عام الكارثة

عام الكارثة
        

          يواصل الكاتب تصفح كتاب الذكريات، من النشأة الأولى، وحتى عتبات الجامعة. ومع كل عام تتجدد أحلام وتنكسر أوهام.

          كان تعييني في كلية الآداب جامعة القاهرة معيدا بقسم اللغة العربية في السادس عشر من مارس سنة 1966، بعد أن أنصفني عبدالناصر وأعاد لي حقي المسلوب من كبار أساتذة قسم اللغة العربية الذين نسوني في صراعاتهم. وانغمست منذ ذلك اليوم في حياتي الجامعية، وكلي عرفان بصنيع عبدالناصر - ولاأزال - وكان كل شيء حولي بهيجا، والتجربة الناصرية صاعدة إلى ذروتها السعيدة، والأحلام التي وعدت بها، بدت قابلة للتحقق، على مدى البصر والأمل، فقد خرج الشيوعيون من المعتقلات الناصرية البشعة، وبدأت الناصرية كما لو كانت تكفّر عن أخطائها، فأوكلت إليهم مناصب مهمة في الإعلام، حيث تولى محمود العالم رئاسة مجلس إدارة أخبار اليوم، ثم الهيئة المصرية العامة للكتاب، أو «دار الكاتب» في ذلك الزمان، وبدا الأمر كما لو كان الحزب الشيوعي القديم، قد ذاب في الاتحاد الاشتراكي، ولم أسمع عن التنظيم الطليعي حقا، لكني عرفت فيما بعد أنه ضم أفضل الشخصيات التي أعرفها، وواصل إبراهيم سعد الدين مهمته في إعداد الكوادر الاشتراكية في معهد إعداد القادة، وبرز دور إسماعيل صبري عبدالله في معهد التخطيط القومي، ومعه فؤاد مرسي، وقد استحق كلاهما منصب الوزارة في فترة المد الناصري في زمن السادات، قبل الانقلاب على الناصرية، وكان أحمد رشدي صالح يقود دار الهلال، وبعدها آخر ساعة، وهو محرر «الفجر» القديم، وأحمد عباس صالح كان رئيس تحرير الكاتب، ومعه البعثيون القدامى مثل عبدالعزيز الأهواني، وسرعان ما ظهرت الطليعة برئاسة لطفي الخولي لتكون صوت اليسار المصري، وبدا أن كل شيء قد غلب عليه الاتجاه التقدمي، وتحولت الناصرية نفسها إلى اشتراكية عربية، أخذنا نسمع عن وعودها في طريق التحول الاشتراكي الذي كان الجميع يتحدث عنه، ويغني له كما فعل صلاح جاهين الذي غنى له عبدالحليم حلمه الاشتراكي، سنة 1963، عن أننا سوف نرى:

          «صناعة كبرى ملاعب خضره تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا فى كل قرية عربية».

          وكان أحمد حجازي يكتب قصائده عن الاتحاد الاشتراكي العربي وعبدالناصر الذي أصبح زعيم العرب التقدميين، وأصبحت كلمة «التقدمية» صفة مدح يتمسح فيها الجميع مقابل «الرجعية» التي انتفت عنها صفة الصعود، مع تجليات النمط الذي وصفته أغنيات عبدالحليم «عدو الاشتراكية، خاين المسؤولية» وكان التيار الثوري الصاعد، على المستوى القومي، في أبهى حالاته، يأتينا كل عام بانتصار جديد على امتداد آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية أما مسمى العالم العربي فقد استبدل به «الوطن العربي» الذي غمرته الأحلام القومية عن الحرية والوحدة والاشتراكية، وأخذت انتصاراته تتوالى منذ انتصار الثورة الجزائرية في يوليو 1962 وقيام الجمهورية الجزائرية 1963 بزعامة بن بيلا، وانتصرت الحركة القومية بزعامة عبدالسلام عارف، وتأسست منظمة الوحدة الإفريقية في أديس أبابا بدعم عبدالناصر سنة 1963، العام نفسه الذي انتصرت فيه حركة الماو ماو، وتحررت كينيا بزعامة جوموكينياتا، وجاء عام 1964 ليشهد في أوله (يناير) أول مؤتمر قمة عربي ينعقد في القاهرة، ويزيح فيصل بن عبدالعزيز أخاه سعود الذي موّل أكثر من محاولة لاغتيال عبدالناصر، وقبلها بشهر وقّع عبدالناصر الاتفاق المصري العراقي على إقامة قيادة سياسية موحدة، تحقق الوحدة الدستورية، ويوقع رئيس الجمهورية اللبناني شارل حلو اتفاق القاهرة مع المقاومة الفلسطينية التي بدأ صوتها يعلو في يناير 1965 معلنة انطلاق حركة التحرير الوطني (فتح)، وفي نوفمبر 1966 يتم توقيع التحالف الدفاعي المصري السوري وقد شاهدت حفل التوقيع في التلفزيون المصري الذي «وُلِد عملاقا» كما قيل لنا، وأصبح هو النافذة التي نشاهد منها العالم الذي أخذ يتطلع إلى مصر، وذلك بالقدر الذي كنا نفخر فيه بقيادة المدّ القومي العظيم.

