قلب عُمان الأخضر.. حوار الجبل والصحراء محمد المنسي قنديل تصوير: فهد الكوخ

قلب عُمان الأخضر.. حوار الجبل والصحراء

في المرة الأولي التي زرت فيها عمان شاهدت ذلك الحوار الصاحب بين البحر والساحل.. حوار تولد عنه تاريخ طويل في ركوب أهوال البحر وفتح الممالك. وفي زيارتي الثانية رأيت حوار من نوع آخر بين الجبل والصحراء. في بلد مفعم بالحيوية مثل عمان لا تنقطع هذه الحوارات أبدا.

أزور "عمان" للمرة الثانية ولا تتوقف دهشتي. كأنما لا حدود للدهشة في هذا البلد. فهذه السلطنة العربية الوحيدة التي ظلت خفية ردحا من الزمن تحمل في طيات تضاريسهـا جزءا دائما من هذا الغموض. غموض يجعلها عصية على التعريف في كلمات قلائل وعلى الاكتشاف في جولات قصيرة. فبقدر بساطة أهلها بقدر ما هو من الصعب اكتشاف أغوار نفوسهم.

والدهشة لا تتوقف فقط عند ذلك التنوع في المناخ الذي يجعل من السلطنة عوالم مختلفة اجتمعت في رقعة واحدة من الأرض. من الصحراء المنبسطة على حافة الربع الخالي أو ظهر السلطنة. إلى قمم الجبل الأخضر الوعرة أو العمود الفقري إلى الساحل الممتد. رأس مقدم شمالا إلى الجنة الاستوائية في ظفار أو بطن السلطنة.. خنجر مقوس الحد ينام عل حافة الخليج.

العادات والقيم ما زالت على حالها إلا قليلاً. كنا على أطراف صحراء "جادة الحراسيس" على بعد أكثر من 500 كيلو متر من العاصمة "مسقط" في مدينة "هيما" ونحن نستعد لمزيد من التوغل في الصحراء حتى حافة الربع الخالي. توقفنا للاستراحة بجانب بعض الأكشاك الخشبية التي تبيع المرطبات وبعض الأشياء الضرورية. وكنت وزميلي المصور. نشرب بعض العصير عندما دخل أحد الرعاة. ترك قطيعه المكون من رءوس الغنم والماعز تطوف في المنطقة بحثا عن الكلأ صاح في البائع: "سفن آب". كان يعاني مثلنا العطش وكأننا ابتسمنا ونحن نشاهد راعي الغنم وهو يخرج من عصر البداوة البعيد ليقفز إلى زمن البرادات والمرطبات في خطوة واحدة. واصل ثلاثتنا الشرب في صمت.

ولا بد أنه قد أدرك من اللمحة الأولى أننا غرباء. فعندما حان وقت الحساب فوجئنا به ينبري فجأة ويسبقنا ليدفع ثمن كل ما شربناه. كان مندفعا بكل تراث الكرم العربي القديم نحو ضيوف غرباء لا يعرفهم. وكان يجب أن نتعارف وقدم كل واحد منا نفسه ولكنه لم يكتف بالأسماء الأولى. هتف بنا.. "من أي قبيلة؟" قال زميلي المصور "أنا شمري" واعتذرت له لأنني لا أعرف قبيلة أنتمي إليها. ونظر إلي في استغراب لعله لم يتصور أن يوجد شخص لا ينتمي إلى أي قبيلة. نظر إلى ثيابنا كأنه يحاوله ألا يقيمنا ثم عاد للسؤال "هل تملكون غنما"؟ اعتذرنا معاً بأننا مجرد موظفين في الحكومة. بدا عليه أنه قد ندم في التعرف علينا. فقد أشار في همهمات سريعة في أن الحياة لا تستقيم دون أن نملك أغناما، ثم تركنا ومضى موغلا في الصحراء على قدميه وسار خلفه قطيع الماعز والخراف والكلب الوحيد بعد أن ألقى "علبة السفن، الفارغة.

من أين يأتي الأمان؟

قلت لمرافقي: "هذا الجبل يبدو عكس اسمه تماما.. فهو لشد أخضر كما تطلقون عليه. إنه مجرد صخور فاصلة ممتدة".

قال: "ما تراه هو مجرد حائط يخفي ما في داخل البيت من أسرار"

وأخذ الطريق الأسفلتي يدور بنا على حافة التلال الصخرية التي تبدو بلا نهاية. كنا نتجه إلى ولاية نزوى التي تشتمل على المدينة وإقليم الجبل الأخضر. تتراءى أمامنا شذرات من التاريخ ا الحافل الذي عاشقته. هذه المنطقة. قلاع وأبراج حجرية فوق كل تل مرتفع- أو موقع مهم. صراع ضار لايبعث الهدوء أوصال الأماكن نحو صحورها إلى جدران سميكة وحول معادنها إلى مدافع وبارود. ولا بد أن الصراعات كانت على أشدها في هذه المدينة "نزوى" التي تقع في قلب عمان. فقد كانت هي العاصمة التقليدية في عصر "الأئمة" الذي بدأ منذ قرون الهجرة الأولى. وتشكلت فيهـا العناصر الثلاثة التي تقوم عليها أي مدينة عمانية.. القلعة والمسجد والفلج..

