تراث عربي

تراث عربي

القصة الفكاهية

ليست الذات العربية تراثا متجهماً أو عبوساً، ولكنها تراث ضاحك لم يلق معظمه حظا من الشهرة أو الدرس، ربما لأن هذا قد صنف قديما تحت مصطلح رسائل، وجارينا القدماء في ذلك، فلم نفطن إلى بنيتها السردية، ولا إلى ثراء أشكالها الفنية، فهناك الرسائل السردية المطولة (كالرواية في عصرنا)، والمتوسطة (كالقصة الروائية)، والقصيرة (كالأقصوصة)، وتتمحور مضامينها حول نقد المجتمع وتعرية بعض أنماطه البشرية غير السوية. وعلى الرغم من كثرة هذه النصوص السردية فإن ما وصلنا منها قليل إذا قيس إلى الكثير الذي فقد منها، ولم يبق لنا إلا أسماؤها التي ذكرها صاحب الفهرست، أو ملخصات لها في كتب الأدب.

الرسالة البغدادية والنمط الـدون كيشـوتـي العـربـي

كان أول من تنبه لهذه الرسالة/ الرواية المستشرق الألماني المعروف آدم متز، فقام بتحقيقها ونشرها في ألمانيا سنة 1902، تحت عنوان (حكاية أبي القاسم البغدادي) ونسب تأليفها إلى أبي المطهر الأزدي (وهو في الحقيقة راوي الحكاية لا مؤلفها)، ثم أعيد تحقيقها وطبعها في لبنان سنة 1980 (464 صفحة) منسوبة ـ في ضوء قرائن قوية ـ إلى أبي حيان التوحيدي. وأيا كان الأمر فالكتاب مكتوب بلغة أهل الكدية (اللغة المستفصحة والمستفضحة في آن)، استخدم فيه مؤلفه الفكاهة الساخرة الفاجرة سلاحا رهيبا في فضح المسكوت عنه، ونقد الواقع الاجتماعي والتحول الحضاري والصراع السياسي الشعوبي، في بغداد آنذاك. تكمن عبقرية هذه الرواية في أنها تطرح لأول مرة النمط الدون كيشوتي العربي ببطولاته المزعومة وانتصاراته الوهمية (بما هي بطولة اللفظ وحروب الكلام والمعارك المتوهمة).

والحقيقة أن هذه الرسالة/ الرواية القصصية تقف موقفا فريدا بين الموروث السردي أو الحكائي العربي عامة، والفكاهي خاصة. ووجه الغرابة أنها نوع من اللارواية أو اللاقصة، بالمصطلح المعاصر لبعض الأشكال السردية الجديدة، على الرغم من طولها، لا لأنها تفتقد ذلك الخط السردي الذي يربط بين الأحداث، بل لأنها نص منحرف في جوانبه الأساسية عن كل معايير القصة الفكاهية التقليدية، ولهذا تكمن مرجعية هذا النص في ذاته ووعيه الحاد بذاته، ومع ذلك فهو نص يشدنا إلى أدبيته الخاصة، وكينونته اللغوية المتميزة، بوصفه حقيقة فنية، وهو أيضا نص تنبثق الفكاهة فيه من السرد داخل النص نفسه.

لم تكن حكاية أبي القاسم البغدادي وحيدة في بابها، بل سبقتها إلى الوجود رسالة سردية مماثلة، دون كيشوتية الطابع أيضا، من تأليف أبي حية النميري (ت 183 هـ) ولكنها ضاعت ولم يصلنا إلا ملخص لها، ذكره ابن قتيبة (276 هـ) في عيون الأخبار، وعنه نقلها الآخرون وعلى رأسهم الحصري القيرواني (453 هـ) في جمع الجواهر في الملح والنوادر. وقد جعلها مؤلفها على لسان أستاذه علي بن هارون، وجعل راويتها أبا محمد علي بن الحسن المظفر الحاتمي، وجاءت في أربعة أجلاد (دفاتر) حيث سرد فيها مغامرات ابن هارون البطولية المزعومة على النمط الدون كيشوتي، إذ استيقظ البطل ليلا على صوت حركة غير طبيعية في داره فراعه ذلك، وتوهم أن لصا جاء يسرق متاعه، فأشهر سيفه، وشرع يهدد اللص بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويستعرض صورا من بطولاته المزعومة في ميادين القتال وسفك الدماء، من غير جدوى، فأخذ يهدد ويتوعد ثانية، وإنذارته للص تترى، لكي يهرب بجلده وينجو بحياته، كل هذا وهو لا يغادر حجرة نومه التي أحكم إغلاق بابها، ثم نكتشف معه، في النهاية، أن هذا الصوت ليس إلا صوت برذون (بغل) فك قيده في اصطبل ابن هارون نفسه، وأنه يتحرك على هواه مزعجا سائر الخيل والبغال في جوف الليل. وهاتان فقرتان من مقدمة هذه الرواية الساخرة الفريدة التي يتجلى فيها النمط الدون كيشوتي العربي (بطولة الحروب الوهمية):

