من الجدل إلى السجال.. أزمة الخطاب النهضوي العربي!
من الجدل إلى السجال.. أزمة الخطاب النهضوي العربي!
يكشف خطاب النهضة العربية عن أولوية قضايا مركزية كالعقلانية والديمقراطية والعلاقة مع الآخر. ويكشف تحليل هذا الخطاب كيف أنه تحوّل من الجدل مع الواقع، إلى الجدل مع نفسه عندما خضع تدريجياً لبنية ثنائية بلغت من حدة الاستقطاب بين ثنائياتها على صعيد كل القضايا درجة مانعة للتفاعل الجدي والجدلي بين طرفيها. إزاء ذلك تحول الجدل إلى سجال اندمجت كل ثنائياته في موقف سكوني عميق، استمرت معه قضايا الجدل حول ضرورة تغيير المجتمعات العربية بعد صدمة احتلال العراق، هي نفسها القضايا التي دارت حولها موجة المراجعات بعد هزيمة يونيو 1967م، وانتكاسة المشروع الناصري واهتزاز عقيدة القومية العربية. وهي أيضاً أو بعضها، كانت مداراً للجدل بعد هزيمة «هوجة» أحمد عرابي وخضوع مصر للاحتلال البريطاني. بل، وقبل ذلك، كانت هذه القضايا نفسها موضع تساؤل الوعي العربي في إطلالته الأولى على العالم الحديث، منذ حملة نابليون على مصر قبل قرنين أو أكثر. وبالرغم من خصوصية الإشكالات التي أثارتها هذه القضايا في كل مرحلة، فإنها جميعاً تشترك في ملمح أساسي بارز يتمثل في «الدائرية»، أي تكرار طرحها على نحو حلقي متكرر، وربما «الإستاتيكية»، أي استمرار طرحها على نحو متصل دونما قدرة، لدى الفكر العربي المعاصر، على تجاوزها أو إحداث قطيعة معرفية معها. فقضية العقلانية - مثلاً - والتي كرّس لها العلم الطبيعي بمنهاجيته الشكية التجريبية هي مطلب الثقافة العربية منذ مطلع العصر الحديث. وكذلك الديمقراطية التي تثير الجدل الفكري والسياسي العربي منذ القرن العشرين ولاتزال، وانتهاء بقضية العلاقة مع الآخر التي شغلت الذهن العربي، ودارت حولها مناظراتها المتعددة، سواء بين تياراته المتباينة أو مع الآخر نفسه منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر التي شهدت مناظرات جمال الدين الأفغاني مع آرنست رينان، وحتى تسعينيات القرن العشرين، التي كشفت عن حدة انفعالات عمق انزعاج الوعي العربي من دعوى صدام الحضارات حينما أطلقها المفكر الأمريكي الراحل صامويل هنتنجتون، وعندما تبناها اليمين الأمريكي المحافظ عملياً بعد أحداث سبتمبر، بدعوى مكافحة الإرهاب وصولاً لاحتلال العراق. وبالرغم من تغيرات دقيقة في التفاصيل والملابسات، فإن استمرار طرح هذه القضايا على مستوى البنية عبوراً على فواصل القرون، وحواجز الزمن، إنما يثير التساؤل حول دوافعه؟ وفي اعتقادنا أن ثمة دوافع ثلاثة فكرية وسياسية وبنيوية. الدافع الأول - يتعلق بحالة «الانشطار» في المرجعية الثقافية والتنافس الشديد بين طرفيها والذي يؤدي إلى أن يصبح جدل الفكر مع الفكر بديلاً لجدل الفكر مع الواقع، وهو ما يمثل معوقاً لتطور الواقع ولإنجاز الأهداف التي يطرحها الفكر، الذي وقعت تياراتها ولاتزال في حالة اشتباك لم تنفض بعد منذ مطلع العصور الحديثة. ومن ثم تجد هذه التيارات نفسها أسيرة لحالة استقطاب تقود إلى ضعف تأثيرها جميعاً في مجرى الحياة العربية لأن الجهد الأساسي لكل تيار فكري إنما يتبلور غالباً ويبذل في مواجهة تيار فكري آخر، وليس في مواجهة الواقع نفسه، الذي يبدو هو الآخر أكثر حيرة وقلقاً إزاء ما يشهده من تنافسية تيارات متناقضة جذرياً على محاولة إلهامه، فيقيم تعامله معها على أساس من الشك فيها جميعاً، ومن ثم رفض كل توجيهاتها خضوعاً لملابسات الحركة الضاغطة، والظروف الآنية دونما إلهام من رؤية شاملة، الأمر الذي يضعف كثيراً من تأثير الفكر على الواقع، ويعزل كلا منهما عن الآخر ليبقى الواقع جامداً، وهكذا تبقى أسئلته