جمال العربية

 جمال العربية

قانون البلاغة
لابن حيدر البغدادي

 

قال أحمد بن يوسف الكاتب:

دخلتُ يوما على المأمون وبيده كتاب يعاود قراءته تارة بعد أخرى، ويصعد فيه طرفه ويصوب، فلما مرت على ذلك مدة من زمانه، التفت إلي وقال: يا أحمد، أراك مفكرا فيما تراه مني. قلتُ: نعم، فقال: إن في هذا الكتاب كلاما نظير ما سمعت الرشيد يقوله في البلاغة: زعم أن البلاغة إنما هي التباعد عن الإطالة، والتقرب من معنى البعيد، والدلالة بالقليل من اللفظ على كثير المعنى. وما كنت أتوهم أن أحدا يقدر على ذلك حتى قرأت هذا الكتاب، ورمى به إلي وقال: هذا كتاب عمرو بن مسعدة إلينا.. ففككته فإذا فيه: (كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده، ورؤساء أجناده، في الانقياد والطاعة، على أحسن ما تكون طاعة جند تأخرت أرزاقهم، وانقياد كفاةٍ تراخت أعطياتهم، فاختلت لذلك أحوالهم، والتاثت معه أمورهم). فلما قرأته قال: إن استحساني إياه بعثني أن أمرت للجند قبله بأعطياتهم لسبعة أشهر، وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه من حل محله في صناعته.

وأمر المأمون عمرو بن مسعدة أن يكتب لرجل به عناية إلى بعض العمال في قضاء حقه وأن يختصر كتابه ما أمكنه، حتى يكون ما يكتب به في سطر واحد لا زيادة عليه. فكتب عمرو: كتابي كتاب واثق بمن كتبت إليه، معتنٍ بمن كتبت له، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله.ومنذ قال الشاعر العربي القديم بيتيه المشهورين:

وكائن ترى من صامت لك معجبٍ زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

(والبيتان منسوبان إلى الأعور الشني وإلى زياد الأعجم المعروف بأبي أمامة، وإلى زهير بن أبي سلمى في معلقته)، منذ قيل هذا القول، والتفاخر بالفصاحة والبلاغة واللسن في مقدمة ما يباهي به العربي أقرانه وأنداده. ومن هنا كان قول القدماء الذي يتضمن معنى البيتين (المرء بأصغريه: قلبه ولسانه). وفي هذا السياق جاء قول الرسول الكريم: (إن من البيان لسحرا) ومعناه أن البيان يعمل في النفس والعقل عمل السحر. وقد ذهب هذا القول مثلا يضرب في استحسان المنطق وإيراد الحجة الدامغة والقول الفصل، مع جمال الصياغة والتعبير.

وفي كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ فصل خاص بالبيان ومعنى البيان يقول فيه: (والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله، كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع.

من هنا كان اهتمام الكاتب أبي طاهر محمد بن حيدر البغدادي ـ المتوفى سنة خمسمائة وسبع عشرة هجرية ـ بوضع رسالته في قانون البلاغة، في صورة إجابة عن سؤال من سأله عن البلاغة ما هي؟ وإذا بإجابته التي طالت واسترسل فيها صاحبها، يضرب الأمثال ويأتي بالأقوال ويشرح ويفسر ويعلل، ويشرق ويغرب، مطوفا في بساتين القول ورياض الإبداع ـ نثره وشعره ـ قد أصبحت هاديا ومرشدا لكل من يريد أن يعمل بالكتابة في زمانه، ويعد العدة ليتبوأ منصب الكاتب عند ولي الأمر، بعد أن يحكم أدواتها وصنعتها وغيرها من الصناعات اللازمة لها.

وكان تركيزه في الحض على أن تكون الألفاظ سمحة سهلة، لها حلاوة وطلاوة، وعليها رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة، فلا يكون الكلام متوعرا وحشيا ولا ساقطا عاميا. وأن تكون الأجزاء متناسبة الوضع، متقاسمة النظم، متعادلة الوزن. ويرى أن من عيوب الألفاظ أن تكون ملحونة جارية على غير الإعراب والسبيل المبني عليه الكلام، وأن تكون بشعة مستوخمة، مضادة لما تقدم من نعوتها ،ثم أن تكون ذات تعقيد. فقد جاء في وصية بشر بن المعتمر: إياك والتوعر فإنه يستهلك معانيك، ويمنعك من مراميك.

ويتمثل أبوطاهر محمد بن حيدر البغدادي لشروطه التي أوردها في (قانون البلاغة) بقوله: (ومن هذا الجنس قول هند بنت النعمان بن المنذر بن ماء السماء للمغيرة بن شعبة بعقب إحسان منه إليها: شكرتك يد نالتها خصاصة بعد نعمة، وغنيت عن يد نالت ثروة بعد فاقة).

