جمال العربية

"قل..ولا تقل"

كلما زادت الأخطاء اللغوية الشائعة على الألسنة والأقلام، زاد حرص بعض الباحثين والعلماء اللغويين على أن يتصدوا للأمر، اهتماما منهم بالتدقيق اللغوي، وحرصا على السلامة والصحة والفصاحة، وتجنبا لثبات هذه الأخطاء في الاستعمال، مما يهدد بجعلها- على مدار الزمن- شيئا مألوفا لا تعافه عين قارئ أو أذن مستمع.

هذا الاهتمام بتمحيص المفردات والأساليب، وبيان صحيحها من خطئها قديم لا تاريخ ثقافتنا العربية واللغوية. وليس هنا مجال سرد كثير من أسماء الكتب التي ألفت في هذا الموضوع وحملت عناوين مختلفة، منها ما يتحدث عن "اللحن" بمعنى الخطأ في اللغة عند الخاصة والعامة، ومنها ما يتحدث عن "أوهام" الكتاب والمتكلمين، ومنها ما يتجه إلى التثقيف اللغوي- تثقيف اللسان- فينصح قارئه بالأخذ بأشياء - هي في رأيه مناط الصحة والسلامة- وبترك أشياء هي موطن الخطأ والخروج على الصواب.

ثم زاد هذا الاهتمام بالأمر والتنبه إليه باعتباره خطراً ينبغي مواجهته مع مجيء العصر الحديث، وانتشار حركة الترجمة عن اللغات والثقافات الأجنبية، وبدء عصر الصحافة، وشيوع لغة عصرية تختلف عن الفصحى التراثية في معجم ألفاظها وفي أساليبها وفي هندسة تراكيبها، وفي إيقاعها. وأصبحت الصحافة اليومية مجالاً لاصطياد كثير من الأخطاء من ناحية، وحدوث خلط في استخدام كلمات بدلا من كلمات أخرى أحق بالاستخدام لاختلاف المعنى والدلالة. مما جعل شاعر النيل حافظ إبراهيم يكتب قصيدته المشهورة على لسان اللغة العربية وهي تنعى حظها بين أهلها بعد أن وصلت إلى هذه الحال على الألسنة والأقلام. وهي القصيدة التي يطالعها القارئ تحت عنوان: صفحة شعر

***

من بين هذه الأخطاء مثلا: الخلط في الاستعمال بين كلمتي: كهل وشيخ، كأن يقال: فلان كهل في الستين. فالشيخ في اللغة هو من فوق الخمسين. أما الكهل فهو من بلغ قمة الشباب ونضج السن ووخطه الشيب، ما بين الثلاثين من العمر إلى الخمسين.

ويخلطون بين كلمتي: قط وأبدا في مثل قولهم: لن أزوره قط، والصواب أن يقال: لن أزوره أبدا، لأن النفي في قط ينصب على الماضي، أما استخدام أبدا فإنه ينصب على المستقبل، فلا يقال: لم أزره أبدا، بل يقال: لن أزوره أبدا.

ويخلطون بين كلمتين متشابهتين حروفا وكتابة هما: روع وروع عندما يقولون: ألقى في روعه بكذا، والصواب أن يقال: ألقي في روعه لأن الروع معناه العقل والقلب، أما الروع فمعناه الفزع والاضطراب والخوف الشديد.

ويخلطون بين الفعلين: نفد ونفذ، عندما يقولون: نفذت السلع من الأسواق، وصوابه: نفدت السلع، لأن النفاد معناه الانتهاء، أما النفاذ: فمعناه الوصول والبلوغ والاختراق، يقال: نفذ حكم القضاء، ونفذ اللص من سور الحديقة.

وفي القرآن الكريم ما يوضح الفرق الواضح بين مجالي الاستخدام بالنسبة للكلمتين في قوله تعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي.

فالنفاد هنا بمعنى الانتهاء والفناء. ثم في قوله تعالى: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان. بمعنى الاختراق والوصول.

ويخطون أيضاً بين فعلين متشابهين هما: هوي وهوى، ويستعملون أحدهما مكان الآخر، على بعد ما بينهما في المعنى والدلالة. فأولهما: هوي بمعنى أن ومضارعه يهوى، أما الثاني هوى فبمعنى سقط ومضارعه يهوي. ومصدر الفعل الأول: يهوى هوى، أما مصدر الفعل الثاني فهو يهوي هويا.