ومشكلاته وأهدافه وغاياته ثابتة، ومن ثم تبقى قضاياه الكبرى هي الأخرى، مطروحة على نحو متكرر أو مستمر. ما بعد انشطار المرجعي أمر آخر مهم يترتب على انشطار المرجعية الثقافية يتعلق بقضية التراكم والانقطاع، إذ غالباً ما يؤدي هذا الانشطار المرجعي إلى تقسيم شبه جذري للنخب السياسية المتحلقة حوله، يكون من نتيجته نزعة إقصاء ورفض للآخر الداخلي: الطبقي، الحزبي، القبلي.. إلخ، مع الاستعداد للانقضاض عليه والقضاء على كل ما يمثله من أبنية ورموز إذا ما توافرت الظروف المساعدة، ما يؤدي في النهاية إلى دخول المجتمع في نفق التحولات الانقلابية، بين أنظمة سياسية جد مختلفة تراوح بين هذه المرجعة وتلك، الأمر الذي يقود إلى الانقطاعية لأن كل نخبة تحاول إلغاء تجربة سابقتها ليبدأ المجتمع من جديد مع كل تحول سياسي جديد «السودان - مثلاً - في العقود الثلاثة الأخيرة نموذجاً بالغ الدلالة، ربما لدرجة الإثارة، وكذلك الجزائر في العقدين الماضيين، وأيضاً مصر في ربع القرن الماضي، وإن بدرجة أقل سفوراً»، فضلاً عن لبنان، والعراق، فضلا عن اليمن والصومال. ولاشك في أن هذه الانقطاعية تؤخر كثيراً حركة الواقع وقدرته على التطور لأنها تعطل قدرته على مراكمة الخبرة والتقاليد والإنجازات، ومن ثم تقود إلى جموده واستمرار طرح مشكلاته وقضاياه الكبرى أو الأساسية. والدافع الثاني: يتعلق بالتجربة الاستعمارية بكل مراراتها في عالمنا العربي والتي كان لها هي الأخرى أثرها في تعميق دائرة التفكير السياسي، سواء بطريق غير مباشر يتعلق بتفجيرها لرفض تيار أساسي في الوعي العربي للآخر الغربي بوجهه الاستعماري، ومن ثم إثارة التناقض بين تيارات الفكر العربي ترسيخاً لحالة الانشطار في المرجعية على النحو الذي قد سلف، أو بطريق مباشر يتعلق بالانقطاع السياسي الطويل نسبياً، والذي ولدته في مسيرة المجتمعات العربية في فترة مهمة من التاريخ تمتد بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي الفترة التي شهدت رسوخ الدولة القومية في الغرب، وتبلورها في باقي أنحاء العالم عبر تطور تدريجي حرمت منه جل المجتمعات العربية،التي كانت قد دخلت إلى الفضاء الاستعماري من بوابة السيطرة العثمانية، ولم تخرج منه إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، ولديها المطالب المؤجلة نفسها في النهوض والتطور، ومن ثم الأسئلة نفسها عن المسالك والدروب والوسائل والأهداف والغايات «مفردات عمل الفكر»، والتي كانت مطروحة قبل حضور الاستعمار، وظلت مطروحة بعد رحيله بالرغم من مرور أكثر من القرن لأن شيئاً ذا بال من هذه المطالب والأهداف لم يتحقق، ومن ثم ظلت أجندتها بين منتصف القرن التاسع عشر والعشرين شبه ثابتة، ربما تطورت في تفاصيلها، فيما ظلت بنيتها ساكنة، لأن الواقع نفسه كان كذلك، بالرغم من مرور الزمن الذي شغله أو قطعه الاستعمار الغربي، وربما زاد من وطأة هذه التجربة أمران دفعا إلى مزيد من الارتباك في مسيرة الفكر العربي. أولهما - هو الشعور بالمرارة إزاء البنيتين التاريخيتين اللتين أحاطتا بالمجتمع العربي وعمّقتا من أزمته، الأولي: هي البنية العثمانية المنتمية في أغلب ملامحها إلى القرون الوسطى، والقائمة على نوع من الإقطاع أو شبه الإقطاع العسكري، والتي كان الفكر العربي قد اعتبرها مسئولة عن تخلفنا التاريخي الساحق الذي أوقعنا في إسار الاستعمار، ومن ثم لم يكن هناك أي تصوّر لاسترجاعها. والثانية: هي البنية الغربية المنتمية إلى العصر الحديث، واقتصاده العالمي المؤسس على نمط الإنتاج الرأسمالي، ولكن المرتبطة بأشد نزوعاته جموحاً «المركزية الغربية»، وأكثر تجاربه عدوانية «الكولونيالية»، والتي