من المكتبة العربية

من المكتبة العربية
        

«اليأس من الوردة» الشاعرية المتفرّدة والمتجددة

          ما اليأس من الوردة، إلا لأن الشاعر لا يريد للجمال والعطر والنضارة أن تنتهي، أن تبقى الوردة ناصعة بزهوها ولونها، لأنها هي الحياة المليئة بالفتوّة والدهشة والسحر والجمال. لعل هذا ما قصده محمد علي شمس الدين في ديوانه الجديد «اليأس من الوردة» الصادر عن دار الآداب 2009.

          في هذا الديوان تبدو القصائدُ في ثوب مخملي وترف لغوي, ومقامات إيقاعية منظمة، ويبدو فيه الشاعر أكثر إصراراً على تأكيد جمعه بين الأصالة والحداثة في شعره، أصالة متجددة حداثية بكل ما في الكلمة من معنى، مما جعله أكثر الشعراء حضوراً على الصعيد العربي.

          وهذا تأكد ويتأكد من خلال مسيرته الشعرية، منذ تنبّأ له المستشرق الإسباني مارتينت مونتابث بشاعرية خلاّقة إنسانية في مقالته التي قدم فيها قصيدة «البحث عن غرناطة» من ديوانه الأول «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا» التي نقلها إلى الإسبانية ونشرها مع مقدمة في كتيّب صدر من منشورات المنارة 76-77 مدريد.

الشعر هو الزمن كله

          ولعل شمس الدين كان فطناً لحقيقة تاريخية، وهي أن الحاضر لا يمكن أن ينفصل أو يتنصّل من الماضي، أو يلغيه من ذاكرة الشعوب، خاصة بالنسبة للشكل، أو الإطار الذي تقوم عليه القصيدة، لذلك لم يقطع الشاعر صلته بماضيه في الاعتراف بأن شعر البحور هو أحد الأشكال الهندسية المعمارية للقصيدة قديماً وحديثاً.

          ومن هنا، فمحمد علي شمس الدين في ديوانه الجديد «اليأس من الوردة» بارع في فهم حقيقة الشعر، وأهمية النص الشعري الذي يحفل بجمال الإيقاع، وبلاغة الصور، وسمو الرؤى، ورشاقة الألفاظ، كائناً ما كان القالب الذي يحمل هذا النص.

          وهذا الديوان، جاء بعد مضي ثلاث سنوات على مجموعته الشعرية «الغيوم التي في الضواحي» عن دار النهضة العربية 2006, ولست أغالي في القول إن هذا الديوان الجديد يحمل طاقات سحرية وفتوحات شعرية جديدة، بدأها بشيرازيات لحافظ الشيرازي، وتابعها في قسم كبير من الديوان، مع الحسين بن منصور الحلاج، تأكيداً على احتفائه وإكباره للشعر الصوفي وميوله نحوه، بل وبإبداعه فيه.

          كما أن «اليأس من الوردة» جاء مرافقاً لصدور أعماله الشعرية الكاملة، (عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2009 بجزأين) والتي حملت نضال أربعين عاماً من الإبداع الشعري، وكأنه يقول بمناسبة صدورهما، إن الشعر هو الزمن كله، وأن ما يكتبه المرء يحاكي الحاضر والمستقبل، ويخاطب المحيط الإنساني الأرحب. هكذا تنطق قصائدُ محمد علي شمس الدين، مبيّناً عبرها أن الشاعر طائر حرّ يطير حيثما يشدّه هواه.

          في «اليأس من الوردة» تشكيلات شعرية موسيقية رائعة، ومهارة في بناء العمارة الشعرية، وما يلفت النظر، هذه الحميمية بين الشاعر والقصيدة، هذا العشق المتناهي للشعر، هو الذي جعل تجربة الشاعر ترقى إلى مستويات عالية، فهو رائد متقدم من رواد الشعر الحديث.