قلعة نزوي هي متاهة حقيقية.. ارتفاعها 24 مترا عن الأرض ويوجد بها العديد من الفتحات التي تستخدم للدفاع عنها. عندما دخلنا من بوابتها الخارجية افتتن زميلي المصور بصمتها الرهيب الذي تثيره الأقبية والأقواس والسراديب فشرع كاميراته وسرعان ما اختفي عن بصري في ممر سري أخذت أعدو خلفه وأنادي علية ولا اسمع سوى صدى صوته وهو يبادلني النداء.. كأنما صنعت القلعة بهذه المتاهة الغريبة حتى تضلل العدو وترهب الصديق قبل أن تحمي صاحب المكان.

لقد أخذت تصميمها من مغزى الأرقام المقدسة. سبعة أبواب. وسبعة من الدرجة الضيق. وسبعة من الصعاب المهلكة عليك أن تجتازها لتصل إلى ساكن القلعة. خلف كل باب يوجد شرك. وفوقه توجد فتحة يصب فيها الجنود الزيت المغلي فوق رأس أي مهاجم. شواهد كثيرة على شراسة المهاجمين وابتسامة المدافعين.. ولكن المدهش أن كل القلاع تسقط.. رغم كل هذه الأبراج والأبواب المصفحة والجدران السميكة تسقط. ولا توجد قلعة في التاريخ وفرت الأمان لقلب غير آمن.. وكما يقول مثل عماني "فإن أغنى الأغنياء داخل القلعة هو أشد المساكين على بابها".

بناها السلطان سيف بن مالك اليعربي عام 1668 م. وهي تحكي عن فترة مجيدة في تاريخ عمان. فقد استطاعت أن تفرض سيطرتها عبر البحار على جنوب شرق إفريقيا وأجزاء من شبه القارة الهندية وسيطرة شبه كاملة على مياه الخليج العربي. ومثلما تحللت هذه الإمبراطورية العمانية تقوضت الأبراج وتحولت إلى طلل دارس. لقد ظلت هكذا حتى مطلع الثمانينيات حتى امتدت إليها يد الإعمار مثلما امتدت للعديد من شواهد الماضي في عمان..

تم إعادة بناء القلعة بإصرار وجمال وسخاء. ولم يتوقف الأمر عند حدود الترميم ولكن خبرات البناء القديمة التي اختزنها البناء العماني في أعماقه وجدت طريقها إلى الإبداع مرة أخرى. إن المعرض الذي تحتويه القلعة والذي يعرض مراحل البناء يصور حجم الإنجاز الذي تم بالخامات المحلية والأيدي المحلية أيضا.. بعد طول بحث عن زميلي المصور. كان يقف على حافة ضيقة وراء إحدى الفتحات التي كان الجنود يدافعون منها عن القلعة وهو يحاول التقاط صورة شاملة "لنزوى". قلت لمرافقنا: "ولكن أين سوق "نزوى" الذي فاز بجائزة المشروع المعماري لمنظمة المدن العربية عام 1993 ".

أشار المرافق إلى سور القلعة المائل للحمرة والممتد أمامنا قائلا: ها هو أمامنا..

أدركت أن السوق هو جزء من القلعة. جزء من الامتداد العمراني الذي يشمل المسجد أيضا. انبعاث حقيقي للتقاليد التاريخية التي كانت تكون المدن من وحدة نووية تجذب إليها بقية العناصر. بوابة السوق تأخذك إلى عالم خيالي بالغ الواقعية. البيع والشراء وحركة الناس اليومية تكمل ملامح الأسطورة. أقواس وابهاء وممرات وساحات مفتوحة للشمس وبرادات مجهزة على أحسن مستوى من التكنولوجيا لحفظ المواد الغذائية. الباعة المسنون بلحائهم الشهباء وملامحهم المليئة بالغضون كأنها محفورة على حجر صلب وعيونهم براقة كأنهم يستمدون طاقة الحياة من مصدر ضوئي لا يخبو. باعة الفضة يجلسون أمام الحوانيت الصغيرة وهم يجلون نصال الخناجر. مشغولات الفضة والسيوف المقوسة والبنادق المزخرفة التي تعود إلى أوائل القرن.

ولا تكتمل جولتنا في هذا السوق المدهش إلا إذا جلسنا في مطعم "الغطريفي" قابلنا صاحبه بنفسه على باب المطعم.. كلا لم يكن مطعما عاديا. كان أشبه بموقف قديم يحتوي علي مقتنيات قديمة تعود إلى قرن مضى. جلسنا فوق الأبسطة القديمة واستندنا إلى الحشايا المطرزة.. أصابع الإنسان وهي تنسج تفاصيل لحظات الزمن فتحافظ عليها من الزوال. أصر الرجل بكرمه العماني الحافل على أن نذوق طعامه.

ولكننا اكتفينا بالتمر والقهوة.. وبين رشفة وأخرى كنا نتأمل المقتنيات التي يزخر بها المكان. والأواني والقدور والخناجر والحلي وقطع النقود القديمة بها عليها من سلاطين. قال الغطريفي وهو يمر على الأشياء بأصابعه " أنا مفتون بهذه الأشياء. أجمعها من كل مكان في عمان. وأسافر من أجلها إلى كل الأسواق القديمة. لقد اشتركت في العديد من المعارض الدولية. وأنا مشترك الآن في مسابقة اليونسكو لإحياء التراث القديم. لقد حضروا إلى هنا وصوروا كل شيء. المطعم والأثاث والمطبخ الذي يتم فيه إعداد الطعام بالطرق التقليدية"

سرنا خلفه كما الحواري الخلفية للمطعم. كانت النسوة العاملات يفردن الخبز على التنور. صحائف كبيرة بالغة الرقة والهشاشة. كأنه ورق مخطوطات قديمة دافئة ولذيذة الطعم.