العالم ثائراً

          ولم نكن بعيدين في الوقت نفسه عن حركات التحرر الوطني في كل مكان، فعرفنا أسماء كاسترو، وافتخرنا بأعمال إرنستوتشي جيفارا، وعرفنا الثورة الثقافية في الصين، ولم نر منها سوى وجه واحد، فقد كانت آذاننا صماء عن شعار دع مائة زهرة تتفتح، وما أكثر ما شاهدنا من أفلام سوفييتية، وذهبنا إلى المركز الثقافي السوفييتي، واستمتعنا بالطبعات زهيدة الثمن التي قرأناها بفضل مكتبة الشرق التي كانت مؤلفاتها مدخلنا إلى معرفة الشيوعية، تماما كما كانت سلسلة «الفكر الاشتراكي»، التي ترجم لها الكثير عبدالكريم أحمد الذي عرفني به أستاذي عبدالعزيز الأهواني، بعد أن قرأت أغلب الكتب التي ترجمها، وكان هو، بعد راشد البراوي، أكثر من قدم إلى العربية - تعريبا وتلخيصا - أهم المؤلفات الماركسية، ففتحا لنا الآفاق الواسعة للفكر الاشتراكي، مع أحمد فؤاد بلبع ومحمد مفيد الشوباشي وإسماعيل المهدوي ومحمد مستجير مصطفى وغيرهم.

          وفي ظني أن الفترة التي قضيتها في القاهرة بعد التخرج، وما أعقب التخرج من حصولي على منحة دراسية في معهد الدراسات العربية بالقاهرة، وتعييني معيدا في الجامعة، هي الفترة التي أخذت أقتحم فيها الأفق اليساري الذي فتحته لي الناصرية، خصوصا بعد أن انقلبت إلى اشتراكية عربية.

زهرة نجيب محفوظ.. الشوك والشك

          ولكن الإنجازات الناصرية الهائلة التي كنت أراها كالهالة على جبين عبدالناصر، والاستمرار الصاعد للعهد الذهبي منذ 1956 إلى سنة 1966، حيث السنوات التي شهدت أعظم الإنجازات الناصرية، كانت تدفعني إلى أن أصم أذني عن الأسئلة الاستنكارية، ولا أظن أنني قرأت شيئا زرع في داخلي بذرة شك قاومتها سوى كتابة نجيب محفوظ في نقد واقع ما بعد الثورة، وكان ينشرها في جريدة «الأهرام» بتشجيع من محمد حسنين هيكل صديق عبدالناصر، وكاتب «الميثاق» وأهم الخطب التاريخية لعبدالناصر، الذي ظل عظيما في وعيي إلى اليوم وأذكر أن بذرة الشك تحوّلت إلى شوكة صغيرة، تنخر ذهني منذ أن قرأت «ميرامار» في مطلع 1967، قبل أن تحدث الكارثة، حيث «زهرة» الفلاحة المتطلعة إلى المستقبل، كأنها فلاحة مختار في تمثال «نهضة مصر» الذي كنت أراه يوميا، في غدوّي ورواحي من الجامعة وكانت «زهرة» وردة يسعى إليها ممثلو الشرائح الاجتماعية المختلفة في البنسيون، ولا ينجح في خداعها سوى منصور باهي، الانتهازي، القيادي في الاتحاد الاشتراكي الذي تسلل إليه من لا يؤمنون بالاشتراكية، ولا بشعاراتها، وتنتهي الرواية بمقتل الممثل الانتهازي للاشتراكية، سرحان البحيري، ولم يفتني أن السرحان من أسماء الذئب، وضياع آمال «زهرة» التي لم تجد من يحنو عليها، والتي تكتشف أن سرحان البحيري لا يفترق عن الإقطاعي الجديد، حسني علام، ولا الإقطاعي القديم، طلبة مرزوق، ولا الماركسي المنكسر، منصور باهي، وأنه لم يحنُ عليها سوى عامر وجدي الوفدي القديم، الذي يقول لها: «مهما يكن من مرارة التجربة الماضية، فلن تغير مرارتها من طبيعة الأشياء، ستظل غايتك المنشودة هي العثور على ابن الحلال». وكانت هذه عبارات تومئ إلى كلام مسكوت عنه، وتنذر بأن هنالك شيئا خطأ، وأن الدودة في أصل الشجرة ويضيف عامر وجدي إلى ما قال همسة في أذن زهرة التي يحنو عليها، ولكنه لا يملك لها شيئا سوى الحنو والدعاء «ثقي من أن وقتك لم يضع سدى، فإن من يعرف من لا يصلحون له، فقد عرف بطريقة سحرية الصالح المنشود».

