء لا يسعهم الحصول عليه. فالفئة المستخدمة للحواسب والشبكات، أولئك الذين يتجوّلون يومياً عبر الانترنت ويتصفحون معلوماته، بل ويربطون جزءاً من حياتهم (المهنية والشخصية) بشبكة الاتصالات، هؤلاء يحصلون على سبق وتفوق مهم على الفئات الأخرى، لأن كثيراً من الوظائف والصفقات (المتميزة خاصة) صارت تُعرض الآن على الإنترنت ويخطفها (الموصلون) قبل أن يسمع عنها أو يراها الآخرون. ويحذر الكاتب من أن (الذين لا يطلعون على مستجدات العالم عبر الإنترنت هم بصدد التحوّل إلى الطبقة الخادمة الجديدة، فالهوّة بين الموصولين وغير الموصولين تزداد وبسرعة متزايدة!..).

الطاقة الشمسية

من المفارقات الكبرى في عالم اليوم أن الطاقة الشمسية متوافرة كثيراً في البقاع التي تحتاج إليها بشكل ملح جداً: في البوادي والصحاري أكثر بكثير منها في المدن، وفي البلدان الجنوبية (الفقيرة والمتخلفة) - حيث تعيش أكبر نسبة من سكان العالم - أكثر منها في المناطق الشمالية المتقدمة. ولكن لا أحد يستغلها هناك!

ويمكن لنظام طاقة شمسي أن يحسن نمط المعيشة في قرية فقيرة بشكل جذري، ذلك لأن قدرة طاقوية بسيطة بمستوى 30 أو 50 واط تشغل بضعة مصابيح من نوع النيون وجهاز استقبال راديو أو تلفزيون أيبض وأسود لساعات عدة كل ليلة. وهذا يسمح للأطفال في بيوت القرية بأن يدرسوا ويذاكروا في المساء وللقرية أن تكون على اتصال بباقي العالم. طبعاً لا يمكن لـ 50 واط من الطاقة أن تسير اقتصاد قرية مهما كان بسيطاً، وهذا يعني أن قرية أو منطقة نائية ما لا يمكنها أن تعيش بشكل مقبول (بتعاريفنا اليوم) إلا إذا توافرت كميات أكبر بكثير من الطاقة. فهل هذا ممكن بالطاقة الشمسية؟

يستقبل كل كيلومتر مربع من المساحة في المناطق الاستوائية حوالي ألف ميجاواط (أي ألف مليون واط) من الطاقة كمعدل يومي. وهذا يكفي تماماً لتوفير كل مستلزمات الحياة الحديثة لسكان قرية كاملة. إذن ما هو العائق؟ تكلفة تحويل الطاقة الشمسية إلى كهرباء لاتزال جد باهظة!

إن تكلفة تجهيز بيت متوسط ليعمل بالطاقة الشمسية بالكامل هي اليوم حوالي 500 دولار. وثمة إجماع لدى الخبراء والاقتصاديين أن الطاقة الشمسية لن تكون بديلاً مقبولاً اقتصادياً - عوضاً للنفط - إلا إذا انخفضت تكاليف اللوحات الشمسية بخمس مرات!

هنا يتدخل كاتبنا باجتهاداته الذكية والثورية ويقترح تقنية تمزج بين الأنظمة الضوئية والبيولوجية! ففي تصوّره يجب إنتاج نباتات جديدة تستطيع تحويل الطاقة الضوئية إلى خامات كربونية قابلة للحرق، ويجب أن تكون كفاءتها جيدة، بنحو 10% على الأقل، أي أحسن من الأغلبية الساحقة من اللوحات الشمسية. وكيف السبيل إلى إنتاج مثل هذه النباتات الممتازة? الهندسة الوراثية طبعاً!

وهكذا تكتمل الصورة للمستقبل المشرق الذي يمكن للبشرية أن تخلقه لنفسها، كما يتخيّله كاتبنا المتفائل: إذا عملنا بنصائحه وتوجيهاته، فسوف يأتي يوم تترابط فيه البشرية جمعاء بشبكة عملاقة تعتمد على مجموعة كبيرة من الأقمار الصناعية الصغيرة للاتصالات تعمل بموجات الراديو وأشعة الليزر، بحيث تكون كل بقعة من الأرض على اتصال بأحد الأقمار في كل لحظة. وستتوافر الكهرباء في المناطق النائية بفضل مزارع مهندسة وراثياً لتحويل ضوء الشمس إلى خام كربوني ثم إلى تيار، ويمكن حينها تشغيل كل الأجهزة والمرافق - بما فيها أجهزة الاتصال - عبر الأقمار الصناعية والإنترنت!

في ذلك اليوم، ستشرق الشمس على أرض موحّدة ومتعادلة، لا فرق فيها بين الشمال والجنوب ولا الشرق والغرب.

العشريات القادمة

في تصوّر دايسن، سوف تأتينا أكبر التطورات والمفاجآت في حياتنا من الإنترنت والهندسة الوراثية - خاصة بعد فك الشفرة البشرية - وليس من الشمس أو السماء.

ويسوق لنا الكاتب مثالين حديثين يعتبرهما من أكبر المفاجآت العلمية التي حدثت خلال السنوات الثلاث الأخيرة: أولا استنساخ الشاة (دولي) وهزيمة غاري كسباروف (بطل العالم للشطرنج) أمام كمبيوتر، أي تفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري لأول مرة.

ويرى دايسن في آفاق الاستنساخ البشري إمكانات ونتائج هائلة وخارقة، بعضها إيجابي، وبعضها الآخر جد خطير على المستوى الاجتماعي والحضاري. فسوف يكون بوسع الآباء والأمهات قريباً - كما يقول - إمكان استخدام تكنولوجيا الاستنساخ وهندسة الوراثة لتعويض جينات محددة لأطفالهم قبل (تكوينهم)، وهذا سيغيّر قدرات الأطفال الجسدية والعقلية، بحيث يحمون من أمراض وأعراض معيّنة ويسلحون بقدرات أخرى تسهل لهم الحياة وترفعهم بالنسبة لمن حولهم! ولكن هذه التكنولوجيا، في العقود الأولى على الأقل، ستكون باهظة الثمن على الأغلب، وهذا سيؤدي إلى توسيع الفارق بين طبقتي البشرية: (الغنية أو المطعّمة جينياً) و (الطبيعية) كما يسميها الكاتب، ولاشك أن هذا سيدفع بالبشرية إلى التقسيم القديم: سادة وعبيد - اللهم إلا إذا جُعلت هذه التكنولوجيا في متناول الجميع!

ولكن دايسن يعي أنه إذا ما سُمح للهندسة الوراثية أن تعبث بحرية في الجينات البشرية، فإنها سوف تنقسم لا إلى طبقتين (سادة وعبيد) فقط بل إلى أجناس عدة، مقسّمة في فلسفتها ونمطها الحياتي (وفي ثروتها بالطبع). وستتحول تكنولوجيا الجينات إلى عامل انتقائي جديد وسريع، وقوي إلى حد أنه سيفرض حلاً واحداً للفئات الدنيا: الهجرة من على الأرض!

وهكذا ستنطلق المغامرة البشرية من جديد... انطلاقات عدة! بعضنا سينطلق في الفضاء بحثاً عن عوالم جديدة تحوينا بقدراتنا (مهما كانت حينئذ) وتسمح لنا باستثمارها، وبعضنا الآخر سينطلق في أشكال جديدة نحو حياة لا يمكن تصوّرها الآن.

إننا، على ما يبدو، أمام فجر جديد.

 

فريمن دايسن

 
 




غلاف الكتاب





فريمن دايسن