          أتخيّل الشاعر في هذا الديوان وهو ينأى بنفسه إلى جهة في اللامكان، عندما كان يشعر أن ميعاد القصيدة بدأ مخاضه، وسرعان ما بهبط عليه الرخُّ الشعري، فيسافر إلى حطين حيناً، وحيناً إلى بغداد، وأحياناً يمسك بتلابيب الموت ويعقد معه معاهدة توافق، ويرحل حيث هو إلى الجنوب محمّلاً بوشائح الحب، متنقلاً إلى الحسين وفلسطين حيث ميادين الشهادة والفداء، فهو حلاج العصر الحديث، ونسب الحلاج الآخر القديم «المنصور بن الحسين» وصديق حافظ الشيرازي، ونديمه في معاقرة الشعر الصوفي.

الاتجاهات الفكرية في اليأس من الوردة

          يعالج الشاعر محمد علي شمس الدين الوجه الإيماني الصوفي والمعاناة الإنسانية من خلال مأساة الحلاج واتجاهه الصوفي، فهو في هذا الديوان الحلاج نفسه بلباس جديد، وهذا الإيمان الهادئ بحتمية الموت، يتجلى في صورة مدهشة نادرة وبراعة شعرية تكمن في إتقان توظيف الكلمات واستعمالها في مقاطع إيقاعية جميلة، قلما ماثلها شيءٌ في الشعر العربي اليوم.

          فالحلاج «الشاعر» أمام الله مؤمن بقدرته ووحدانيته التي تتلاشى وتصغر أمامها قوة الشاعر، من خلال تقديس الألم، والاستعداد لتحمّله، وهذا فعلٌ إيماني يوائم فيه بين الشعر والفلسفة معتبراً الفلسفة أهم وعاء عميق للشعر، كما يتجلى في قوله: ص8.

هذا ألمي قرباني لجمالك
لا تغضب
فأنا لست قوياً حتى
تنهرني بالموت

          ولا يظنّنَّ أحدٌ أن في استعمال كلمة «تنهرني» شيئاً يصدم الحالة الإيمانية عند الشاعر. ولكنه تسليم وإقرار بمشيئته وإعلان بالرضا النفسي

يكفي أن ترسل في طلبي
نسمة صيف فأوافيكْ
وتحرك أوتار الموسيقى
لأموت وأحيا فيكْ

          إن الإنسان خليفةُ الله على الأرض، وروحه منحة من خالقه.

          هذا هو البوحُ الصوفي، يتجلى في علاقة حميمية متصلة مع الله، أي ذوبان في الحضرة الإلهية، وهي تجليات عُرفت كثيراً عند الشعراء الإسلاميين الكبار، أمثال الشيرازي وجلال الدين الرومي وعمر الخيام.

          ضمن هذا الإطار، أتى التحوّل في شعر محمد علي شمس الدين منذ ديوانه «ممالك عالية» مروراً بشيرازيات وصولاً إلى «اليأس من الوردة» علماً أنه لم تكن لتخلو ومضات صوفية عابرة في معظم مجموعاته الشعرية. إنه الإيمان المطلق بوجود الله في كل زمان ومكان، والشاعر مطمئنٌ إلى حتمية لقائه مع حبيبه هناك في «الأراك» المكان الروحي الصوفي الذي يصل إليه الشاعر في اتحاده مع الله.

          ولعل الأراك هي صومعة العارفين أهل الزهد والتأمل حيث شجرُ المعرفة.

الأنا بين الشاعر والمتنبي

          يسترجع الشاعر محمد علي شمس الدين في قصيدة حلاجية أخرى قصة النبي يوسف مع إخوته التي ذكرها القرآن الكريم، يقول ص 23 من الديوان:

يا غوث شمس غياب الله غيثيني
أنا الضعيف كأعناق الرياحين
تلقين في الأرض شمساً غير كابيةٍ
كالبرق يشعل أحشاء البساتين
إني رأيت ولي رؤيا مغامرةٌ
نجماً تألق في أقصى شراييني
رؤيا أخاف إذا ما قلت سيرتها
من أخوتي أن يخونوا أو يكيدوني
فاكتم حكايتها في القبر يا أبتِ
فالوردُ ينبت في أصل البراكين

          تلك بداية الحديث عن تألقه الشعري في عالم يزخر بالشعراء، ولعل هؤلاء أو بعضُهم هم مَن يعرفهم الشاعرُ وترمز إليهم رؤياه، فحكايته مع هؤلاء كحكاية النبي يوسف مع إخوته، إنه بينهم - في شتى ألوان الشعر - فارسٌ يجيد تقديم نصوص إبداعية موجزة ومكثفة في آن معاً.