          وكنت أزن هذه الكلمات - النذير - وأرد عليها بعقلي إن الثورة التي حققت هذه الانتصارات قادرة على مراجعة نفسها، وتحقيق «الصالح المنشود» لزهرة ولنا، ولا أدل على ذلك مما حدث في جلسات الحوار الوطني التي صاحبت إعلان الميثاق وظللت على ما أنا عليه من إيمان بصعود ثورة ناصر التي أدخلتني الجامعة، وعلمتني بالمجان، وأعادت لي حقي المسلوب، فأصبحت معيدا في الجامعة التي لم أكف عن حبها والحلم بمستقبلها. ومضت الأيام، وانتهى العام الدراسي 1966، وكان المرحوم صبحي عبدالحكيم عميد الكلية، وقمت بإعداد محاضرات السنة الأولى، ووضعتها في شكل دراسة عن نجيب محفوظ متناولا مرحلته التاريخية والاجتماعية، وقام اتحاد الطلاب بطبعها لتوزيعها مجانا على الطلاب وأخذ أساتذة الكلية ينظرون إليّ بعين التقدير، وانتهى عام 1966، وجاء بعده عام 1967، وقد فرغت من السنة التمهيدية.

غيوم مايو

          ومرت أشهر السنة التي لن تمحى من ذاكرة جيلي، وارتفعت سحب قاتمة من الغيوم في النصف الأول من مايو 1967، وقيل إن هناك خطة من العدو الإسرائيلي لغزو سورية، وظهرت الأدلة المتوافرة على هذا التحدي الخطر، وكان على القيادة الناصرية أن تتخذ موقفا فاعلا وحاسما إزاء ذلك، خصوصا بعد أن ارتبطت بسورية بمعاهدة دفاع مشترك وتحولت القوات المسلحة إلى حدودنا مع إسرائيل، وبدا كما لو أن مصر الناصرية لن تترك إسرائيل هذه المرة، فانسحبت قوات الطوارئ الدولية التي كانت موجودة بعد انتهاء العدوان الثلاثي، على الحدود بيننا وإسرائيل، وسيطرت القوات المصرية على مواقع شرم الشيخ المحكمة في مضيق تيران وكان العدو الإسرائيلي يستخدمها منذ حرب 1956، وأصبحنا ندرك أن الحرب واقعة لا محالة. وقيل إن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي طلبا من عبدالناصر أن لا يبدأ الحرب وقبل عبدالناصر الذي وقع في الفخ، أو الذي ظن أن جيشه قادر على رد الضربة الأولى بضربة قاضية وأصبحنا نعيش في حال من التوتر الدائم.

يونيو بلا يقين

          كنا نحن معيدي كلية الآداب من الشباب نسهر كل يوم إلى الصباح في قاعة مجلس الكلية نتابع أخبار الحرب في لهفة، ونسمع يوميا عن عشرات الطائرات الإسرائيلية التي تتساقط كالذباب، وصوت أحمد سعيد وهو يهدر يوميا من صوت العرب، وأصوات النصر الآتي لا ريب فيها ولا شك. وكان عبدالمحسن بدر، يدندن في الأيام التي نراه فيها أغنية الأبنودي التي غناها عبدالحليم بلحن كمال الطويل:

«ابنك يقولك يا بطل هاتلي نهار
«ابنك يقولك يا بطل هاتلي انتصار
ابنك يقول أنا حواليه الميت مليون العربية
ولا فيش مكان للأمريكان بين الديار».

          وكنا نردد معه الأغنية في داخلنا، واللهفة كالحماسة ملء جوانحنا، وظللنا أياما على هذه الحال، لكن شيئا من الشك أخذ يتسرب في نفسي من تكاثر عدد تساقط الطائرات الإسرائيلية؟ وقلت لصديقي إبراهيم شتا، رحمه الله، سائلا لكن يا أبا خليل كم عدد الطائرات التي تملكها إسرائيل؟ لقد سقط من عندها المئات العديدة فماذا تبقى لها؟ لكن إبراهيم سليم الطوية أجابني ساخرا كعادته يا عبيط، إسرائيل وراءها أمريكا تزودها بآلاف الطائرات وكان ذلك في صباح اليوم السابع من يونيو، وعندما جاء المساء، وخلت الكلية إلا منا نحن المعيدين، نجح واحد منا في التقاط صوت الإذاعة البريطانية، فأخذنا نسمع من بين أصوات التشويش، أن الطائرات المصرية قد ضُرِبت على الأرض، وأن جيشنا انسحب انسحابا مرتجلا من سيناء، وأن الطائرات الإسرائيلية حصدت الجنود المنسحبين بلا حماية، وأنها أسرت المئات من الجنود المصريين ولكننا لم نصدق كلمة واحدة مما سمعنا، فقد كانت إذاعتنا المصرية تؤكد العكس، ولا تكف عن إذاعة الأناشيد الحماسية، وصوت أحمد سعيد يهدر كالمعتاد، ولكن اليقين الفرح الذي كنا عليه أخذ يتزعزع، خصوصا مع الإلحاح على حجم الطائرات الإسرائيلية المتساقطة وجاء صباح الثامن من يونيو متثاقلا، وبدا أن هناك شيئا قد حدث، أو يحدث، لا ينذر بالخير، وأقبل التاسع من يونيو بعشرات الهواجس، خصوصا بعد أن تلقينا تعليمات بالاجتماع في قاعة الاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة.

          وذهبنا إلى القاعة، فوجدنا منضدة فوقها جهاز تلفزيون كبير الحجم، وقيل لنا إن الرئيس عبدالناصر سوف يوجّه بيانا مهما للأمة وكانت جهامة وجوه المشرفين تنذر بأن كارثة حدثت، وسمعنا همهمات من بعض زملائنا المعيدين المجاورين لنا بأننا هُزمنا في الحرب، وأن بيان عبدالناصر سيكون حول الكارثة التي كانت قد حدثت بالفعل، وتركت جراحا لا تزال غائرة في وجدان ووعي أبناء جيلي.

          شاهدنا صورة عبدالناصر على شاشة التلفزيون، ونحن جلوس في قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، ومنذ أن لمحنا وجهه الحزين، وصوته المليء بالانكسار، والجمل الأولى التي اخترقت قلوبنا كالطلقات القاتلة، بعد جملته المعتادة أيها الإخوة:

          «لقد تعودنا معا في أوقات النصر وفي أوقات المحنة، في الساعات الحلوة وفي الساعات المرة، أن نجلس معا، وأن نتحدث بقلوب مفتوحة، وأن نتصارح بالحقائق مؤمنين بأنه من هذا الطريق وحده، نستطيع دائما أن نجد اتجاهنا السليم مهما كانت الظروف عصيبة، ومهما كان الضوء خافتا ولا نستطيع أن نخفي على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة خلال الأيام الأخيرة».

          هكذا أدركنا أننا خسرنا الحرب، ورأينا في ملامح الرجل الذي قاد أحلامنا وآمالنا، وجعلها قريبة من أصابعنا التي كادت تمسك بها، أن كل شيء ضاع، وأن الهزيمة حلَّت كالألم المرّ، كالتيه، كالحلم الذي انقلب إلى كابوس. لا أظن أني استوعبت تفاصيل ما قال بعد ذلك، وماذا يهمني فيما إذا كنا توقعنا العدو من الشرق والشمال فجاء من الغرب، أو أن تسهيلاته تفوق مقدرته، وتتعدى المحسوب من قوته، وأن الولايات المتحدة فتحت خزائن أسلحتها على مصراعيها لتمنحه ما يريد وما لا يريد، المهم أن كل مطاراتنا قد ضربت في وقت واحد، وأن طائراتنا احترقت على الأرض، وليذهب التواطؤ الاستعماري إلى الجحيم.

