إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي
        

قصَّابُنا أبو رشيد

          لم يكن أبو رشيد قصَّابُنا يعي ما يحدث. لم يعرف حقيقة ذاك الذي يمرّ به إلاّ عندما عاد ثانية لمنزله القديم. عاد ليشاهد الذكريات مرسومة، محفورة، اقترب من الشبابيك، أزاح الستائر، شاهد أصواتاً، رأى كلاماً، اختلطت ذكرياته بالعقل المتحرّك.

          عندما يصحو لتناول طعام الإفطار، لم يعِ إلاّ لاحقاً هذا الكمّ من أطعمة الإفطار. إنّ للطّعام أيضاً تاريخه، ثمّة فطورٍ قديم، ثمة أقدم وأقدم وأقدم، ها هو طفل يلعب إلى أن يأتيه نداء أمّه: «صبري صبري لقد برد الشاي». مع الأصدقاء، مع الأقارب. أمّا أمّ رشيد العروس الجميلة فقد كان للإفطار معها طعم آخر. في ثنايا المنازل تختبئ الوجوه خلف الستائر، ومن وراء الأبواب أيضاً تنتظر منا أن نزيح الستائر، نفتح الأبواب للوجوه التي غابت، ولكن هل غابت؟

          لم يعِ عذوبة هذا الفطور إلاّ لاحقا، عندما كان يعود لدكّانه لتقطيع اللحم. شعر تماماً كيف تقطّع ماضيه. ولكن من أين لك يا صبري أن تعبر عن نفسك؟ لم يعد باستطاعتك تقطيع اللحم. هذه أصوات زبائنك من كل الحارات:

          «يا أبا رشيد للّحم طعم آخر، بعد ملامسة يديك الطيبتين». «يا صبري أريد اللحمة أن تكون ناعمه ناعمة، جدا، هكذا تريدها أم الأولاد».

          ولكن أعماقه كانت تصرخ: «لم يعد باستطاعتك أن تقوم بهذا. كفَّ عن هذا يا صبري فدماء ذكرياتك قد اختلطت باللحم المقطّع».

          حاول مع زبائنه أولا، ثم حسم موقفه ثانيا.

          «هذا مأمون إنّكم جميعاً تعرفونه، إنه كان معي منذ سنوات طويلة. يجب أن يأخذ فرصته ليكون المعلّم مأمون. إنه منذ الآن معلّم بارع».

          انصاع زبائن أبي رشيد لما قال، ولكن في أعماقهم السؤال الذي سوف يظل بلا جواب: «ما الذي حصل لك يا أبا رشيد»؟

          عندما كان يعود لمنزله الجديد، كانت نظراته تقول لنظرات أم رشيد: «هل أنت المرأة نفسها التي تزوجت؟ هل أنت سميّه بنت حارة القرماني؟».

          لقد تغيّرتِ، تغيّرتْ أمّ رشيد، ما هذا الذي تضعه على شعرها؟ «إنها لفافات لكي يتموج شعري»، وكل هذه السنين، كيف عاش شعرك يا سميّه من دون اللفافات؟ يا أبا رشيد «الدنيا غير هذه الدنيا»، هل ستظلّ واقفاً في مكانك؟ عندما نخطب لرشيد، لن أخطب له إلاّ من هذا الحي. علينا الاستعداد لهذا التغيير».

          ولكنّ ظهْر أبي رشيد الذي انتصب أمامها، أعاد الكلام إليها، ولكن إلى أين يا صبري؟
------------------------------
* كاتبة من سورية تقيم في عَمَّان

 

 

 

نجوى الزهار