ومن أين تتدفق الحياة؟

كنت أود الاسترخاء طويلا في هذا المطعم مع مزيد من القهوة والتمر. ولكن أسرار "نزوى" كانت لا تزال تنادينا.. بيوتها النائمة تحت النخيل الذي مازال ينتج تمر الإخلاص.. أفضل أنواع التمرد عمان. ومساجدها القديمة التي تعود إلى بدايات عصر الإسلام. كانوا يطلقون عليها "بيضة الإسلام " منها تفرخت الدعوة وخرج منها علماء وأدباء وشعراء أثروا تاريخ السلطنة بمدد من التشريع والأفكار والمواجد.

وهي واسطة العقد في سلسلة من المدن القديمة التي تحوي كل واحدة منها حقبة من تاريخ الإسلام في عمان. مدينة سمائل التي كانت أول مدينة دخلها الإسلام وبني فيها مسجد في العام التاسع الهجري. وبهلا التي تمتاز بسورها القديم وقلعتها التي تعتبر واحدة من أقدم قلاع عمان وغير معروف تاريخ بنائها.. وطينها الصلد الذي يصنع منه أجود أنواع الفخار..

سر نزوى الحقيقي كان في شريان الحياة الذي كانت تتغذى منه المدينة طوال تاريخها القديم. شريان طويل وممتد يختبئ أحيانا تحت الأرض ويخترق الصخور. ويبرز فجأة إلى سطح الأرض.. أحيانا يصبح نهرا بالغ الضآلة.. وأحيانا لا يكف عن أن يكون مجرد شريان لامع وسط صخر اجرد ولكنه لا يكف أبدا عن التدفق كأنه موصول بقلب نابض. هذا هو "فلج دارس" أكبر أفلاج السلطنة. ويحيط بمدينة تفوق أشبه بساعدين كبيرين.. أولهما يبلغ طوله ألفا وسبعمائة متر ويسير بمحاذاة الطريق المرصوف ليصل بين نزوى وعبرى. أما الساعد الآخر الأقل تدفقا فيبلغ طوله 1950 منه فقط. ولكن الطول الحقيقي للفلج أكبر من ذلك بكثير. فهو يخترق الصخور الصماء قادما من الوادي الأبيض وسط هضبات الجبل الأخضر.

والأفلاج ليست هبة طبيعية خالصة. فالجهد البشري له نصيب وافر في اكتشافها وتوجيهها والاستفادة منها. وهناك بناءون متخصصون في بناء هذه الأفلاج واكتشاف مسارها وتوجيهها بحيث يمكن الاستفادة منها. ولكن من أين تأتي هذه الأفلاج.. يقول أحمد بن صلال العامري أحد بنائي هذه الأفلاج "لا يغرنك مظهر هذه الصخور الجرداء. فالجبل الأخضر هو أكبر خزان جوفي للمياه وهي مياه لا تنفد لأنها تزيد مع كل موسم من مواسم المطر وهي تتسرب بين الصخور فلا تتعرض للبخر وتكتسب حرارتها من بطن الجبل حتى يا أكثر الأيام برودة.."

ولكن كيف يتم تتبعها ومعرفه مساربها الخفية تحت الصخور. يضيف العامري "أنه أشبه بالإحساس الداخلي. كأنني أسمع دبيب القطرات داخل الصخر الأصم وأتتبع مسارها بأذني حتى أستطيع أن أحميها من الضياع والتبدد في الوقت المناسب"

وللافلاج سحر خاص في نفس كل عماني.. إنه يسعى دائما لملامسة مياهها. ذلك التلامس الحسي يعيد له توازنه مع الحياة التي تحيط به. في بعض الأفلاج هناك أماكن يسمح فيها بالاستخدام المباشر... في العادة يستيقظ العماني العادي مع أول أشعة للشمس كي يغرق جسده في أقرب فلج له وهو موقن أن هذا الأمر ليمس فقدت يعيد له الحيوية والنشاط، ولكنه يحافظ على دوام شبابه أيضا. كأنه يعيد وصل نفسه كل صباح مع البيت الدافئ إلى مياه النبع التي تتمتع في كل لحظة بعذرية لا تتكرر.

فمن الذي شكل الآخر إذن؟ الطبيعة هي التي شكلت إنسان عمان. أم أنه هو الذي ساهم في تشكيلها. إنها علاقة جدلية بطبيعة الحال. ولكن عمان تعطيك إحساسا أنه لولا الجلد العظيم لهذا الإنسان ما استطاع أن يتواءم مع تضاريس بهذه القسوة وتلك الوعورة. ونست أقصد بذلك أن عمان بلاد قاسية. ففيها كثير من البقاع العذبة التي تستأثر بفؤاد الإنسان مقارنة مع الصحراء العربية القاحلة. ولعل هذا هو السبب الذي جعل كثيرا من الأقوام في زمن الهجرات الكبرى تستقربها. وسواء كان هؤلاء الأقوام من الهجرات التي حدثت قبل التاريخ عندما غادر الإنسان موطنه الأصلي في إفريقيا مخها إلى آسيا، أو رحلات الفينيقيين من سواحل لبنان، أو فرار القبائل العربية بعد انهيار سد مأرب، فقد كانت عمان هي المركز الذي تقاطعت فيه مسارات كل الهجرات وفيها أخذوا سماتها الأساسية. فقد أخذ أهل عمان من أجدادهم الأفارقة جلدهم في مواجهة الطبيعة وقدرتهم على التكيف مع كل الأجواء. وآخذو من الفينيقيين عشقهم لركوب البحر ومواجهة العواصف. وأخذوا من العرب كرما ونبلا لا تزال آثاره ممتدة حتى الآن.. فأي شهادة ميلاد هذه؟.

