استراتيجية البحث عن (العفريت): قراءة جديدة لوضع المرأة في الخطاب العربي المعاصر

استراتيجية البحث عن (العفريت): قراءة جديدة لوضع المرأة في الخطاب العربي المعاصر

من المكتبة العربية
عرض: سعدية مفرح

لماذا حين يصبح الركود والتخلف من سمات الواقع الاجتماعي والفكري، يصبح وضع المرأة (قضية ملحة)؟

من هذا السؤال المهم، يبدأ موضوع كتاب الدكتور نصر حامد أبوزيد (دوائر الخوف.. قراءة في خطاب المرأة) بالتكوّن والتحقق تحت مظلة الإيمان بأهمية بحث قضية المرأة بتشعباتها وتداعياتها المختلفة على هامش واقع عربي اجتماعي وفكري غارق في الركود والتخلف.

ومنذ البداية، يتوقع الدكتور أبو زيد أن يجد العفريت فعلاً كل من يريد البحث عنه في ثنايا كتابه، ذلك العفريت الذي سبق أن عانى منه كثيراً منذ أن أعلن إيمانه بالاجتهاد سبيلاً إلى تصحيح معتقدات اعتمدت على النقل التواتري دون إعمال للعقل أو اجتهاد حقيقي انطلاقاً من مضمون المثل الشعبي المصري الذي يتوقع أن يطلع العفريت لكل مَن يخاف منه... بالتحديد.

قراءة جديدة لكتابة قديمة

وأبو زيد الذي يسمي كتابه (دوائر الخوف) ينطلق من مركز الدائرة التي انداحت لتصنع من مجمل كتاباته الأخيرة اتجاهاً يشير إليه بالتحديد، وإذا كان المؤلف قد كتب معظم فصول كتابه الذي بين أيدينا الآن قبل إصدار الحكم القضائي الشهير ـ الذي دانه، وحكم بتفريقه عن زوجته باعتباره مرتداً عن ملة الإسلام مما اضطره إلى الهجرة من بلده للعيش في هولندا - فإن قراءته على ضوء ذلك الحكم وما رافقه وتبعه من ملابسات وردّات فعل مختلفة ومتناقضة تلقي مزيداً من الأضواء على فكره ودعوته العملية لفتح باب الاجتهاد، خاصة أن مؤلفه يقدمه للقراء على طبق من مرارة التجربة الشخصية التي كان من الصعب عليه التغلب عليها، ويزداد الأمر صعوبة كما يقول أبوزيد (حين تكون مرارة التجربة ناتجة عن عوامل وظروف كان المفروض أن تؤدي إلى عكس ما أدت إليه بالفعل، والحديث هنا عن تجربة الكاتب التي دفعته دفعاً إلى أن يهجر وطنه وأهله، وأن يحرم من طلابه، غرس يديه وثروته الحقيقية، ويقرر الحياة في المنفى..)، فنصر حامد أبوزيد إذن يجمع بحوثه ودراساته التي سبق أن أنتجها قبل أن تتفجر قضيته القضائية الشهيرة، ويضيف عليها فصولاً جديدة ليصدرها في كتاب في ظل هذه الظروف (المريرة) التي أرّقت الكاتب وجعلته يتردد كثيراً في النشر بصفة عامة رغم أنه، كما يقرر، لم يتوقف عن القراءة والكتابة، خاصة أنه لاحظ أن (استراتيجية البحث عن العفريت)، كما يسمّيها، تسيطر على قراء كتبه مما جعله يفقد الجدوى في القراءة والكتابة أصلاً. وبالتالي فإن قراءة الفصول القديمة والجديدة في إطار من فهم وتفهّم الظروف التي أحاطت بتجربة الكتاب - الذي قرر أخيراً نشره بفضل جهود بذلها في إقناعه أحد أصدقائه الناشرين - تستدعي منا التغاضي عن بعض (الملاحظات) السلبية الفنية أو الشكلية فيه.