كما يخلطون بين الكلمتين: ثمّة وثمّت. فالأولى ظرف مكان مثل: ثم وهناك، أما الثانية فحرف عطف بمعنى ثم، يقول الشاعر:

ثمت قمنا إلى جرد مسومة

أعرافهن لأيدينا مناديل

ويقول الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت ثمت قلت لايعنيني

ويخلطون بين الكلمتين: غداء وغذاء، فالأولى تدل على وجبة منتصف النهار من الطعام، مثلها مثل الإفطار والعشاء، أما الغذاء فهو مطلق الطعام وما يكون به قوام الحياة ونماء الأجسام.

ويخلطون بين الكلمتين المتشابهتين: الخلة والخلة، فأولاهما (بفتح الخاء) معناها الفقر والاحتياج، ومنه قولهم: اللهم اسدد خلته.

ومن معانيها أيضا: الثغرة والفتحة والثقبة في الشيء. كما أن من معانيها الخصلة والخلق سواء كان محمودا أو مذموماً.

أما ثانيتهما (بضم الخاء) فمن معانيها الصداقة والمودة، وبه فسر قوله تعالى: لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة. ومن معانيها أيضا: الصديق والخليل، وقد تطلق على الزوجة خاصة.

ويخلطون كذلك بين الكلمتين: جرم وجرم. فأولاهما: بمعنى البدن والجسم والجثة. أما الثانية: فمعناها الذنب والجناية والعمل المستوجب للعقوبة.

ويخلطون في استعمال الكلمتين: الثاني والآخر. فكلمة الثاني تستعمل عندما يكون هناك الثالث والرابع، أما كلمة الآخر فتستعمل عندما لا يكون هناك ما يتبعه. ولذا يقال ربيع الآخر ولا يقال ربيع الثاني لأنه لا يوجد ربيع الثالث. ومن هنا كان "الآخر" من صفات الله تعالى، لأنه ليس بعده شيء. ومثل هذا يقال في شهري جمادى، فيقال جمادى الأولى وجمادى الآخرة.

يبقى أن أشير إلى أن في طليعة علمائنا وباحثينا اللغويين المعاصرين اهتماما بهذا الموضوع الدكتور أحمد مختار عمر أستاذ الدراسات اللغوية بجامعة الكويت، فقد - خصص فصلاً في كتابه: "من قضايا اللغة والنحو" ثم أتبعه بكتاب مستقل عنوانه: "العربية الصحيحة"، ثم أصدر أخيراً كتابه الجديد: "أخطاء اللغة العربية المعاصرة عند الكتاب والإذاعيين" فمن شاء التوسع في هذا المجال فعليه أن يرجع إلى هذه المؤلفات، فهي مرجع لا غنى عنه لمن أراد تجنب الخلط والخطأ والتزام الصحة والصواب.

"اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها"
لشاعر النيل حافظ إبراهيم

يقولون إن السبب في تسميته بشاعر النيل هو أنه ولد على ظهر "حراقة" في النيل راسية عند ديروط سنة 1871، كان أبوه مهندس الري يعمل عليها. وقيل بل لأنه أصبح شاعر الشعب، يتغنى بآماله ويرفع صوته بآلامه ويخوض معاركه السياسية والاجتماعية، وهي الصفة التي ستعلق به طيلة حياته، وقيل أيضا في تفسير وصفه بشاعر النيل: لأنه عاش في كل من السودان ومصر، فقد استعيد إلى الجيش بعد أن كان قد فصل منه وألحق بحملة اللورد كتشنر لفتح السودان، وكان من نصيبه أن يعين للخدمة في شرقي السودان، حيث أقام ما يزيد على ثلاث سنوات.

لكن حافظ إبراهيم بنزعته المتمردة وطبيعته الثائرة لم يخلق ليمارس عملاً أو وظيفة. وهكذا حفلت حياته بالعمل ضاباً في الجيش حينا- بعد تخرجه في المدرسة الحربية- وملاحظاً بوليسيا تابعا لنظارة الداخلية، ومتعطلاً لا يحسن عملاً ولا يجد قوت يومه، وموظفا في دار الكتب المصرية حتى وفاته عام 1932.