وكيف تتداخل الرهبة مع الجلال؟

لقد تجولنا في السفح كثيرا وحانت لحظة صعودنا إلى الجبل الأخضر.

عقب كل رحلة جبلية أعاهد نفسي ألا أعاود صعود الجبال أن مرة أخرى. ففي كل مرة أخرج منها مفعم الروح بال هبة والخوف والإحساس بالضآلة والوقوف على حافة الموت. ولكني ما أن ألمح تلك الذرى السامقة وأرى قطع السحاب المنكسرة- أنا القروي ابن الوادي والأرض الزراعية المنبسطة- سرعان ما أنسى وعدي وأغافل ذات نفسي وأعاود رحلة الصعود. كأنه توق خفي كامن في النفس لتنسم لحظة مات التسامى حتى لو كان ذلك بفعل عامل الجغرافيا. فالجبال تجعلك تعيش لحظات المصير حين تجد نفسك معلقا في طريق ضيق العودة منه أحيانا تكون أشبه بالمستحيل وليس عليك سوى التقدم إلى الأمام مهما كان ما ستلاقيه. ومهما كان الجبل أجرد والصخور متشابهة فخلف كل منحنى توجد دائما مفاجأة في الانتظار.

قبل الوصول إلى مطلع الجبل أشار مرافقنا إلى طائرة هيلوكوبتر جاثمة علي الأرض " هذه طائرة وضعتها القوات المسلحة لخدمة أهل الجبل وأصحاب المزارع فيه فهي تقوم برحلتين يوميا لنقلهم وبضائعهم إلى المدينة مجانا. وهي تراعى في ذلك أن الكثيرين منهم لا يملكون سيارات.. وأن الطريق وعر لا يتحمل البضائع الثقيلة.." وربما كانت هذه أول مواصلة طيران مجانية على ما اعتقد.

الطريق إلى مطلع الجبل تحكمه حراسة عسكرية. أبرز مرافقنا التصاريح اللازمة فسمحوا لنا بالدخول. فهذا الجبل الهائل كله هو منطقة عسكرية يخضع للإشراف المباشر للجيش فهو بامتداده الهائل وموقعه الاستراتيجي يتحكم في كل البلاد. وأهالي الجبل لديهم تصاريح دائمة للصعود والهبوط. والتحركات ممنوعة أثناء الليل إلا للضرورة القصوى. والجيش هنا لا يتحكم في الجبل بقدر ما يقدم له من خدمات. بالإضافة إلى هذه الطائرة المروحية يسير الجيش سيارات خاصة لنقل أهالي وأطفال الجبل عبر المسافات الوعرة.

واصلنا الصعود وبدأ الجبل يكشف عن مما أسراره الداخلية. إنه ليس أخضر كما يدل اسمه. وربما كان أخضر بالمقارنة ببقية جبال الجزيرة العربية. أو وجود العديد من الصخور التي تميل إلى اللون الأخضر. مرة أخرى تظهر صورة جهد إنسان عمان وهو ينتزع رضا من جسم هذا الجبل ليحولها إلى مدرجات خضراء. فمن القمم السامقة وحتى أعماق الوديان أقام المدن والقرى. المدارس والعيادات التي تقدم الإسعافات السريعة. وهناك فريق طبي طائر يتنقل بين أرجاء المدن المختلفة كي يقدم المساعدات الطبية.

كان في استقبالنا نائب الوالي للجبل الأخضر الشيخ سيف بن حمد الزيدي بلحيته البيضاء وحفاوته الفائقة. قدم لنا التمر والقهوة والحلوى العمانية الشهيرة وأصر على أن نتناول معه الغداء. أدركت فيما بعد أن هذا هو أسلوبه في الحفاوة بكل ضيوف الجبل. قلت له.. "هل فعلت ذلك مع الرئيس الفرنسي ميتران؟".. قال ضاحكا "كنت أريد أن أقوم بالواجب ولكنه لم يترك لي الفرصة"

كان الرئيس الفرنسي بحسه الروماني قد جاء أثناء زيارته لعمان وهبط عل أعلى قمم الجبل الأخضر حيث نصبت له خيمة وجلس لمدة ساعات فوق الحافة يتأمل المدرجات الخفراء التي تقع في مواجهته وشلال المياه الصغير وبيوت القرية التي تشكل الصخور أهابها وظل جالسا بعيدا عن الرسميات وسط هذا الجلال الذي يكونه السكون والارتفاع الشاهق ثم لم خيامه وعاد راحلا إلى عالم الرسميات والمدنية الصاخبة.

كان الشيخ سيف هو الذي يقود سيارته "اللاند روفر" ونحن نتقافز معه فوق طرقات الجبل الوعرة. الطريق حديث لا يرصف بعد. يثير عواصف من الغبار الأبيض. أهل الجبل كانوا سعداء به. فقد أصبح هناك ما يربطهم أخيرا بالعالم الخارجي.. ولكن هذه لم تكن كل هموم الجبل قال الشيخ: "إننا مازلنا ننتظر رصف الطريق وننتظر كابلات الكهرباء ولكن الأهم من ذلك أننا نريد إنقاذ أحد الأفلاج الرئيسية التي تغذي الجبل.."