كانت مسئولة - بلاشك - عن جريمة استعمارنا. ولعل هذا الشعور بالمرارة كان مربكاً جداً لأنه ضيق من خيارات الفكر العربي إزاء المستقبل الذي باتت تعوزه تجربة للنهوض، حديثة ومستقلة وحسنة السمعة في الوقت نفسه باتت صعبة المنال. وثانيهما - هو حالة التلفيق التي آل إليها المشروع التوفيقي بضغط الزمن عليه، ذلك أن إهدار نحو القرن دون تقدم قد زاد من فجوة التخلّف، وضاعف الجهد المطلوب لتصفيتها أو حتى تضييقها بممارسة خيارات فعالة وديناميكية، وهي الخيارات التي لم تكن واضحة - على الأقل - وسلك الفكر إليها على عجل، فقادته العجلة إضافة إلى السياق الدفاعي المحيط به إلى التلفيق بينها بدلاً من إبداعها أو إقامة الجدل بينها، فكانت النتيجة اضطراب الواقع الذي ألهمته، وتكريس تناقضاتها وقصوراته بتناقضاتها وقصوراتها هي، ومن ثم عجزه عن التطور. وكان طبيعياً آنذاك أن يبقى الفكر في معية الواقع، قابعاً بجواره يجتر نفسه، ويعيد طرح قضاياه من جديد على أمل الخروج من المأزق الكبير المحيط به والممسك بتلابيبه على شتى الأصعدة. ما بعد غياب العقلانية وأما الدافع الثالث فيتعلق بما يمكن تسميته «الارتباط البنيوي» بين هذه القضايا نفسها حيث إنها جميعاً مرتبطة بسياق واحد يمتد ليطول الوعي العربي كله على نحو يجعل كلا منها جذراً لتاليتها، أو ثمرة لسابقتها على نحو ما تشكّله الشجرة الخضراء من علاقات وتأثيرات متبادلة بين أجزائها، فغياب العقلانية - مثلاً - والناجم عن غياب العلم الحديث ومنهجه الشكي التجريبي، ومن ثم استمرار المناهج التقليدية للمعرفة سواء الصورية/المنطقية/الأرسطية أو الحدسية/الإشراقية/الصوفية، إنما يقود إلى غياب الموضوعية على مستوى الوعي الفردي بالعالم، حيث يغيب الشعور بالفردانية لمصلحة الروح الإدماجية التي تترسخ في ظلها الأبنية الاجتماعية والسياسية التقليدية حيث القبلية المهيمنة أو التسلطية القاهرة، أو على العكس يتضخم هذا الشعور إلى حد الدوجمائية، وما تفرزه من أبنية سياسية واجتماعية تعاني من التطرف، والعنف. وفي هذا السياق، لا يتصور أن توجد الديمقراطية لأنها - كبناء سياسي - تجسّد فضاء ثقافياً متسامحاً يقوم على النسبي لا المطلق، ونظاماً اجتماعياً يقوم على التمايزات الحديثة الطبقية والمهنية والاقتصادية، وليس على الانقسامات التقليدية/البيولوجية.. العرقية/القبلية، والدينية/المذهبية. وتبدو قضية «العلاقة مع الآخر» كثمرة نهاية لهذه المتوالية/الشجرة، حيث يكون الآخر شريكاً مثالياً نزيهاً وموضوعياً ومتعاوناً حينما تزدهر الذات، وتنمو قدرتها على الفعل والتأثير في التاريخ. ذلك أنها تزداد ثقة بنفسها، ووعياً بدورها، ولا تجد لديها حاجة أو رغبة في تشويه صورة الآخر كي تبرر ذبولها في التاريخ، أو لتعفي نفسها من وطأة الشعور بالدونية أو التقصير. ولعل درس التاريخ يعلّمنا أنه كلما ازدهرت حضارة نضجت تصوراتها عن العالم، والعكس صحيح أيضاً، فكلما تدهورت حضارة أو أمة تشوّه إدراكها لهذا العالم والتبس بالدوجمائية مبتعداً عن الموضوعية التاريخية، حيث يتحول الآخر عدواً أبدياً، وشيطاناً متآمراً. وكلما تم تهميشها أو حصارها، وقلت من ثم فرص الفعل والتأثير لديها، ازداد إدراكها تشوّهاً إذ تندفع آنذاك لرثاء نفسها، وتبرير قصوراتها. والمهم في هذا السياق هو أن ارتفاع درجة التفاعلية بين هذه القضايا يربطها، تقريباً، برباط واحد بحيث تستدعي كل منها الآخرى غياباً وحضوراً، إيجاباً وسلباً. ومن ثم فحضور أي منها غالباً ما يستدعي حضور القضايا الأخرى، وهو أمر يؤدي إلى إعادة طرحها كحزمة متكاملة على وعينا العربي تكريساً لدائريته، وركوده وربما جموده القاتل.
|