وقد سبق للكتاب الذي بين أيدينا الآن أن صدرت معظم فصوله في كتاب عنوانه (المرأة في خطاب الأزمة) وذلك قبل قضية أبوزيد الشهيرة، ولكنه لم يوزع لظروف تتعلق بتوقف دار النشر التي نشرته عن مواصلة عملها. ولذلك كان من الطبيعي أن يقتنع أبو زيد بإعادة نشره في صورته الجديدة رغم ما كان قد أصابه من إحباط، ولأن الكتاب أصلاً عبارة عن فصول كتبت ونشرت كدراسات منفصلة أو مستقلة عن بعضها البعض.

المرأة في خطاب الأزمة

قسم أبوزيد كتابه إلى قسمين رئيسيين، احتوى الأول الذي جاء بعنوان (المرأة في خطاب الأزمة) على ثلاثة فصول تحدث فيها عن (أنثروبولوجية اللغة وانجراح الهوية) و (خطاب النهضة والخطاب الطائفي) و (الواقع الاجتماعي: بعد مفقود في الخطاب الديني)، أما القسم الثاني عن (السلطة والحق) فقد احتوى على تقديم موجز وأربعة فصول تحدث فيها عن (المسلمون والخطاب الإلهي) و (حقوق المرأة في الإسلام) و (الإسلام والديمقراطية والمرأة) و (المرأة والأحوال الشخصية).

وقد تضافرت كل هذه الفصول في تقديم رؤية المؤلف المختلفة والمجذرة دينياً وتراثياً ولغوياً للمرأة وعلاقتها بخطاب الأمة المعاصر تجاه قضية المرأة المعاصرة بالذات.

في (أنثروبولوجية اللغة وانجراح الهوية) يرى أبوزيد أن الخطاب المنتج حوّل المرأة في العالم العربي المعاصر خطاب في مجمله طائفي عنصري، بمعنى أنه خطاب يتحدث عن مطلق المرأة/الأنثى ويضعها في علاقة مقارنة مع الرجل/الذكر. لكن هذا ليس شأن الخطاب الديني وحده، بل هو أيضاً شأن الخطاب العربي السائد والمسيطر شعبياً وإعلامياً.

وحتى عندما نرصد في ذلك الخطاب مفردات تنتمي لأجواء المساواة والمشاركة، فإن الباحث يكتشف أنها إنما نابعة من افتراض ضمني يحمله الخطاب بمركزية الرجل/المذكر - فالمرأة حين تتساوى، فإنها تتساوى بالرجل، وحين يسمح لها بالمشاركة، فإنما تشارك الرجل، وهو يعود بذلك الخطاب إلى جذوره في بنية اللغة العربية ذاتها من حيث هي لغة تصر على التفرقة بين الاسم العربي والاسم الأعجمي على صعيد الصرف. وهذا التمييز على مستوى اللغة ومستوى دلالتها ينبع منه تمييز آخر بين المذكر والمؤنث في الأسماء العربية، وهو تمييز يجعل من الاسم العربي المؤنث مساوياً للاسم الأعجمي من حيث القيمة التصنيفية، وإذا كانت اللغة تتعامل مع المرأة من ذلك المنظور الطائفي العنصري، فإنها إنما تعكس مستوى وعي الجماعة التي أبدعت تلك اللغة، ورغم الوعي المتميز الذي تمثّل بعد ذلك في لغة القرآن التي خاطبت النساء كما خاطبت الرجال، فإن هذا الوعي الجديد دخل في صراع مع الوعي الذي تمثله اللغة من خلال الصراع المركّب والمعقّد جداً على أرض السياسة أولاً، ثم على ساحة الفكر الديني والثقافة العربية كلها بعد ذلك، ففي عصور التأخر والانحطاط يتم إخفاء (النساء شقائق الرجال) ويتم إعلان (ناقصات عقل ودين).. ولعل أبرز نماذج ذلك الصراع ما حدث بعد هزيمة يونيو 1967 حيث تنامى الإحساس بالعار والخجل، وانجرحت الذات العربية الرجولية انجراحاً لم يجد دواءه - ناهيك عن شفائه - حتى الآن. وتعويضاً عن العجز في المواجهة والثأر، لجأت الذات الجريحة للهروب إلى الماضي وإلى هويتها الذاتية الأصلية، إلى الرجولة، في بقائها المتوهم... وهكذا لم يبق إلا (التشرذم) و(الطائفية) و(غطاء الدين)، وحين ينضم الثلاثة في تشكيلة واحدة، فإنها لا تفرخ إلا (الإرهاب)، وفي هذا السياق المتخم بالعنف والإرهاب يزداد عنف الرجل ضد المرأة.