كان ماء الفلج وهو ينساب بين الصخور يبدو رخوا متهدلا. لا يصدر الصوت الحي الذي تعودناه منه. تتألق عليه بقع صغيرة فيها انعكاسات الضوء ويترك عاكف حواف الأحجار آثارا من الزيت الأسود. كان الفلج يعلن عن مرضه وتلوثه. وقال الشيخ سيف وهو يمسك حفنة مات الماء وكفيه "لقد أكتشف هذا الأمر بنفسي بعد أن جاءت لي الشكاوى من نفوق بعض رءوس الغنم .." أصبح الأمر في حاجة لتدخل السلطات المركزية من العاصمة. وصل الخبراء من إدارة المياه وبدأوا في جمع العينات والقيام بالتحاليل اللازمة لمعرفة مصدر التلوث. ومن جهة أخرى استعد البناءون لسد مجرى الفلج مؤقتا حتى يمكن معالجته ولا تتسبب المياه الملوثة في المزيد من الخسائر. " قال شيخ الجبل حزينا "لا بد أن ندفع ثمن الحضارة الحديثة. لن نستطيع مهما فعلنا أن نبعد عنها خاصة بعد أن يتم رصف الطريق. ولكن عليما أولا أن نحافظ على روح الجبل وأعني بها الأفلاج" كان الشيخ مهووسا بحق بجبله. ذهنه عبارة عن موسوعة بكل أنواع النباتات والحيوانات والصخور التي تحتويه. أحفر لنا "رمان " الجبل. أشهر أنواع الرمان في عمان وأغلاها ثمنا. لم نكن في أوانه ولكن كان يحتفظ باعتزاز ببعض من ثماره. فتحته فبدت لنا البذور الحمراء المتألقة. أضاف "إننا نزرع هنا كل أشجار الشام.. حتى التفاح نحاول زراعته.." ولكن سعادته الحقيقية كانت في مزار الزعفران "لقد عاد الزعفران إلى الجبل أخيرا. لقد هجره الفلاحون لأنه محصول رقيق يحتاج لعناية خاصة ووقته قليل.. ولكننا نحاول الاعتناء به مرة أخرى وإذا نجحت هذه الزراعة التجريبية فسوف نكف عن استيراده من إيران وإسبانيا"

كان الجبل بما ينتج من زعفران ومواد أولية أضحى هو المكون الرئيسي للحلوى العمانية الشهيرة في كل أرجاء الخليج. مزيج السكر والنشا والزعفران والهيل وماء الورد. تنضج على النار وهي نار توقد من جذوع الأشجار حتى تنضج وتصبح ذات قوام رخو لا يصيبه الجفاف أبدا. الجبل الأخضر يحاول الآن استعادة ولكن الصناعة الشهيرة في الجبل الأخضر هي إحدى الصناعات التقليدية في الحضارات القديمة. صناعة ماء الورد. فأشجار الورد تتناثر بكثرة حيث تتفتق عن ألوانه المختلفة من الأحمر القاني حتى الأبيض الناصع. وأدوات التقطير بدائية للغاية وسط بيوت مظلمة. ولكن أصبع الحضارة السحري مسَّ هذه الصناعات أيضا وأنشئ أول مصنع حديث يعمل بالغاز المسيل حتى يمكن للمنتجين من أبناء الجبل الأخضر استخراج ماء الورد بوسائل حديثة.

ولماذا يشبه الإنسان الصخر؟

أناس الجبل يشبهون الجبل. ألوان ثيابهم وجلودهم هي ألوان الصخر. يتعرضون معا لنفس عوامل التعرية ويكتسبون معا نفس درجات الصلابة. كما نستعد جميعا لرؤية إحدى القرى الجبلية التي لا يمكن أن ترح الذاكرة. ممر وعر لا تصلح معه السيارة.. نترجل ونهبط درجا غير منتظم. كتل من صخور البازلت حتى تبدو أمامنا "مسفاه العبرانين".. إحدى بطون قبيلة "عبرى" الكبيرة..

القرية ممتزجة بجلاميد الصخر. لا نستطيع التفريق بين الجدران التي بناها الإنسان.. صخور البازلت السوداء والجرانيت الحمراء والكربون البيضاء تشكل ألوان البيوت التي تمتد من أعلى إلى أسفل. وكل بيت يعانق صخرته. ويشق كل هذه البيوت فلج متدفق يسمع صوت خرير مياهه من كل مكان. ويمر من تحت البيوت. ويدخل مسجد القرية ويدور حول مدرستها قبل أن ينحدر ويتفرع إلى شرايين صغيرة تغذي مزارع النخيل وأشجار الفاكهة التي تملأ الوادي. الدخول في مسارب "مسفاه العبرانين" تدفع داخلك إحساسا غريبا. تجربة، أن تتاح لك أن تدخل في جوف جبل مليء بتفاصيل الحياة اليومية وضحكات الأطفال وعبث الرجال ونظرات شاردة من بنات عابرات. لقد روضوا الجبل، ولم يعد هناك فرق بين جدران البيت وحائط المغارة ولا الممر الذي نحته الإنسان أو فجوات الطبيعة، فأناس الجبل يشبهون الجبل.

كان شيخ الجبل قد أخذنا إلى الوليمة التي أعدها لنا، وليمة جبلية بحق. هبطت بنا سيارته إلى وادي واسع منبسط. بين الصخور وأشجار "البيوت" الباسقة. كان في انتظارنا جميع أهالي الجبل. ضباط وجنود من القاعدة العسكرية وبعض الموظفين والأهالي. كانوا قد شرعوا بالفعل في الإعداد لوليمة شيخ الجبل. راس من الضأن جرى ذبحها وإعدادها وفق التقاليد القديمة، شواء ومرق. ولو أن ضيفا مر على خيمة أعرابي في قرون العربي الأولى وأراد أن يكرمه ما فعل ذلك إلا بنفس هذه الطريقة. فقد أقاموا موقدا من الأحجار وقطعوا أغصان نوع خاص من الشجر هو "العلايللي " إذا احترقت تتصاعد منها رائحة طيبة تملأ الجو وتفعم الطعام بنفس الرائحة.