          ويبدو في تفسير ما سبق أن الشاعر يعبر عن موقفه حيال الشعر الراهن، وعن الوهن الذي أصابه على يد كثير من أدعياء الشعر.

          فالقصيدة الآنفة الذكر صورةٌ من صور الأنا التي يزخر فيها ديوان الشاعر وفيها يرى نفسه متنبي العصر الحديث، وهذا الاعتبار هو موقف كثير من متذوقي الشعر في عالمنا العربي، بغض النظر عن مواقف بعض النقاد والشعراء من هذا التصنيف حول الشاعرين، إلا أن مكانتهما تبقى في الصدارة من تاريخنا الشعري المجيد.

          هكذا يمتد المتنبي شخصية شعرية ملأت الدنيا وشغلت الناس، وأهمية كثير من شعره أنه يرقى إلى مرتبة السحر، يمتد منذ ذلك الزمن إلى اليوم ليولدَ في شخصية محمد علي شمس الدين الشعرية والنفسية، ولكن بقوالب ومعارف جديدة، إنه الماضي المدهش يتكرر وإن بصور مختلفة، ولكن بنموذج واحد، نموذج الريادة والفرادة في المستوى الشعري: يقول شمس الدين في قصيدة «الساحر» ص 114:

لو بُحت بسري
من يمنحني سرَّ الغامض والمكنونْ؟
من يحجبني ثانية، كي يسأل عني الناسُ
وأملأ حيرتهم بكلامي..؟
وكذبت عليهم حين زعمتُ
بأن الخيلَ هناك تعرفني
والليلَ وأطراف البيداءْ
والسيفَ وراسَ الرمحِ
ورأسَ القلم النازِف مثل الجرحِ
وقرطاسَ البلغاءْ.

          هكذا يفلسفُ الشاعر محمد علي شمس الدين شخصيةَ المتنبي بكل أبعادها، ويقدمها مشهداً قصصياً ماتعاً متسماً بالغموض. غموض شخصية المتنبي بالرغم من وضوحها، فهو كما ينظر إليه البعض ابنُ سقاء في الكوفة، ويرى آخرون أنه ابن المهدي المنتظر، وسواهم أنه ابن أحد سادات الكوفة.

          لا ينجو شاعر من نزعة الأنا في شعره، حتى لو نفى ذلك لأنها تكمن أحياناً ودون أن يشعر في ثنايا الكلمات وأعماق المعاني.

          وشمس الدين في أناه، يجمع بين الأضداد، الأنا والغير، التواصل والتقاطع، القريب والبعيد، في صور جميلة تعبّر عن عمق ثقافته وخزانته المعرفية.

          يقول الشاعر عن أولئك الذين يقتفون شعره، وينسجون على منوال قصائده:

علقت رأسي في أعالي
عقدة الصليب
وانتظرتُ ساعتي
فجاءت الطيور تقتفي
نصيبها من الوليمة

الشاعر والجنوب

          للجنوب المقاوم نصيب واف في مجموعة الشاعر محمد علي شمس الدين، فهو يمحضه قصائدَ عالية المستوى كعلوٍّ قامته الشامخة النضرة، من ذلك قصيدته ص36 وفيها يستعيد صورة الحسين المقاومة، وحسين هنا هو ذلك الرمز الذي يمتد من كربلاء إلى اليوم، حتى تقمص كل مقاومٍ على الجبل الرفيع شخصية الإمام الحسين المناضلة.

          وترمز شقائق النعمان - (رمز قديم لعودة الحياة إلى الدم) إلى عودة الحياة التي استرجعها المقاومون على الأرض الجنوبية بفضل دمائهم الزكية:

          يقول الشاعر:

أبصرت تزهو في قميصك يا حسين
شقائق النعمان
تطلع من جبينك إبرةُ الموت العميقة
حرّة مكسوّة بدم الحياة

          هكذا تنبضُ الحياة من خلال الموت بهذه الصور الخلابة والأداء المتقن، يرى الشاعر يقظة الحياة في الجنوب المقاوم، الحياة التي انبثقت من بين براثن الموت والنار.

