من المكتبة الأجنبية.. «موت يوم جميل»

من المكتبة الأجنبية.. «موت يوم جميل»
        

          كتاب مثير ننتقل عبر صفحاته إلى واقع أفغانستان المرير، ومعاناة الأبرياء، من الحروب التي فرضت على هذا الشعب، ومن آثارها المروعة التي كانت ومازالت تتسبب في حصد المزيد من الأرواح البريئة.. ومن هنا تأتي أهمية الكتاب, فالكاتبة «هيكا جروس» كانت واحدة من الجنود الألمان الذين خدموا في قوات الجيش الألماني التابعة لقوات الإيساف العاملة في أفغانستان، وتبرز ذلك في عنوان الكتاب موت يوم جميل.. طبيبة الجيش الألماني في أفغانستان».

          هذه التجربة المثيرة في حياتها تنقلها عبر صفحات الكتاب التي شملت تنقلها في عدة مناطق مختلفة من أفغانستان، فمن جبال هندوكوش إلى كابول وقندوز وأخيرا فايزاباد.

          تحلت الكاتبة بروح المؤرخ التي تريد أن تسجل حدثاً تعرف أهميته بالنسبة إلى الناس، وان التاريخ لابد وأن يحكم عليه يوماً ما، لذلك فهي تتنقل عبر صفحات الكتاب لسرد أحداث عدة ومواقف مريرة اختلط فيها واجب العمل مع مشاعر الإنسان، وهو الأمر المحيّر لكل من يعيش هذه التجربة خاصة عندما يموت الأبرياء، وهي تعبّر عن ذلك بقولها: «بعد مشاهد الموت التي رأيتها.. كان يطاردني سؤال دائم عن جدوى هذه الحرب؟ التي مازالت تحصد رحاها الأرواح بين الجانبين...»، وتصف عبر مقاطع عديدة من الكتاب كيف يعيش الناس هناك تحت التهديد المستمر وشبح الموت الذي يتهددهم في كل لحظة، وتقول: «إن الحرب بهذا الشكل هي انتهاك صارخ لروح البشرية».

          وفي تصوير بليغ لأجواء الحروب التي عاشتها في أفغانستان تقول: «في خضم هذه المعاناة التي كان يعيشها الجميع، كنت قد نسيت البكاء، بل حتى نسيت كيف أستطيع ان أبكي وأنا هنا في تلك المنطقة البعيدة عن أرض الوطن في جبال هندوكوش المهيبة».

          لكنها لا تنسى أن تكتب عن الشخصية الأفغانية وخبرتها في معايشتها وتقول: «إن الشعب الأفغاني شعب ودود ومضياف وقلوبهم دافئة، ولايعادون الأجانب.. كانوا يحسون بالغبطة والسعادة بعد تحريرهم من سيطرة طالبان، حتى أن الشكوك لم تساورهم للحظة في أن قوات الايساف قد جاءت بالفعل لمساعدتهم، وكان لهذا الشعور الإيجابي أثر معنوي جعل القوات الألمانية تشعر بحالة من الراحة والاسترخاء، وأصبح مناخ العمل بالفعل مسلياً وممتعاً وأصبحت الدوريات العسكرية التي تسير في الشوارع لاتشعر بالخوف وسط تلك المودة من قبل الأفغان».

          وتنتقل إلى جانب آخر تتحدث فيه عن تلك المشاعر المضطربة التي كانت تنتابها بسبب صداعها النفسي بين واجبها المهني وواجبها كأم تركت وراءها 5 أطفال في ألمانيا وجاءت للخدمة في أفغانستان، وهو الجانب الذي كان يؤرقها على الدوام، حتى جاءت اللحظة الحاسمة التي تغيّر الحال فيها تماماً وتقول عنها: «كان ذلك يوما أسود في شهر يونيو عام 2003 عندما هاجم انتحاري من طالبان حافلة تحمل جنوداً ألمان على طريق جلال أباد المؤدية إلى كابول، أسفر هذا الهجوم الانتحاري عن وفاة أربعة جنود ألماناً وجرح ثلاثين آخرين»، وكانت هذه اللحظة هي نقطة التحول الكبيرة بالنسبة إليها، فقد عايشت الحدث من واقع عملها كبيرة أطباء في القوات الألمانية، ولم تكن قد اعتادت على رؤية الموتى بهذا الشكل، ولم تكن أيضاً قد تدربت علي ذلك، وأصبح ذلك الموقف كابوساً بالنسبة إليها وتصف ذلك بقولها: «ياإلهي انفجار.. ثم صمت.. وبعد ذلك أبرياء موتى وعلينا الآن إرسالهم إلى أرض الوطن وللأمهات الثكالى.. يا له من حدث كارثي تغيرنا جميعاً معه.. فقد فقدت القوات الألمانية الثقة بالأفغان، وتغير الحب نحوهم إلى شكوك وظنون». وتضيف بهذا الشأن: «حتى الصبية الذين احببناهم وكنا نعطيهم الحلوى، اصبحنا نخاف منهم، أيضاً ذلك العامل طيب القلب الذي ينظف المستشفى في كل صباح أصبحنا نتوجس خيفة منه أيضا، ولم يكن هناك لدينا أدنى شك في أن هذا الهجوم الانتحاري الذي وقع علينا كان موجّهاً بشكل مباشر لنا نحن الألمان، لهذا أصبحنا أكثر حذرا مع الناس، وفي دورياتنا في الشوارع أصبحت صوابعنا على الزناد، وبالرغم من اعتذار العديد من الأفغان لنا عن ذلك الحادث إلا أن الكثير من الجنود أصيبوا بالتوتر وأصبحوا أكثر عدوانية تجاه الأفغان حرصاً منهم على أرواحهم والدفاع عنها». لا تنسى «هيكا جروس» في سردها أن تنتقد بشكل مباشر تلك النظم المسئولة عن استمرار الحرب وتقول: «منذ عشرين عاما يموت أفغان أبرياء ولا أحد يهتم بذلك، ومنذ 7 سنوات والقوات الألمانية التي تعمل هناك لا أحد يهتم بها، وقبل 5 سنوات مات جنود ألمان، ولم يهتم أيضا أحد بذلك»، وتنتقد النظام العالمي برمته وتتساءل كيف لم يستطع حسم الحرب حتى الآن؟ كذلك تنتقد عدم الاهتمام بالمحاربين القدماء الذين أدوا الخدمة في أفغانستان، ولا تنسى انتقاد النظام السياسي في ألمانيا، وتقول يتركون الجنود العائدين وسط الأحزان والمتاعب النفسية مما يؤثر بشكل سلبي على العائلات فالامهات ثكالى والآباء يائسون والأطفال مشوّشون، وهنا تنقل قصصاً عدة عن تلك المعاناة من واقع عملها واتصالها مع الجنود المصابين وعائلاتهم، في الوقت نفسه أيضا تنقل صوراً من معاناة الأفغان وتقول إن مشاعر الجمود والقنوط والكراهية بين أطراف النزاع تغلب على شخصيتهم!

          وينتهي الأمر معها في عام 2007 بعد أن حسمت أمرها بإنهاء الخدمة في الجيش وتقول «كان ذلك في العام نفسه الذي حاولت فيه إنقاذ جندي كان يصارع الموت ولم أفلح في إنقاذ حياته، وتساءلت: لقد مات الجندي؟ ما الذي قدمته إذن لإنقاذه؟

          بعد ذلك الحادث لم أعد أحتمل، ولم أعد أرغب في رؤية أناس يموتون.. عملي كطبيبة لم أعد أشعر أنه ذو جدوى.. لا أستطيع وقف الموت.. عملي أصبح ملازمة الموتى وتوثيق ظروف الموت ثم الإشراف على إعادتهم إلى أرض الوطن، لقد كان العمل الإنساني هو دافعي الأول في الخدمة في أفغانستان، وكانت الإنسانية هي نفسها وراء تركي الخدمة هناك». كتاب هيكا جروس الذي يقع في 262 صفحة صدر في سبتمبر 2009 عن دار نشر «فيشر» في ألمانيا.

 


هيكا جروس