وكقول آخر: (وأين يذهب بك مع غزير إنعامك وشديد إحكامك وأليم انتقامك، أن تكون مشباعا للضيف ومدفاعا للحيف (أي الظلم) وممناعا من الخوف).

وكقول الأعرابي (اللهم إن كان رزقي نائيا فقربه، أو قريبا فيسره، أو ميسرا فعجله، أو قليلا فكثره، أو كثيرا فثمره).

ثم يضيف ابن حيدر البغدادي أمثلة أخرى لتوضيح أفكاره في قانون البلاغة مأخوذة من أقوال البلغاء ورسائلهم وتوقيعاتهم يقول: (كتب إبراهيم بن أبي يحيى إلى بعض الخلفاء يعزيه، ويجري في المذهب الذي نحن بسبيله، وهي (أي السبيل): أما بعد، فإن أحق من عرف حق الله عليه فيما أخذ منه، من عظم حق الله فيما بقّاه له. واعلم أن الماضي قبلك هو الباقي لك وأن الباقي بعدك هو المأجور فيك، وأن أجر الصابرين فيما يصابون به أعظم من النعمة عليهم فيما يعانون منه).

ودخل بعض البلغاء على بعض الأمراء فقال: السلام عليك أيها الأمير، سلاما يتصل أمثاله بسمعك ما بقيت، إما من وليك بطوع قلبه، وصادق وده، وإما من عدوك برغم أنفه وذل خده.

ويضيف ابن حيدر البغدادي إلى هذه النصائح والتوجيهات للكاتب في (قانون البلاغة) قوله : إن من آلة الكاتب وأداته أن يضيف إلى الإحسان في المكاتبة، مثل ذلك في المحاورة والمخاطبة، حتى تكون ألفاظه مهذبة، وإشاراته مستعذبة، والنفوس نحوه إذا نطق منصتة. فمن المحاورة المستحسنة قول الفضل بن الربيع، فقد قال له الرشيد: كذبت. قال: يا أمير المؤمنين، وجه الكذوب لا يقابلك، ولسانه لا يخاطبك. فوصله الرشيد وقال: كذبني فوصلته لحسن جوابه.

ودخل سعيد بن مرة على معاوية فقال له: أنت سعيد بن مرة؟ فقال: أنا ابن مرة وأنت السعيد. فوصله لحسن جوابه. وقال المنصور للسيد الباقر: أأنت السيد؟ فقال: أنا ابن أبي وأنت السيد.

وقال الرسول الكريم لعمه العباس: أنت أكبر مني. فقال: أنا أسن وأنت أكبر مني. وقال سعيد بن عمرو بن عثمان لطويس: أينا أسن؟ فقال: بأبي أنت وأمي، لقد شهدت زفاف أمك المباركة إلى أبيك الطيب!

ويروي ابن حيدر البغدادي عن الجاحظ ـ شيخ كتاب العربية ـ قوله: أول البلاغة جُماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، متخير اللفظ، لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة، ويكون معه من القوة ما يصرف به لفظه في كل طبقة، حتى لا يدقق المعني إذا خاطب أوساط الناس، ولا يدع ذلك إذا خاطب حكيما أو كاتب فيلسوفا.

كما يروي عنه قوله: (من شروط البليغ أن يكون ذاكرا لما عقد عليه أول كلامه، ويكون تصفحه لمصادره في وزن تصفحه لموارده. وجماع البلاغة حسن الموقع، والمعرفة بساعات القول، وقلة الخرق بما التبس من المعاني أو غمض، والبصر بما بعد من القول أو شرد)

وعندما ينتقل ابن حيدر البغدادي إلى أمثلة مختارة من الشعر يعرض من خلالها لشيء من قانون البلاغة هو ما يطلق عليه صحة التقسيم. ويعني به أن يستقصي الشاعر تفصيل ما ابتدأ فيه ويستوفيه، فلا يغادر قسما يقتضيه ذلك المعنى إلا أورده، كقول زهير:

يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطّعنوا ضارب حتى إذا ما ضوربوا اعتنقا

فقسم البيت على أقسام الحرب ومراتب اللقاء، ثم ألحق بكل قسم ما يليه في المعنى الذي قصده من تفضيل الممدوح. وكقول نصيب:

فقال فريق القوم لا، وفريقهم بلى، وفريق قال: ويحك ما ندري

وقال طريح بن إسماعيل:

إن حاربوا وضعوا، أو سالموا رفعوا أو عاقدوا ضمنوا أو حدثوا صدقوا

فهذا وأمثاله التقسيم الذي إذا اعتمده الشاعر وأحسن صنعته شرف كلامه وتهذبت عبارته.