كانوا جميعا- الشيخ والعسكر والأهالي. بملامحهم القوية أشبه بالرسوم والتماثيل التي حفرها مايكل انجلو وهو يصور شخصيات الخليقة الأولى في العهد القديم. خرجوا من إهاب، الميثولوجيا" واستقروا بطريقة ما وسط الجبل. قال لي الضابط " منزلي في المدينة ومزرعتي بالقرب منها ولكني أفضل الجبل ولم أعد أهبط إلى المدينة إلا من أجل الأعمال الضرورية" وقال شيخ الجبل "أنا أيضا لم أكن من سكان هذه المنطقة ولكني لم أكن أتصور نفسي وأنا أغادرها. هناك سحر خاص يشدني إلى كل هذه الصخور.. " كان مدفوعا بهذا السحر وهو يسير معنا. يمد يده ليقطع النباتات البازغة وسط الصخور.. يفركها في كفيه ويشمها في عمق. يأخذ طيبها في صدره. هذه النبتة تمنع السعال والتراب الصدر. وهذه ضد السكري، وأخرى ضد التهاب المفاصل. وهذه الشجرة إذا استخدم خطبها في بناء البيوت يظل إلى مئات السنين دون أن يتحلل أو يصيبه السوس. كان يملك سر عطايا الطبيعة السرية ويدرك بشكل غامض أن الكون هو وحدة متناسقة كل شيء فيها يؤدي وظيفته. كانت أدخنة الشواء تتصاعد، ومرح الرجال الخشن قد تصاعد وسط الفضاء الفسيح. كان الإحساس بالحرية والانطلاق قد جعلهم أكثر تلقائية. ذابت الرتب والفروق الاجتماعية واختفت الجنسيات أيضا. يأكلون بشهية عظيمة ويلحون على أن آكل أكثر وأكثر. " كل ولا تخف.. هذا طعام الجبل-. مهما أكلت منه لا يحدث ضررا. هذا ليس كطعام المدن".. ترى في أي أيام العالم خلق الله الجبال.. ومتى أودعها ذلك الإحساس العميق بالحرية والانطلاق.؟

قالوا لي في نهاية اليوم: سامحنا على التقصير. فلم أدر كيف أجيبهم. كنت قد قضيت معهم يوما لا ينسى. أحسست بخجل حقيقي وأنا أعود لعالم الأسفلت والهواء المشبع بالعادم وسجون الكونكريت والمكيفات التي لا يكف عن الطنين قبل أن تصيبك بالجنون.

وكيف تستعيد البراري روحها؟

كانت المنطقة لا تزال تخفي الكثير من المفاجآت. الرؤية تتسع والعبارة تضيق- كما قال شيخنا النفري- تتداخل مئات الأميال من الصخور والمدن والصحراوات. كنا على موعد جديد في "جادة الحراسيس" وكانت الصحف قد نشرت خبرا صغيرا أثناء وجودنا في عمان يفيد أن هيئة اليونسكو العالمية قد اعتبرت محمية جادة الحراسيس إحدى المحميات المعترف بها على مستوى العالم لحماية الحياة البرية. ولم أكن أدري أنه خلف هذا الخبر الصغير يكمن جهد بشري كبير في حماية البيئة وسط ظروف بالغة المشقة.

قال لي مرافقي وهو يحاول إغرائي "لماذا لا نذهب إنها قريبة من هنا بضع ساعات بالسيارة وتشاهد أكبر محمية في العالم تضم قطعان المها العربية النادرة؟". بدأت رحلتنا واكتشفت أن هذه الرحلة البسيطة تصل إلى أكثر من خمسمائة كيلو متر من نزوى، وجزء كبير منها وسط صحراء منبسطة وغامضة. ومن حسن حظنا أنه كان يرفقنا أحد رجال البدو. رافقنا بطريقه أشبه بالمصادفة وأصر بكرمه العماني أقصد العربي أن يبقى معنا ولا أدري ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم يكن يرافقنا. لقد كان يقرأ تعرجات الرمل كخطوط كفه ويوجه سيارتنا الخالية من البوصلة ويستنقذ لنا الطريق كلما افتقدناه.

تتقافز بنا السيارة صعودا وهبوطا فوق الكثبان الرملية.

ظللنا نحث السير دون توقف حتى عثرنا على سيارة الدورية التي تقوم بالأشراف على حدود المحمية ورصد تحركات الحيوانات التي تتجول فيها. كانت الدورية تضم اثنين من رجال قبيلة "الحراسيس" الذين يستوطنون هذه المنطقة ويعرفون خفاياها. جلسنا معهما نشرب القهوة ونأكل التمر وننتظر وصول المشرف على المحمية "لورانس". تحدثوا إليه بواسطة جهاز اللاسلكي وأخبروه عن وصولنا. كان شابا انجليزيا وجهه أشبه بالأطفال. متخصصا في "البيولوجيا" يضع على رأسه العمامة العمانية الشهيرة وقد لوحته الشمس وجعلت وجهه أكثر حمرة. جلس بيننا وثنى ساقيه وأخذ يدهس التمر بأصابعه كي يخرج منه النوى ويحتسي القهوة بالهيل في استمتاع واضح وينصت إلى حديث واضح الرجال عما يدور في المحمية ويبادلهم الحديث بعربية متكسرة تعني كل شيء. تأملت وجهه الأوربي، الشعر الأصفر والعينين الملونتين. كان يبدو غريبا عن هذا المكان ومع ذلك هو جزء منه. يأكل التمر مثلهم ويتحدث عن تحركات الظباء وأسماء القطعان مثلما يتحدث أي أوربي عن الفتيات اللواتي يواعدهن. قال لي إنني حسن الحظ وإنني سوف أنعم برؤية قطيع مدى المها يتجول بالقرب من هذا المكان. وهي مصادفة يمكن ألا تتكرر لأن حدود المحمية تمتد على اتساع 600 كيلو متر مربع.

