اللغة حياة.. مستحدثات شائعة تجنِّب اللبسَ

اللغة حياة.. مستحدثات شائعة تجنِّب اللبسَ
        

          في الفصحى كلمات يستوي فيها المذكّر والمؤنّث، أو تدلّ على معانٍ متعدّدة، وهي في الحالين تؤدّي إلى اللبس.

          ومن ذلك كلمات: الزَوج والعَرُوس والخِيار. وقد كفانا القدماء أمر كلمة «زَوْج» التي تقال للذكر والأنثى، فجعلتها بعض اللهجات للرجل، وجعلت للمرأة لفظ الزوجة؛ وقد ورد ذلك بكثرة في الحديث الشريف وفي بعض الشعر، ومن ذلك حديث الإمام عليّ يخاطب السيّدة عائشة: «أَنْتِ بِخَيْرٍ (...) زوجةُ رسولِ اللهِ». ومع هذا فبعض المضيّقين على الناس، يخطّئون صيغة زوجة، لعدم ورودها في القرآن الكريم، وكأنّ القرآن يجمع اللهجات كلّها.

          أمّا العَروس، فتقال للرجل والمرأة أوّلَ قرانهما. ويقال لوليمة الزواج عُرْس. وقد خصّوا المرأة من الرجل بصفة عِرْس، مرادفةً للزوجة عامّة، وتقال لها في كلّ زمنٍ بعد الزواج. وفرّقوا بين العروسين في الجمع فقيل للرجال عُرُس، وللنساء عرائس. والحقيقة أنّ هذه الكلمات جميعاً تبدو اليوم حُكراً للاختصاصيّين، وتخصيص المرأة بصفة عِرس لا ينفي الالتباس عن كلمة عَروس، وذلك لشمولها الرجل والمرأة، ولطول زمن العِرْس. فلا عجب في أن يتّخذ العامّة سبيلهم إلى التمييز بين الرجل والمرأة في ذلك، فيَخرجوا جزئيّاً أو كليّاً عن المصطلح التقليديّ؛ فقد جعلت بلاد الشام، مثلاً، صفة العروس خاصّة بالمرأة، واستحدثت صفة العَرِيس للرجل، ولا نستبعد كون هذه الصفة من اللغات المُماتة. وجعلت بدء الصفتين بعد عَقد يسمّى الكِتاب، أي تسجيل الزواج كتابيّاً لدى القاضي أو من ينوب عنه، سواء حصل الدخول بالزوجة أم لم يحصل. ويظلّ الطرفان عريسين (لا عروسين، على تغليب الصفة المذكّرة العاميّة) حتّى بعد الدخول بأشهر. لكنّ الطريف أنّ كلمة عَروس تصبح عند الإضافة عروسة، فيقولون، مثلاً: فلانةٌ هي عروسةُ فلان (وليس عروسه). وجعلوا للكلمتين جمعين مشتركين، أحياناً، هما: عرايس (بإبدال الياء من الهمزة، وهو جمع لعَروس المؤنّثة أو لعروسة، ولذلك يستعمل غالباً للإناث)؛ وعِرسان (جمع عريس، على تغليب المذكّر؛ وممّا يُجمع عليه فعيل فُعلان، وقليلاً: فِعلان، وأكثر ما يستعمِل العامّة هذه الصيغة للذكور).

          وفي مصر خالفت العامّة أسلوب الشاميّين قليلاً، فوصفت الرجل بالعريس مثلهم، لكنّها أهملت كلمة عَروس الخاصّة بالمرأة عند هؤلاء، واستعملت كلمة عروسة وحدها، سواء كانت مفردة أو مضافة. كما اكتفت بجمع الكلمتين على عرايس، في ما نعلم. و«عَروسة» كانت مستعملة في صَقَلّية والأندلس منذ القرن الهجريّ الرابع على الأقلّ، على ما يؤكده الزُبيديّ الإشبيلي (ت 379 هـ) وابن مكّيّ الصَقَلّيّ (ت 501 هـ). 

          ولا يبعد أن تكون كلمة عَروس أو عَروسة للمرأة، وكلمة عريس للرجل فصيحتين؛ لأن الأصل في جذر «عرس»، عند ابن فارس، أنه يختصّ بمعنى الملازمة؛ فعَرِس به، يعني لزِمه. وفي «اللسان»: عرِس الصبيّ بأمّه عَرَساً: إذا ألِفها ولزمها. والزواج ملازمة؛ وفعل «عَرِسَ» فعل لازم لا يتعدّى إلاّ بحرف، ولذلك يمكن اشتقاق صفة مشبّهة منه على وزن فعيل هي عريس، وإطلاقها على الرجل؛ كما اشتقّت منه صفة عروس، وأطلقها العامّة على المرأة خاصّة، وذلك على طريقة العرب في التفريق بين المعاني بالحركة الصرفيّة القصيرة أو الطويلة، وهو أمر من شأنه رفع اللبس. كما يمكن أن تزاد التاء على عروس إمّا للتفريق بين المؤنّث والمذكّر، في ما يستويان فيه، في اللغة الرسمية الموصوفة بالفصيحة؛ وإمّا لتوكيد التأنيث، كفعلنا في طالق وطالقة وأمثالهما، وفي ما يحتمل أنّه لهجة مُماتة استعملت فيها كلمة العروس للمؤنّث. وفي كلّ حال فإن إصرار العامّة على استعمال ما، نحو ألف سنة، يجعل ذلك الاستعمال جزءاً من اللغة، ويسمح بدخوله في متنها، لأنّ اللغة استعمال أكثر مما هي تدوين ومعاجم.