تتجلى عبقرية حافظ إبراهيم الشعرية في وطنياته التي فجرتها عاطفته المشبوبة نحو وطنه ومواطنيه، وأصبح شعره بمثابة الغذاء اليومي للجماهير في وقت كانت فيه مصر ترسف في قيود الاحتلال، وتئن تحت وطأة الأوضاع السياسية والاجتماعية الجائرة.

وفي قصيدته "اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها" التي نشرت عام 1903 التفاتة إلى واحد من همومه القومية والروحية، فالفصحى التي يغار عليها حافظ ويخشى أن تشوه على الألسنة والأقلام هي لغة القرآن الكريم ووعاء الإسلام والعروبة، وحاملة التراث العربي منذ أقدم العصور وإلى أن يشاء الله.

من هنا كان استنفاره للهمم وحثه للعزائم، ودعوته إلى المقارنة بين حال أصحاب الفصحى، وحال الإفرنج الذين عزوا واعتزوا بلغاتهم، بينما هم ينفثون سمومهم لتمزيق شمل الفصحى وتشويه ثوبها الجميل البديع.

يقول حافظ إبراهيم:

رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
رموني بعقم في الشباب، وليتني
ولدت، ولما أجد لعرائسي
وسعت كتاب الله لفظاً وغاية
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني
فلا تكلوني للزمان، فإنني
أرى لرجال الغرب عزاً ومنعةً
أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا
إيطربكم من جانب الغرب ناعب
ولوتزجرون الطير يوماً، علمتمو
سقى الله في بطن الجزيرة أعظماً
حفظن ودادي في البلى، وحفظته
وفاخرت أهل الغرب والشرق مطرق
أرى كل يوم بالجرائد مزلقا
وأسمع للكتاب في مصر ضجةً
أيهجرني قومي- عفا الله عنهمو
سرت لوثة الإفرنج فيها، كما سرى
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة
إلى معشر الكتاب، والجمع حافل
فإما حياة تبعث الميت في البلى
وإما ممات لا قيامة بعدة

وناديت قومي، فاحتسبت حياتي
عقمت، فلم أجزع لقول عداتي
رجالا وأكفاء وأدت بناتي
وماضقت عن آي به وعظات
وتنسيق أسماء لمخترعات
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
ومنكم وإن عز الدواء أساتي
أخاف عليكم أن تحين وفاتي
وكم عزّ أقوام بعز لغات
فيا ليتكم تأتون بالكلمات
ينادي بوأدي "في ربيع حياتي
بماتحته من عثرٍة وشتات
يعزّ عليها أن تلين قناتي
لهن بقلب دائم الحسرات
حياءً بتلك الاعظم النخرات
من القبر يدنيني بغير أناة
فأعلم أن الصائحين نعاتي
إلى لغةٍ لم تتصل برواة
لعاب الأفاعي في سبيل فرات
مشكلة الألوان مختلفات
بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
وتنبت في تلك الرموس رفاتي
ممات لعمري لم يقس بممات

قد جاءت صيحة حافظ إبراهيم في هذه القصيدة ودعوته إلى الاهتمام بلغتنا العربية والعمل على إزالة ما علق بها من شوائب وأوضار، وتصحيح ما جرت به ألسنة الناس وأقلامهم من أخطاء وعثرات، جاءت سابقة على قيام مجمع اللغة العربية في مصر بأكثر من ثلاثين عاما.

عندما صدر قانون إنشاء المجمع سنة ألف وتسعمائة وأربع وثلاثين، كان هدفه الأساسي الحفاظ على اللغة العربية، والعمل على جعلها قادرة على الوفاء بمستحدثات العصر ومعارفه، والقيام بمتطلبات الحضارة الحديثة خاصة في مجال ألفاظ الحياة العامة ومصطلحات العلوم..

هو الهدف نفسه الذي قامت من أجله المجامع اللغوية العربية في دمشق وبغداد وعمان.

لم تذهب دعوة حافظ إبراهيم في قصيدته المؤثرة سدى.