ركبنا سيارة متجهين إلى أقرب نقطة تتجول فيها المها. كان يقود بهدوء بحيث لا يعلو صوت المحرك عن صوت الريح حتى لا يثيرها. قلت له مدهوشا "ما الذي جعلك تترك لندن وتأتي إلى هذه الصحراء الخالية من الناس؟ " قال مبتسما "في لندن يوجد من الناس أكثر مما ينبغي " كان يبدو ذائبا في الصحراء، برغم الشوائب التي تركها اسم "لورانس" في نفسي.

بدت ظلالها الرقيقة تحت الشمس الساطعة، نقاط بيضاء على الرمل الناصع. أمسكت المنظار المكبر حتى أراها عن قرب.. أسرة مكونة من ثمانية أفراد. الأم تسير في المقدمة. مزهوة بقرنيها الطويلين كأنهما طرفا رمح. خلفها الصغار الستة يمدون ألسنتهم الصغيرة بحثا عن العشب التائه. والذئب في الخلف متوتر وحذر وكثرة التلفت. "إنها عائشة" قال لورانس وهو يشير إلى الأم. تلك التي توجد جبهتها علامة سوداء كالنجمة. لا تكف عن التجوال وراء بحيرات المطر أو قطرات الندى. ترفض أن تقيد حركاتها داخل أي حدود. يشع جسدها الأبيض الحرارة الزائدة. وتحتمي من العواصف الرملية في ظل أشجار "الأكاسيا" تستيقظ في الفجر كي تلحس حبات البرد المتجمدة على الحصى. وتصمد ستة أشهر كاملة دون طعام ولا شراب. تتحمل كل ما في الطبيعة من تقلبات ولكنها تتحمل غدر الصيادين. وكذلك الأقرباء.. زبيدة.. وحفصة.. وحصة.. وفاطمة.. الذكور لها أسماء أيضا. لا أحد يتدخل في حياتها. لا طعام ولا ماء. ولا شيء غير اعتيادي. رجال المحمية يقومون بتتبع تحركاتها. ويقوم "لورانس" بوضعها على الكمبيوتر وبذلك يستطيعون رسم مدارات كاملة لكل واحدة منها. ولكن كم واحدة من المها تعيش في هذه المحمية.. قال مارك "عددها 230 رأسا وهي أكبر مجموعة في العالم تعيش في مكان واحد". ولكن كم كانت في البداية.. يقول "تقريبا.. لا شيء"

وكيف أن الدهشة لا تولد إلا الدهشة؟

هكذا تبدأ القصة من الاشيء. بداية غير مشجعة لقصة خيالية.. فما بالك إذا كانت القصة شديدة الواقعية.

في أحد أيام شهر أكتوبر عام 1972 وقف الشيخ سالم بن حويلة الحرسوسي فوق تلة من الرمل لا تحمل سوى آثار دماء وصراع. وكانت جثة آخر واحدة من المها العربية قد لقيت مصرعها. لقد دخل بعض الصيادين خفية إلى المنطقة كما تعودوا أن يخترقوا حدود السلطنة في هذه الأيام وأطلقوا الرصاص على التذكار الأخيرة لهذا الحيوان الجميل الذي كان يملأ هذه المنطقة في يوم من الأيام. منذ الخمسينيات والمها العربية مطاردة. معرضة للإبادة. لقد أثر فيها تطور البنادق الأوتوماتيكية والسيارات الحديثة التي تستطيع التوغل في الرمال. وأصبح من الممكن ملاحقتها في أي مكان مهما كان نائيا. ولم يبق في جزيرة العرب كلها غير 60 رأسا. ولم يعد هناك مكان آمن في طول الصحراء وعرضها.

وفي مطلع الستينيات انتبه العالم لحدود هذه المأساة فبادرت جمعية الحيوان في لندن بإعلان "عملية المها" هدفها إنقاذ هذا الحيوان النبيل من الانقراض وقد تم تمويل هذه الحملة من قبل الصندوق العالمي للحياة البرية وبعض حكام دول الخليج المستنيرين الذين يدركون أهمية الحفاظ على توازن البيئة بما فيها من حيوانات.

كونت الجمعية فريقا من الصيادين المهرة توجهوا إلى "حضر موت" بقيادة إيان جريموود الذي كان يعمل رئيسا لحديقة الحيوانات المفتوحة "السفاري " في كينيا. وبالقرب من الحدود العمانية استعان الفريق بأفراد من قبيلة "المناهيل " الذين كانوا يمتلكون مهارة خاصة في اقتفاء أثم المها وقد نجحوا في أسر ثلاثة من الرءوس ذكرين وأنثى واحدة. ثم أضيفت إليها فيما بعد انثى ثانية كان السلطان سعيد بن تيمور قد أهداها لحديقة حيوان لندن. وتبرع سمو الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير دولة الكويت بواحدة من المها وقدم الملك الراحل سعود بن عبدالعزيز أربعة رءوس من حديقته الخاصة في الرياض.