          وثالثة الأثافي، هنا، كلمة خِيار؛ فالعرب تستعملها جمعاً لخَيْر وخَيْرةٍ (بتخفيف الياء وتشديدها)، وتعني بها الأحاسن أو الأفاضل، وقد تستعملها للمفرد والمثنى والجمع، في التأنيث وفي التذكير؛ وهذا يردّها إلى معنى المصدر، ويسمح بنقلها إلى المعنى الثاني للكلمة وهو الاختيار. أمّا المعنى الثالث فهو الثمرة الخضراء المعروفة الشبيهة بالقثّاء، وشجرها متسلق يشبه العشب. وللكلمة معان نباتيّة أخرى لا يعرفها إلاّ القليلون.

          وبسبب هذا التعدد في المعاني، وكلّها مستعمل، وجدنا الناس يميلون إلى فتح الخاء عندما يريدون الدلالة على معنى الاختيار، وكأنّما هم يبتغون التفريق بالفتحة بين هذا المعنى وسائر المعاني. وذلك معدود في الأخطاء الشائعة، ولا نزال ننبّه طلابنا وقرّاءنا عليه، ونلحّ عليهم في أن يكسروا الخاء في جميع الأحوال. لكن يبدو أنّ المستعملين يرتاحون إلى ما يفرّق بين المعاني وإنْ خطأً، على ما يدخلها في اللبس ولو صحيحاً؛ فطفق كثير منهم، لاسيّما في وسائل الإعلام، لا يستخدمون إلا الخَيار لمعنى الاختيار. والحقيقة أنّ هذا الأمر يقتضينا التوقف والنظر، فقد يكون مفيداً أن نقرّ هذا الاستعمال، ونجيز اللفظين، في معنى الاختيار، أي: الخيار بالكسر والفتح. لاسيما أنّ القدماء استعملوا الخَيارة بمعنى الخَيْر، والخِيار: تعيين أو أخذ ما يظنّه المرء خيْراً في أمر ما، فثمّة أصل في هذا المعنى بفتح الخاء.

          صحيح أنّ في العاميّة تحريفاً للفصحى، وأحياناً تشويهاً لها، بسبب مجافاتها للرقيّ الذي اكتسبته اللغة في تجربتها التعبيريّة الطويلة، وبسبب الدخول في الركاكة والفساد والعُجمة أحياناً، لكون كثير من العامّة أميّين أو أشباه أميين؛ لكن القدماء الذين نتكلّم لغتهم كانوا في معظمهم أميّين، وقد نجد في العاميّة تطويراً للفصحى، بسبب التجارب التعبيريّة اليوميّة التي تفرضها الحاجات المختلفة، وبخاصّة إذا شارك في تلك التجارب أشخاص من أهل العلم والأدب، وحاولوا الارتقاء بالعاميّة نحو الفصحى، وتبسيط الفصحى، بحيث تلاقي العاميّة في منطقة وسطى. وما أشرنا إليه من تدخل العامّة للتفريق بين المعاني هو من التجارب التعبيريّة النافعة التي لا ضير في الإفادة منها. وإنّ أحدنا ليكون اختصاصيّاً في الأدب القديم، عارفاً للّغة وأسرارها، ونراه مع ذلك يؤثر، أحياناً، ما اختارته العامّة على ما درج القدماء عليه، وأثبتته كتب اللغة في نحوها وصرفها ومعاجمها. من أجل ذلك ندعو المجامع اللغويّة إلى درس هذه القضيّة، لاسيّما الألفاظ الثلاثة التي عرضنا لها في هذه المقالة؛ فالخضوع لمقتضيات الحياة اللغويّة، ولو من خلال التجربة العاميّة، من أجل جعل الكلام أكثر وضوحاً، أولى من التقيّد بأقوال المصادر القديمة والإبقاء على اللبس والاضطراب، فكيف إذا كان للاستعمال العاميّ ما يسوّغه صرفيّاً؟!.
---------------------------------
* أكاديمي من لبنان.

 


مصطفى عليّ الجوزو*