ويعرض ابن حيدر البغدادي لما يسميه في قانون البلاغة بالسلب والإيجاب، وهو أن يوقع الكلام على نفي شيء وإثباته في بيت واحد، كقول الشاعر:

ونُنكر إن شئنا على الناس قولهم ولا ينكرون القول حين نقول

وقول الشماخ:

هضيم الحشا لا يملأ الكفَّ خصرُها ويملأ منها كل حجلٍ ودُمْلُج

وقول مروان بن أبي حفصة:

همو القوم إن قالوا أصابوا، وإن دعوا أجابوا، وإن أُعطوا أطابوا فأجزلوا
بنو مطرٍ يوم اللقاء كأنهم أسودٌ لها في غيل خفان أشبُلُ
همو يمنعون الجار حتى كأنما لجارهمو بين السماكين منزلُ

وقول إبراهيم بن العباس:

تطلعُ من نفسي إليك نوازع عوارفٌ أن اليأس منك نصيبها
حلالٌ لليلى أن تروع فؤادنا بهجر ومغفور لليلى ذنوبُها
وزالت زوال الشمس عن مستقرها فمن مخبري في أي أرضٍ غروبُها

وقول الأعشى:

ما روضة من رياض الحزن معشبةٌ خضراء جاد عليها مُسبلٌ هطلُ
يضاحك الشمس منها كوكبٌ شَرِقٌ مؤزر بنعميم النبت مكتهلُ
يوماً بأطيب منها نشرَ رائحةٍ ولا بأحسن منها إذ دنا الأصلُ

***

هكذا يمضي ابن حيدر البغدادي في رسالته عن (قانون البلاغة)، ينتقل من فكرة إلى فكرة، ومن خاطرة إلى خاطرة، ومن لون من الجمال ـ يراه هو ـ إلى لون آخر وألوان أخرى محاولا استكشاف مقومات قانون البلاغة.

وليس ثمة شك في أنه بذوقه المرهف وحسه اليقظ وضع يده على كثير من مواطن الجمال في الكلام، نثره وشعره. ومثل لهذا كله بالعديد من الأمثلة والنماذج.

لكن وقفاته جميعها جزئية، لا تقدم فكرا متسقا ولا رؤية متكاملة، كما أنها لا تصدر عن منهج واضح المعالم والأصول، وإنما هو الذوق وحده، يركبه صاحبه، ويسري به مدلجا بين النصوص، متوقفًا هنا مرة وهناك مرة، ملقيا بالرأي والملاحظة والنصيحة، كما يُلقي عابر السبيل بالتحية والسلام، ثم لا يزيد بعدهما شيئا من الكلام!

هذه الملاحظات الجزئية ـ على جمالها وصدقها وتوفيقها ـ تثير سؤال القارئ المعاصر حول جدواها لمن يتصدى اليوم لقراءة النصوص الإبداعية وتذوقها. إلى أي درجة تساعده وترفده وتثري رحلته مع الجمال! وإلى أي مدى تأخذ بيده في رؤية كاشفة للبلاغة في مدلولها العصري ـ الذي تنطق به جماليات علم الأسلوب ـ بديلا عن نظرات البلاغيين العرب القدامى، وملاحظاتهم الجزئية، المتناثرة كالشظايا، أو كالفراشات الطائرة من زهرة إلى زهرة ومن روض إلى روض، تحلق ثم سرعان ما تختفي وتتبدد في الفضاء، وتسبح معها ومضات خاطفة، كان الظن أنها ستختبئ، لكنها لم تنجح في إضاءة الكلام فكرةً ومحتوى وصياغة وإحكام صنعة وصورة وإيقاع عبارات وفواصل وموسيقى!

هنا يصبح (قانون البلاغة) لابن حيدر البغدادي ـ وأمثاله من رسائل البلاغيين القدامى ـ حافزا ومثيرا للتأمل، وباعثا على السؤال والاكتشاف، أكثر من كونه إجابة أو إجابات لأسئلة قديمة، تجاوزها الزمن والوعي المتجدد بالكتابة وضرورات الإبداع.

ويبقى من هذا كله ـ ماضياً وحاضراً وبلاغة وأسلوباً ـ فعل الجمال ووقعه فينا، وسحره الذي لا نمل الحديث عنه أو الإشارة إليه. فهو كيمياء الإبداع التي تتجاوز السطح الخارجي والتقسيمات البلاغية العقلية، والتوقف عند المظهر دون الجوهر، لتلفح الأنفاس بما يمنحه فضاء القصيدة أو السطور النثرية من متعة الإحكام ونفاذ الوهج والتأثير وعطر السيرورة والاستمرار، والامتلاء بمكتنزات العقل والحس والوجدان، من وعي ولا وعي، ومن تذكارات وتداعيات، ومن عصب يشد الكلام إلى سياق، ويضيئه بوقدة الإشراق والاحتراق.

تلك هي بلاغة الروح والمحتوى، بلاغة الجوهر، لا العَرض، بلاغة الحس الإنساني المرهف، والوعي الوجودي الخلاق.

 

فـاروق شوشة