          ويوحِّدُ الشاعر بين الرمزين الحسين بن علي والحسين بن منصور الحلاج، كل منهما عانى الظلم والاستبداد، وقدم حياته قرباناً للحق والألم المزهر قيماً إنسانية:

          يقول ص 36 من الديوان:

من يجعل الأفق ضريراً مورّداً
ويهز أحشاء القرى
بيديه كي تلد الرياح وليدها
المنصور
من عنق الذبيحة

الموتى الأحياء:

          ولج الشاعر في ديوانه باب الرثاء من خلال استعادة بعض محبيه في قصيدتين ارتقت فيهما الصور إلى آفاق عالية، شأنه في رثاءات سابقة، ولكنه الآن مع الأبوة والأخوة مع أبيه نسباً وحسباً ومع أخيه شاعرية ومعاناة.

          ففي الأولى (العودة إلى البيت ص 123) يصوّر أباه عند الموت خفيفاً متحرراً من أثقال الحياة. ويوازن بين الموت والحياة في الدنيا والآخرة، فالدنيا مليئة بالمنغصات، وما الموت إلا خلاص الروح من قيد الجسد:

أرأيت أبي في التسعين
وهو يودع شمس العالم؟
كانت شمس صفراء
تتسلل من نافذة في المستشفى
وتحط على وجه النائم
فوق سرير كسرير الأطفال

          - تعود الطفولة والبراءة إلى الإنسان ويرى العالم الآخر فيقوى في الموت ويستمر في الحياة.

          يقول الشاعر:

حدَّقتُ إلى عينيه الذابلتين
المائلتين إلى اللاشيء
فرأيت كما لو يخطفني النور من الديجور
ويأخذني نحو بلادٍ
لا أملك وصف مفاتنها

          في الموت قوةٌ للروح ولذلك شيَّعَ الشاعر والده ولكنه ما لبث أن عاد وإياه إلى البيت، إنها سيمفونية الحياة التي تقهر الموت.

          وفي القصيدة الثانية يمطر الشاعر محمود درويش بوحَه الشاعري. ففي (الحصان مازال وحيداً) ص127 كدليل على شاعريته المميزة لم يُقتلْ شاعر فلسطين، إنما هو قمرٌ يضيء الجليل، إنه نسرُ الشعر وخمرةُ الصيف المعتّقة وتموزُ العائد من جرح فلسطين.

          بل هو فلسطين كلها زيتونها ودمها النازف وقمرها الذي تحطمه آلة الهمجية، إنه فلسطين التي سُرقت وتيتّمت وكأنها لا تمت بصلة أو قرابة إلى مائة مليون عربي أو أكثر، وفلسطين في القصيدة هي محمود درويش، ودرويش هو فلسطين، بهذه العبارة تُختصر معلقة محمد علي شمس الدين الدرويشية:

أبصرته والثلج قبعة الجبالْ
أبصرته والثلج أجمل ما يكونُ
إذا تلألأ في الأعالي
لم ينتبه أني سأشربُ نخبهُ
في الصيف
أكتب ما يخط النسر
من نسب الحقيقة في الخيال
تموز عاد
وصيفنا شرَكُ الليالي
تموز عاد يفضُّ مضاجعَ الموتى فتحشد الجبال على الجبال.

كلمة أخيرة:

          هذا هو الشاعر العربي الكبير محمد علي شمس الدين في «اليأس من الوردة» شاعر الصدق والرؤى الفسيحة والصور الباذخة والموسيقى المتجددة العذبة.

          في شعره قلقُ الحاضر وتوقّع المستقبل وجدّة لافتة نادرة، علاوة على ثقافة عصرية وتراثية، تضعك أمام شاعر يمتلك أدوات المعرفة، ويجيد المعادلة والمواءمة بين فنية القصيدة وآفاقها المعنوية.
-----------------------------
* باحث وناقد من لبنان.

 

 

 

حسن جعفر نورالدين*