خطاب النهضة والخطاب الطائفي

و... في الفصل الثاني من الباب الأول، يرى أبوزيد أن المتشتت يجتمع في خطاب النهضة، فالجزء لا قيمة له خارج المنظومة، واحتقار المرأة صورة لاحتقار الإنسان، ولا يحتقر الإنسان إلا في مجتمع تحكمه قبضة يدّعي صاحبها حقوقاً ميتافيزيقية. وهذه الصورة تتسع كلما تابعناها لتقف ضد التفرقة على أساس الدين أو العرق أو الطائفة، بل تتسع أكثر لتناهض ثنائية الأنا والآخر بوصفهما نقيضين يمثل (الإسلام) الأنا، وتمثل (أوربا) الآخر. ويقول الباحث إن كل الصور تنعكس في الخطاب الطائفي النقيض - الذي يحمل شعار الإسلام - فتتضخم الأنا تعويضاً عن الهوان والهزيمة والتبعية، وتتحدد الهوية على أساس (الدين)، ويتم اضطهاد الآخرين، كما تتم محاصرة المرأة داخل الحجاب... إلخ.

ويقترح أبوزيد على خطاب النهضة الذي عانى ويعاني من تأثير كل ذلك ولكي يخرج من حالة الحصار، عدم تقديم تنازلات من أي نوع والنهوض نحو مزيد من الإنجاز معتمداً على (جوهر) إنجازات سلفه التاريخي من جهة، وإنجازات العقل الإنساني في مجالات العلم كافة من جهة أخرى.

ويشير الباحث في فصل (الواقع الاجتماعي: بعد مفقود في الخطاب الديني) إلى أن الخطاب الديني يزيّف قضية المرأة حين يصرّ على مناقشتها من خلال مرجعية النصوص متجاهلاً أنها قضية اجتماعية في الأساس. ولأنه خطاب مأزوم، فهو يساهم في تعقيد الإشكالية (إشكالية أزمة الواقع العربي والإسلامي المعاصر) في حين يزعم أنه يساهم في حلّها. ولأنه خطاب مأزوم، يضيف الباحث، فهو يعتمد على النصوص الشاذة والاستثنائية، ويلجأ إلى أضعف الحلقات الاجتماعية سعياً لنفي الإنسان حيث يتعامل مع المرأة تعامله مع الأقليات استهدافاً للإلغاء. وهو خطاب يستند رغم سلفيته، بالإضافة إلى مرجعية النصوص الدينية، إلى مرجعية خارجية هي مرجعية أوربا بصورتيها المتقدمة من جهة والمتحللة من جهة أخرى، ولأنه لا يستطيع مناهضة الصورة الأولى، فإنه يسقط الثانية على خطاب النهضة العربي من أجل إدانته وتشويهه وبالتالي تشويه الإنجاز الأوربي. ذلك الإنجاز الذي يكشف له عجزه وتهافته وضعف منطقه. فهل يمكن بعد هذا كله، يقول أبوزيد، أن يختلف معنا أحد في أن الحضور الظاهري للمرأة في الخطاب الديني هو حضور يؤكد (الفقد) بما هو حضور مرتهن بالنفي؟! وهل يمكن الحديث عن (بعد) المرأة في الخطاب الديني دون أن نضيف إليه صفة (المفقود)؟

السلطة والحق

عنون أبوزيد للقسم الثاني من كتابه (السلطة والحق) بعنوان فرعي هو (مثالية النصوص وأزمة الواقع) وهو يبدو شارحاً ومبرراً لمضمون التقديم اللافت الذي قدم به القسم الثاني من الكتاب والذي أشار فيه إلى أن المسافة بين المثال الذي تطرحه النصوص دينية كانت أم دنيوية، وبين الواقع الفعلي هي محور دراسات القسم الثاني من الكتاب والتي ستتخذ من (الخطاب الإسلامي) مادة لتحليلها رغم أن هذا لا يعني أنه خطاب (فريد) في بابه، كما لا يعني ذلك من جهة أخرى أنه خطاب (شاذ) في نمطه، ولكنه مثال ونموذج لأزمة الوجود الإنساني منذ فجر التاريخ حتى الآن، أزمة الفجوة بين (المثال) الروحي والفكري وبين (الواقع) المادي الغليظ. ويقول الباحث إن دراسته في سعيها لتحليل الخطاب الإسلامي تهدف إلى تعميق الوعي بالأزمة خطوة في اتجاه الحل، وذلك بدلاً من الاكتفاء بتبادل الاتهامات الذي من شأنه أن يعمّق الأزمة بتسطيح الوعي بها.