وهكذا تكون القطيع التجريبي الذي كان البداية لحلم عالمي في إنقاذ المها. وتم نقل هذا القطيع إلى حديقة " فينكسر" بولاية " أر يزونا " بالولايات المتحدة التي يشابه مناخها مناخ الجزيرة العربية وبمعاونة نادي الصيد الأمريكي بدأ برنامج مكثف لتوليد المها وتكاثرها في الأسر وكان الهدف إيجاد أعداد كبيرة منها كافية لإعادتها إلى موطنها الأصلي وسط الرمال العربية.

لقد حافظت قبيلة الحراسيس طويلا على المها الذي كان يعيش في منطقتهم. ولكن وعورة المنطقة وشدة جفافها كانت تمنعهم من متابعة كل عمليات القنص غير القانونية. لذا فإن هذا اليوم أن أكتوبر كان جيما حزينا من أيام القبيلة فقد سارعوا بإبلاغ السلطات بأن أرضهم قد أصبحت خالية ولم يبق لهم سوى الحلم.

كان هذا الحلم وقتها عزيز المنال. ولكن بعد عامين فقط اتخذت السلطنة قرارها أن تعيد ألمها إلى نفس المكان الذي شوهدت فيه آخر مرة- وقد حصص من أجل هذا المشروع مستشار لحفظ البيئة في الديوان السلطاني بدأ على الفور في وضع الخطط اللازمة لعودة المها. بعد أربعة أعوام من الدراسات اقتنع الموكلون بقطيع المها في أمريكا بخطط السلطنة من أجل إعادة التوطين. ووافقوا على التسع بخمسة رءوس من نسل الرءوس التسعة الأصلية كتجربة لمعرفة مدى استعداد السلطات العمانية. وفي مارس 1980 وصلت إلى مطار السيب الدولي أولى قطعان المها النادرة تحملها طائرة خاصة قادمة من حديقة سان دييجو للحيوانات البرية وقامت طائرة من سلاح الجو العماني بنقلها إلى جادة الحراسيس.

وفي وادي يعلوني الذي كنا نتحرك فوق رماله في هذه اللحظة حيث يمتد مسطح رملي تتجمع فيه مياه الأمطار أقيمت حظيرة تجريبية خاصة لاستقبال الرءوس الخمسة وتم تجنيد مجموعة من أفراد قبيلة الحراسيس أقسم كل رجل وامرأة منهم على حماية المها والدفاع عنها وكان الأمر مشجعا ومبشرا فبعد شهور قلائل وبالتحديد في أول ديسمبر من نفس العام وصلت الدفعة الثانية ثم الدفعة الثالثة مكونة من 4 رءوس في سبتمبر 1981. وبعد ذلك بعام واحد فقط كان الحلم قد تحقق ودخل رئيس الحرس في المحمية سعيد بن رودة تاريخ هذا اليوم المشهور عندما فتح بوابات الحظيرة وترك المها" تنطلق إلى الفضاء الفسيح وإلى بيئتها الطبيعية في البراري بعيدا عن الأسر. يقول لورانس "في البداية كنا نشعر بالخوف الشديد عليها في ألا نستطيع مواجهة ظروف الطبيعة القاسية وكنا نضع لها الطعام والشراب في أماكن محددة. ولكن المها سرعان ما تأقلمت في بيئتها الجديدة وبدأت تدرك بغريزتها أماكن المياه حتى ولو كانت شحيحة. وتعرف الأجزاء الطرية من شجر السمر مهما كانت عجفاء"

لم تنم المها وحدها وسط الأمان الذي يوفره رجال المحمية. ولكن بقية الحيوانات البرية الضعيفة بدأت هي الأخرى تجد لها مكانا. فابتعاد الصيادين أتاح الفرصة للغزلان - تلك المخلوقات الرقيقة الحيية - أن تنمو وتتكاثر. وعندما ذهبنا إلى المكتب الرئيسي للمحمية وجدنا العديد منها تقف قريبة منا وتراقبنا بعيونها الواسعة الجميلة.. إنه طابع الأنثى.. كلما ابتعدنا عنها ظلت تتابعنا حتى إذا حاولنا الاقتراب منها نأت مبتعدة.

ويتكاثر الإبل أيضا.. أكثر حيوانات الصحراء حكمة وشموخا.. وتتكاثر الثدييات والزواحف، وبنت الطيور المهاجرة أعشاشها.. إحساس عام بالتكامل والتوازن البيئي وهو الشرط الذي تشترطه منظمة اليونسكو في اختيار أي محمية طبيعية ألا يطغى أي عنصر عام الآخر حتى البشر وجدوا لهم نصيبا في هذا النظام المتكامل حين عملوا جميعا في هذه المحمية..

لقد قطعناه هذا اليوم وحده أكثر من 1200 كيلو متر وتكسرت عظامنا من كثرة قفزات السيارة فوق الكثبان ولكن الروح امتلأت بنشوة نادرة.

كيف أصف مشاعري وأنا عائد من رحلة الجبل والصحراء. كيف أصف تلك اللحظات التي يواجه فيها المرء الطبيعة في أكثر صورها مباشرة والإنسان في أكثر حالته تلقائية وبساطة. ورغم ذلك فأنت تحس أنك لم تكتشف بعد الأغوار الحقيقية لهذا البلد المتعدد الوجوه. لقد قالوا لي.. عد للمرة الثالثة وسوف تجد شيئا آخر مدهشا.. وكنت واثقا من قدرتهم على إدهاشي للمرة الثالثة.

 

محمد المنسي قنديل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات