شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

آخر أباطرة الصين

لم يكن يعرف أن تلك الإمبراطورة التي أسرعت لاستدعائه وحمله وهو على فراشه لم يتجاوز العامين، لم تكن أمه ولم يكن هو وريثها على عرش الصين الذي استبدّت به ثلاثين عاماً. ولم يكن الصغير (بو - لي) يدرك أن الإمبراطورة الوالدة كان كل همّها هو ممارسة الحكم من خلال الوصاية على الأباطرة الصغار كما فعلت مع ابنها الذي رحل في يناير 1875 حتى جاء الدور على ابن أخيها الصغير (كوانج هو) الذي نصبته إمبراطوراً على عرش المانشو لتظل مستولية على مقاليد الحكم كوصية على العرش حتى بلغ سن الرشد، وتولى حكم إمبراطورية الصين عام .1894 ولكن الإمبراطور الشاب لم يستسلم لرغباتها طويلاً. فخلال الأعوام الأربعة التي تولى فيها الأمر كان قد بدأ يتآمر سراً مع حركة (البوكسرز) (الملاكمون) التي كانت تحاول الحصول على المقومات الصناعية وتحاول أن تحذو حذو اليابان التي أخذت بأساليب الغرب. وفوجئت الإمبراطورة الوالدة بالإمبراطور يصدر إلى الشعب الصيني ودون أن يستشيرها عدة مراسيم لتسير بأساليب الغرب رغم أن البوكسرز انقلبوا عليه بعد ذلك بعد أن ضاقوا ذرعاً بتدخل الأجانب الذين سمح لهم الإمبراطور قبل ذلك بالتدخل في شئون الصين، واستطاعت الإمبراطورة الوالدة خداع الجميع من قادة الحركة لدعمها قبل أن يفلت زمام الأمر منهم جميعاً حتى تدخلت الجيوش المتحالفة ضد الصين للزحف إلى بكين.

في تلك الفترة، قضي على الإمبراطور، وقيل إنها دست له السم لتتخلص منه، وأرسلت على الفور ذات ليلة من عام 1908 تستدعي الوليد (بو - لي) فوضعته وهو في لفائفه إمبراطوراً وأجلسته على العرش في (قصر التناسق الأعلى) أرفع الأمكنة في المدينة المحرمة بصفته ابن عم الإمبراطور الراحل من زوجته شريكتها في الحكم (آن تسو). وحين فتح الإمبراطور الطفل الصغير عينيه كانت الإمبراطورة الأم قد رحلت في اليوم التالي لوصوله عام 1908 وتنصيبه على عرش المانشو آخر الأسر الملكية التي حكمت الصين، وبعد أن حرمت على أبيه دخول القصر أو المدينة المحرمة بعد أن كانت قد قتلت أمه بالسم.

التخلي عن العرش

لم يكد الإمبراطور الصبي يصل إلى السادسة ويحاول أن يخطو بثبات داخل قصور المدينة المحرمة، حتى وجد نفسه ممنوعاً من الخروج من أبواب القصر، واختراق بوابة (سيني آن ميني) إلى الميدان السماوي دون أن يكون من حقه مشاهدة بكين عاصمة ملكه.

عاش الإمبراطور الصغير وحيداً داخل القصر السماوي لا يعرف أحداً من حوله سوى نساء الحرم الإمبراطوري وحاشيته وخدمه. وحين استشعرت الزوجات الملكيات أن الطفل في حاجة إلى التعليم لم يجدن خيراً من أخته (كيني سو) ابنة الزوجة الإمبراطورة الثانية التي قتلتها الإمبراطورة الأم الكبرى بالسم بعد أن اختلفا معاً على الحقوق والواجبات. إلا أنه في وحدته كان يتمتع برعاية الجميع واحترامهم له. وكان يسلم نفسه لخدمه لينهضوه من فراشه ويقودوه إلى حمامه ويعدّوه لارتداء ملابسه الإمبراطورية الحريرية ذات اللون الأصفر الملكي المزيّنة بالقصب وأسلاك الذهب كعادة الأباطرة ليجلسوه على كرسي العرش في القصر الرسمي (التناسق الأعلى).

غير هؤلاء لم يجد أحداً في سنه يصادقه أو يلعب معه سوى الخدم، ثم يذهب قبل النوم ليسجد أمام الأمهات الملكيات اللاتي كن يعطفن عليه ويقدمن له التقديس ويملأن رأسه بأنه ليس مثل أي إنسان آخر باعتباره (ابن السماء) بما في ذلك أخته (كين سو).

الطريق إلى منشوريا

خلال هذه السنوات القليلة، كانت الثورة الجمهورية التي دعا إليها وقادها (صني يات صيني) عام 1911 قد انتصرت واجتاحت كل أنحاء الصين. ووجد الإمبراطور الصغير الثورة تحيط به من كل جانب، وقد تخلى عنه الجيش ولم يبق حوله مَن يدافع عنه وخاصة بعد أن انقسم الجمهوريون على أنفسهم بين (صني يات صيني) و (شيانج كاي شيك).

هنا لم يربأ من أن يعلن تخليه عن العرش، وأصدر نائبه باسم الإمبراطور (بو - لي) مرسوماً يصفه (ول ديورانت) في (قصة الحضارة) بأنه أعجب ما صدر من المراسيم في تاريخ الصين كله:

(إن الشعب في جميع أنحاء الإمبراطورية يتجه الآن بعقله نحو الجمهورية. إن إرادة الله واضحة ورغبات الشعب غير خافية. فكيف أستطيع أن أعارض رغبات الشعب للاحتفاظ بمجد أسرة واحدة وكرامتها? ومن أجل ذلك فإني أنا والإمبراطور نرى أن تكون الحكومة في الصين جمهورية دستورية استجابة لرغبات الشعب في داخل الإمبراطورية كلها. وعملاً بآراء الحكماء الأقدمين الذين كانوا يرون أن العرش تراث عام!).

ملك منشوكو

والحق... كانت الثورة كريمة كل الكرم في معاملتها للصغير (بو - لي)، فقد أمنته على حياته وتركته يعيش في القصر السماوي مع مرتب مناسب يقوم بشئونه، وجعلوا أخته (كين سو) مرافقة له. ولكن لذكريات الفتاة عن مقتل أمها (تزوـ آن) بيد غريمتها الإمبراطورة الأم الكبرى كرهت البقاء في المدينة المحرّمة. فلم تكد تمر السنوات الأولى من الإذلال الذي يعانيه (بو -لي) حتى أقنعته أخته بأن مكانهما الأصلي هو الهرب إلى منشوريا موطنها الأصلي الذي جاءت منه قافلة الفتيات المرشحات للإمبراطور لكي يختار منهن زوجته. وعرف الإمبراطور الصغير أنه لا سبيل له إلا بالرحيل إلى منشوريا مع أخته التي أعلن ذات يوم أنه ذاهب معها إلى (المعبد السماوي) للقيام ببعض المراسم الملكية. وهناك وأثناء الصلاة، اقتربت به أخته (كين سو) من الألواح المقدسة ليردد بعض الكلمات أمام الجدار السحري ليستمع إلى رد الآلهة. فإذا بصدى الأصوات من داخل الجدار تخبره أنه سيعزل أو يقتل وعليه الرحيل على الفور.

وكان الشعب الصيني في ذلك الوقت يعيش في محنة الحكومات الجمهورية المتعارضة، وأصبح الفقر يزداد، والفلاحون يموتون جوعاً تحت الضربات المتلاحقة من الدول المتحالفة لتمزيق الصين. وانقضت جيوش إنجلترا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وروسيا على بكين.

وعندما غزا اليابانيون الصين واجتاحت جيوشهم منشوريا وأقاموا عليها دولة تأتمر بأمرهم هي دولة (منشوكو) جاءوا بالإمبراطور الصغير بعد أن أصبح شاباً فأجلسوه على عرش الدولة التي أقاموها ليصبح كل دوره أن يكون دمية يتلاعبون بها كما يريدون.

ولكن بعد أن قامت الحرب العالمية الثانية وعادت منشوريا لتصبح مرة أخرى جزءاً من الصين التي كانت قد تحوّلت إلى الحكم الشيوعي، حمل الإمبراطور الصغير (بو -لي) إلى السجن ليفرج عنه بعد سنوات وصحبته أخته لتقوم بإعاشته، بينما هو يقضي بقية أيامه في كتابة تاريخ أسرته الملكية الضائعة، وكان آخر ملك من ملوك المانشو وآخر أباطرة الصين العظمى.

 

سليمان مظهر

 
 




بو-لي آخر اباطرة الصين