وقد تناول أبو زيد في فصل (المسلمون والخطاب الإلهي) موضوع الإنسان ذكراً كان أم أنثى، رجلاً أم امرأة، وأسبابه في ذلك أن مجتمعاً لا تترسّخ فيه قيم الحرية واحترام حقوق الآخرين، لن يكون قادراً على تجديد مفاهيمه وقوانينه بما يتناسب مع تبدّلات التاريخ وتحوّلات المجتمع، وبما يؤسس لثوابت تجعل للمكتسبات التي تتحقق للفئات المغبونة فيه قوة الثبات والاستمرار. ورغم أن عنوان الفصل لا يشي بعلاقة خاصة بمضمون ما فيه بقضية المرأة التي هي موضوع الكتاب الأساسي، فإن أبوزيد اختار أن يتناول في هذا الفصل موضوع حقوق الإنسان على العموم قبل أن ينتقل في الفصل الثاني إلى حقوق المرأة على وجه الخصوص لأنه يرى أن موضوع حقوق المرأة يقع في صلب الدفاع عن حقوق الإنسان.

وقد عمل الباحث في هذا الفصل على أن ينصب تحليله بصفة أساسية على الخطاب الإسلامي في بعده الإنساني، أي على طرائق فهم المسلمين للخطاب الإلهي في سبيل تقديم صورة لمكانة الإنسان ولحقوق المرأة في الفكر الإسلامي، كما تتجلى في (علم الكلام) وفي (الفلسفة) وفي (التصوّف) وفي (أليجوريا العقل الخالص).. فعلى صعيد علم الكلام أفضى تركيز المعتزلة على الجانب المعرفي للإنسان بهدف محاربة الطائفية والعنصرية إلى وضعه في مرتبة أدنى من مرتبة الملائكة، ويرى أبوزيد أن هذه إحدى إشكاليات الفكر الفلسفي الإسلامي إن لم تكن واحدة من إشكالياته المحورية. أما على صعيد الفلسفة، فإن الإنسان الذي يتحدث عنه الفلاسفة ويضعونه في مستوى قريب من مستوى النبي هو الإنسان الفيلسوف، وليس الإنسان الاجتماعي العادي، وهكذا تتحدد قيمة الإنسان طبقاً لمستوى وعيه المعرفي، وينقسم البشر إلى خاصة وعامة. في حين نجد أن المفهوم الإنساني للفكر الصوفي يدور في مجمله حول الإنسان (العارف)، أي الذي تحقق بالمعرفة التامة الكاملة بنفسه وبالوجود وبالألوهية، وهذا الإنسان هو ميزان الحقيقة لأنه هو الكمال بعينه، وهو الإنسان المحتفى به رفيع المنزلة وكريم المكانة، وأما الإنسان (غير العارف)، الإنسان الاجتماعي البسيط، فلا شأن له في ذلك النسق المعرفي. وفي أليجوريا الحي الخالص ونموذجها قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل يرسو العقل الكوني للعارف إلى العزلة والتوحّد والتسليم للعامة بجهلهم بدلاً من بذل الوسع في تعليمهم. ولأنهم مفطورون على جهلهم ومجبولون عليه في شبه جبرية صارمة، فما على العارف إلا أن ينزوي بعيداً عنهم محققاً خلاصة الفردي في أحضان المطلق الذي قد يتشاكل أحياناً مع (مطلق) السلطة. وبهذا ينفرد العارف باستحقاق لفظ الإنسان. ويكون الإنسان هو موضوع الواجب والممنوع في الفقه القانوني عموماً، وكلاهما وجهان لغاية واحدة هي منع التصادم بين الإرادات والحريات الفردية، والذي يفرض قانون المباح والممنوع إرادة تعلو على إرادات الأفراد، وهي إرادة المجتمع التي عبّر عنها بعض الفلاسفة بمصطلح العقد الاجتماعي. وقد خلص أبو زيد من خلال استعراضه لمفهوم الإنسان في الفكر الإسلامي إلى أن الإنسان الذي احتفى به القرآن والسنّة في كثير من نصوصهما قد خضع لتحديدات شتى في مجال الفكر غاب في معظمها الإنسان الكائن الاجتماعي عن هذا الفكر، وقد أهمل ذلك الإنسان العادي المؤرخون الذين شغلوا بتاريخ الرسل والملوك واعتبروه كمّاً مهملاً يُشار إليه غالباً باسم (العامة) و (الطغام) و(الحشوية). وبالتدريج تحوّل الفكر الإسلامي من أن يكون صياغة للواقع وترشيداً له إلى أن يكون تبريراً لهذا الواقع بمنحه غطاء أيديولوجيا ومشروعية دينية، ثم تجمّد الاجتهاد وسيطر التقليد على التجديد في العقل المسلم تحت مظلة التراث في نوع من الإذعان والتسليم والطاعة لكل سلطة تتدثر بعباءة القديم، وفي هذا الإطار، يصبح المعيار الوحيد للإنسان هو الطاعة.

