محمد القيسي.. مغني فلسطين المتجول (شاعر العدد)

محمد القيسي.. مغني فلسطين المتجول (شاعر العدد)
        

          اتسعت دائرة محمد القيسي الشعرية لكنها لم تكتمل، وكان موته المقطر على مدى أسبوعين في غياهب الغيبوبة الأخيرة له على سرير المرض، دائرة أخرى من دوائر هذا الشاعر المتداخلة في القصيدة، وكأنها سر عذب لا يريد له صاحبه أن ينكشف أمام فضول النقاد والشعراء على حد سواء.

          إنه شاعر الحزن المتجول في الزمن الفلسطيني الموغل في عذابات القصيدة وجمالياتها الأبدية محمد القيسي. ولد محمد خليل القيسي في قرية كفر عانة الفلسطينية العام 1944م، لكنه لم يقم طويلا في تلك القرية الغافية على أهداب مدينة يافا، فقد احتضنته وعائلته مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية بعد نكبة العام 1948م، واضطرار تلك الأسرة - مثل العديد من الأسر غيرها - للهجرة في صورة مبكرة من صور التشرد الفلسطيني. وفي مدارس الضفة الغربية درس المراحل الدراسية الأولى قبل أن ينتقل إلى العاصمة اللبنانية لينال شهادته الجامعية في الأدب العربي من جامعة بيروت العربية العام 1971 .

          لكن أغاني أمه الفلكلورية الحزينة حينا والحماسية أحيانا والتي كانت تلتقطها طفولته الرابضة في أحضانها كانت زاده الإبداعي الأول، ومصدره الشعري الذي لا ينضب، فقد ظل القيسي دائما يتذكر تلك الأغاني الشعبية ويحاول محاكاتها شعريا متكئا على ذاكرته المتخمة بكل ما هو حي من القسوة والألم تحت هيمنة المحتل الصهيوني، وكل ما هو حي من الجمال والبهاء، تحت وطأة الإحساس بالوطن والأمومة معا. وقد ظهرت أطياف تلك الأغاني الشعبية التي كان يستمع إليها من والدته في معظم ما كتبه الشاعر، وكان اسم والدته «حمده» يلمع كنصل سكين حاد في ظلمة الزمن وليالي القصيدة الحالكة السواد.

          بدأ القيسي رحلة التيه بشكل حقيقي وجاد بعد تخرجه في الجامعة، حيث عمل في التربية والتعليم في مدارس المملكة العربية السعودية قبل أن يواصل رحلة التيه متنقلا بين عواصم وأمكنة عربية كثيرة ليس من بينها مكانه الأول،  بدأها ببغداد ثم دمشق فبيروت والكويت وبنغازي، واستقر أخيرا في عمّان، حيث استهوته فكرة الكتابة الصحفية التي مارسها بشكل احترافي في الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي. ومنذ العام 1987م شعر القيسي بحاجة قصيدته الماسة له فتفرغ لها.

          وربما منذ ذلك الوقت صارت قصيدة الشاعر التي تنامت على مدى تنقلاته واكتسبت خصوصيتها وفرادتها هي المكان الأول بالنسبة له فلم يعد للمكان أهمية جغرافية لديه بعد أن تساوت الأمكنة.

          انحاز القيسي في قصيدته لفلسطين كقضية وكإنسان يحمل معاناته على ظهره بالضرورة، وكمواطن يعيش بعيدا عن وطنه، وكفرد مسحوق تحت وطأة الإحساس الدائم بالفقد، وكتاريخ حي لا يموت وينبغي له ألا يموت، والأهم من كل ذلك كوطن.. وأي وطن!

          وهكذا كانت قصائد ذلك المغني المتجول على أطراف الحزن الفلسطيني موئلا للتفجع والأمل في الوقت نفسه، وكانت مفرداته الحزينة مغلفة دائما بما يشبه التفاؤل، وكانت أوزانه مثقلة بهواجس الوجع الفلسطيني وصور المعاناة التي لا تنتهي في حياة كل الأسرة الفلسطينية، التي عانت من التشرد واللجوء والبعد عن الأمكنة الأولى، ومعايشة الغربة اضطراريا، وفوق كل هذا الاحتفاظ بأمل العودة  في القلوب، والاحتفاظ بمفاتيح البيوت - التي تركوها وراءهم - في الجيوب.

          كان محمد القيسي يلتقط كل ذلك الوجع المأساوي، والذي بدا في كثير من الأحيان وكأنه أبدي بعين الذاكرة التي لا تكل ولا تمل ولا تغير نظرتها، ويعيد إنتاجها، قصائد لها نكهة فلسطين، ورائحة النضال الحقيقي على أرض الواقع من دون أن يتخلى عن الشروط الفنية، فكانت قصائد القيسي وكل ما كتب غيرها قطعا فنية راقية.

          عندما ذهب محمد القيسي ذهابه الأخير مسجى بالشعر والنضال إثر سكتة دماغية دهمته في اليوم الأول من أغسطس العام 2003م، ترك وراءه ما يربو على الخمسة والعشرين كتابا شعريا مثلت مجمل تجربته الشعرية التي بدأت على صعيد النشر العام 1968م بكتاب «راية في الريح»، ثم توالى صدور مجموعات شعرية ومسرحيات، وكتب أخرى منها: «خماسية الموت والحياة»، و«رياح عز الدين القسام»، و«الحداد يليق بحيفا»، و«إناء لأزهار سارا زعتر لأيتامها»، و«اشتعالات عبد الله وأيامه»، و«كم يلزم من موت لنكون معاً»، و«أغاني المعمورة»، و«أرخبيل المسرات الميتة»، و«كل ما هنالك»، و«كتاب حمدة»، و«عائلة المشاة»، و«صداقة الريح»، و«كتاب الابن»، و«ناي على أيامنا» وغيرها من العناوين الأخرى.

 

 

سعدية مفرح