(هذه حكاية أبي الحسن علي بن هارون مع اللص الذي تخيل أنه دخل داره، أخبرني بها أبو القاسم القنطري وغيره من حاشية أبي الحسن، ولفظ بعضهم يزيد على بعض (بحكم طبيعة الرواية الشفوية)، فجمعت الروايات على اختلافها، ونظمت شتيتها، وهذبت العبارة عنها، وأوردت المعاني مكسوة من النثر الرائع والتشبيه الواقع، مما يطرب سامعه ويروق متصفحه، ليكون وروده أغرب وحفظه أقرب. ونحلت أبا الحسن وجماعة ولده قطعا من بارع الشعر تناسب قطع الرياض بنت القطر، صنعتها على ألسنتهم ونسبتها إلى ارتجازاتهم. وتمثلت عنهم بفقر من أشعار العرب أسميت قائلها، لئلا تلتبس بما اختصصت في نظمه،وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).

وقال في آخرها، (لقد كان في نبأ هذه الكريمة تبصرة لمستبصر، وتذكرة لمتذكر، هذا ولم تقترع فيها الأقران، ولا تنازلت فيها الفرسان، ولا أريق فيها ملء محجم دم، وإنما هو تخييل وتسويل جنان. وإنما بعثنا على ذلك مرح الصبا، واستجابة لما تدعيه أفانين الكلام، ونستغفر الله من فضول العمل).

والمتأمل لهاتين الفقرتين، يقف مشدودا إلى عدد من النتائج ذات الأهمية البالغة، منها أن هذه الرسالة/ الرواية سابقة على كتب الجاحظ ومروياته المدونة. وأن لها فضل الريادة في الكتابة القصصية ـ بعد كليلة ودمنة ـ في التراث القصصي العربي. ومنها أنها أول قصة واقعية تفصح عن مؤلفها وراويتها معا. ومنها أن المؤلف (أو الراوية) يفصح عن (أسلوبه) في (التأليف) السردي لأول مرة. ومنها الكشف عن المزاج العربي في القص (في الجمع بين الشعر والنثر). ومنها إحساس المؤلف بقيمة عمله الأدبي الذي يكتب لأول مرة، ومنها أن هذه الرواية/ الرسالة القصصية من (أفانين الكلام) كإبداع جديد لفن جديد.

رسالة التربيع والتدوير والقصة الروائية

يعد الجاحظ (ت 255 هـ) رائد هذا اللون من الأدب الترسلي القصصي في رسالته الشهيرة (التربيع والتدوير) التي كتبها متهكما في هجاء أحد خصومه، ويدعى أحمد بن عبدالوهاب هجاء (كاريكاتيريا) مريرا. وهذه الرسالة السردية الطويلة، أكبر من القصة القصيرة، ودون الرواية حجما ومن ثم يمكن أن يطلق عليها القصة الروائية. ومن أشهر نماذجها أيضا الرسالة (الهزلية) التي كتبها ابن زيدون على لسان حبيبته ولادة، يسخر فيها من ابن عبدوس، ويهجوه هجاء (كاريكاتيريا) مرا. ورسالة الهمذاني في التهكم على أبي بكر الخوارزمي. وهذا اللون من الأدب القصصي الساخر ينحو ـ بنائيا ـ منحى ما يسمى اليوم باسم (قصص الشخصية) لأن الفعل الدرامي فيها أو الحدث القصصي التقليدي غير ذي بال.

الأقصوصة الفكاهية

وهي تشبه القصة القصيرة في عصرنا إلى حد كبير، ومن نماذجها المشهورة القصة المعروفة بـ (حذاء أبي القاسم الطنبوري) ومثلها كثير من الحكايات التي يطلق عليها (تكاذيب الأعراب) التي حفلت بها كتب الفكاهة التراثية، ولعل من أشهرها قصة (الحمد لله الذي مسخه كلبا، وكفى العرب حربا!). ولما كان المقام يضيق عن تلخيصها، فقد آثرنا أن نختتم المقال بنادرة (بما هي أقصوصة قصيرة جدا) من نوادر الأعراب، هي مُلحة الوداع التالية:

قيل تكاذب أعرابيان، فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس، فإذا أنا بظلمةٍ فيممتها حتى وصلت إليها، فإذا هي قطعة من الليل، فمازلت أحمل عليها بفرسي هذا حتى اصطدتها. فقال الآخر: رميتُ مرّة ظبيا بسهم، فعدل الظبي يُمنة فعدل السهم يُمنة، ثم تياسر الظبي فتياسر السهم وراءه، ثم علا الظبي فعلا السهم خلفه، ثم انحدر الظبي فانحدر السهم فأخذه!

 

محمد رجب النجار