أما الإنسان في خطاب الإسلام السياسي، فيرى أبوزيد أنه قد ضمر مفهومه وتضاءل وانحصر في (المسلم) المستسلم المذعن والمنطوي تحت جناح التأويلات السياسية النفعية للدين والعقيدة، وهكذا تتباعد المسافات وتتعمق الاختلافات بين (مثالية) النصوص الدينية من جهة، و(واقع) الفكر الديني بشقيه الرسمي والمعارض من جهة أخرى. لكن هذه الفجوة بين المثال والواقع في تصوّر الإنسان أو التعامل معه ظاهرة إسلامية بقدر ما هي ظاهرة إنسانية.

حقوق المرأة في الإسلام

في فصل (حقوق المرأة في الإسلام) رأى أبوزيد أن لقضية حقوق المرأة أبعادها الاجتماعية والثقافية والفكرية داخل كل بنية مجتمعية، كما أن لها أبعاداً ذات طبيعة إنسانية تتجاوز حدود البنية المجتمعية الخاصة، خصوصاً في ظل تشابك العلاقات بين المجتمعات في العصر الحديث، ويضاف إلى هذا التشابك والتعقد بعد خاص في مجتمعاتنا العربية الإسلامية هو بعد الدين الذي مازال يمثّل مرجعية شرعية وقانونية مستمدة من مرجعيته الأخلاقية والروحية. ويرصد الباحث قضية تحرير المرأة منذ ما يسمى بعصر النهضة العربي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث كانت قضية تحرير المرأة (أولا) ثم تحريرها من التقاليد البالية الراكدة التي تعوق حركة المجتمع بأسره (ثانياً) تحتل أولوية في سلم المهام النهضوية العاجلة. ولاشك أن العودة مجدداً لمناقشة قضايا المرأة في العالم العربي والإسلامي لا ينفصل عن نموّ الظاهرة التي يطلق عليها أصحابها عادة اسم (الصحوة الإسلامية)، بينما يسمّيها البعض الآخر (الإسلام السياسي) وتسمى في الإعلام الغربي (الأصولية الإسلامية). وأيّا كانت الصفات التي تلحق بالظاهرة في تسمياتها المختلفة، فإن حضورها يمثل حضوراً مركزياً في إثارة الأسئلة التي كنا نظن جميعاً أن خطاب النهضة قد قدم الإجابات الحاسمة لها، خاصة تلك الأسئلة التي تتعلق بحقوق المرأة في الشريعة الإسلامية. ويرى أبوزيد أن تواتر الهزائم العربية أدى إلى إيقاظ النعرات الطائفية تبعثها من مرقدها، فاتخذت شكل النعرات القطرية على المستوى السياسي، واتخذت على المستوى الاجتماعي أشكالاً أخرى يندرج فيها اضطهاد الأقليات بالتهميش تارة، وبالاستعباد تارة أخرى. وفي جميع الأحوال، ينشط خطاب سلطوي قاهر عاجز عن الإنصات ورافض للحوار يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، ويزعم لنفسه مرجعية عليا مستمدة من السماوي المقدّس. وسواء كان الخطاب سياسياً أو اجتماعياً، فالمحصلة هي استعباد الفرد - رجلاً وامرأة - وقهره، وفي هذا القهر يقع قهر مضاعف للمرأة والطفل معاً.

وختاماً لهذا الفصل، يقول أبوزيد إن التأويل والتأويل المضاد يعتمد كلاهما على (الانتقاء) أي إبراز النصوص التي تخدم غرض المؤول بوصفها (الأصل) وتأويل النصوص التي تخالف غرضه وتخدم غرض الخصم تأويلاً يسلبها الدلالة غير المرغوب فيها. وسواء اعتمد التأويل ثنائية (الخصوم والعموم) أو اعتمد آلية (الإبراز والإخفاء) فالنتيجة واحدة: التلاعب الدلالي بالنص الديني - قرآناً أو سنة - دون اعتبار لطبيعة تلك النصوص تاريخاً وسياقاً وتأليفاً ـ بمعنى التركيب والتكوين لا بمعنى أنها من وضع البشر وتأليفهم ـ ولغة ودلالة.

الإسلام والديمقراطية والمرأة

في فصل (الإسلام والديمقراطية والمرأة) يتخذ أبوزيد مما يسمّيه بدوائر الخوف عند فاطمة المرنيسي نموذجاً للحديث عن الخوف من التحديث والحداثة، ويقول: إذا كانت قضايا المرأة في الواقع والتاريخ تمثّل محور الاهتمام الأساسي ونقطة الانطلاق الجوهرية في خطاب فاطمة المرنيسي، فاللافت أن هذا المحور قادر على استحضار أزمة الواقع العربي الإسلامي الشاملة، وقادر على تكثيفها، بالقدر نفسه الذي تمثل به الخلية الواحدة من خلايا الكائن الحي كل خصائص هذا الكائن وتكثّف تاريخه البيولوجي الشامل. ويؤكد أبو زيد أن قضايا المرأة في خطاب المرنيسي ليست قضية جنس، مؤنث ومذكر، كما أنها ليست بالقطع مجرد قضية دينية، بل هي بالإضافة إلى ذلك كله قضية (أزمة السلطة السياسية) في علاقتها بالناس منذ فجر التاريخ العربي. وفي تحليل طبيعة العلاقة المتأزمة بين الحكام والمحكومين في سياقها السسيوتاريخي تلمس فاطمة المرنيسي بعمق الجذور العميقة لما يبدو أزمة المرأة في الواقع والتاريخ.

المرأة والأحوال الشخصية

في آخر فصول الكتاب، يقدم أبوزيد قراءة تحليلية أرادها أن تكون محايدة قدر الإمكان لقانون الأحوال الشخصية، مع ملاحظة مدى بعده أو قربه من اجتهادات فقهاء المسلمين في مجال الشريعة، حيث يتحدد البعد أو القرب من خلال حصر المتغيرات اللافتة للانتباه في ذلك القانون، وبرر أبوزيد توقفه عند المتغيرات الخاصة بالمرأة في قانون الأحوال الشخصية بأنه اختيار لمنطقة ذات حساسية خاصة في الهيكل الاجتماعي.

وبحكم حساسية هذه المنطقة، فإن الأحكام المتعلقة بها تكون كاشفة أكثر من غيرها لمؤشرات الحركة في السيرورة الاجتماعية. بمعنى أن القوانين والأحكام المحددة لوضع المرأة ومكانتها تكشف أكثر من غيرها عن مدى تحقق (حقوق الإنسان) في المجتمع المعنيّ.

وهذا هو المؤشر الأكثر صدقاً لتحديد مدى تقدم المجتمع حيث لا عبرة بالشعارات ولا بالأغاني والأناشيد ولا باحتفالات عيد الأم أو عيد الأسرة ولا بالخطب السياسية أو الدينية أو الحزبية التي قد يكون بعضها كاشفاً عن موقف جزئي متقدم من هنا أو هناك.

 

نصر حامد أبوزيد

 
 




غلاف الكتاب





د. نصر حامد ابوزيد