جامدون مخدرون مذهولون ومصعوقون

          ولم أفق من هذه الخواطر السوداء إلا على صوت عبدالناصر الذي يقول: «لقد قررت أن أتنحى تماما ونهائيا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر». هكذا يا جمال؟ تلقي بنا في أتون الهزيمة وتتركنا وحدنا؟ كن رجلا حتى النهاية، وابق إلى أن تمحو آثار العار الذي تسببت فيه، وهو جريمتك التي ليس مسئولا عنها، أمامنا، سواك، فأنت الذي منحناك ثقتنا، وفوضناك في كل شيء، وبعد أن تقودنا إلى الكارثة تتخلى عنا، اللعنة، لن نتركك إلا بعد أن تمحو ما صنعت يداك وليذهب صديقك وأخوك زكريا محيي الدين إلى الجحيم، فلن نقبل به رئيسا للجمهورية كما تقول، ولن نقبل تطبيق المادة 110 من الدستور المؤقت الصادر في شهر مارس سنة 1964، فلا رئيس لنا غيرك إلا بعد أن تعبر بنا المحنة، ولا ثورة بدونك، فلولاك ما خرج الاستعمار، ولا تحقق استقلال مصر، ولا أخذت شخصيتها العربية في الصعود، ولولاك ما استرددنا قناة السويس ولا أقمنا السد العالي، وأنت تتحدث عن ساعة للعمل وليس ساعة للحزن، إذن فاعمل معنا، تسمرنا في كراسينا، جامدين، مخدرين، مذهولين، مصعوقين، فلم يرفع واحد منا يده بالتصفيق، فقد تسمرت أيدينا بمساند المقاعد كأننا نهوي إلى قاع مظلم.

          ولا أعرف كيف قضينا ليلة التاسع من يونيو، كل ما أذكره أن الدكتور صبحي عبدالحكيم، رحمه الله، طلب منا أن نهاتف أساتذة كلية الآداب ليأتوا إلى الكلية لكي يجتمعوا ويطالبوا برفض استقالة عبدالناصر، ورفض كثير من الأساتذة الحضور، فألغيت الفكرة، وأذكر المكالمة التي هاتفت فيها أستاذي مصطفى سويف، متعه الله بالعافية، فحاول الرجل إقناعي بالمنطق بأن هذا الطلب لا معنى له، خصوصا مع احتمال إمكان قيام إسرائيل بالغارة على مدينة القاهرة التي كانت سماؤها مفتوحة أمام العدو المنتشي بانتصاره، وامتلأت شوارع القاهرة بالجماهير الصارخة التي أحاطت ببيت عبدالناصر وسدّت الشوارع المؤدية إليه، صارخة لا تتنحَّ.

ليلة القبر

          وظللنا نتجول في أنحاء القاهرة، مليئين بالحماسة والأمل في أن يستجيب عبدالناصر لرغبة الجماهير، ونسينا موعد الغداء، فمن الذي كان يمكن أن يشغله الجوع عن الرسالة النبيلة التي نذرنا أنفسنا للقيام بها في ذلك اليوم، وظللنا ننتقل من حي إلى حي في القاهرة الواسعة، مركزين على الأحياء الشعبية، فهي الأحياء التي آمن عبدالناصر بها وآمنت به، إلى أن وصلنا إلى حي الخليفة الواقع تحت سفح المقطم، قرب جامع السلطان حسن.

          وعندما أصبحنا في أحد ميادين الحي القريبة من قسم الخليفة، وجدت جمعا من جنود الشرطة يقطعون الطريق علينا، وينزلون الطلاب أولا من خلف العربة، ويصادرون ما بأيديهم من منشورات، ثم يطلبون مني أن أنزل من السيارة لأذهب معهم بلا نقاش، فهذه هي الأوامر، ولا يعنيهم أن أكون معيدا في كلية الآداب أو حتى عميدا، فالمهم أن نمثل جميعا أمام حضرة الضابط في قسم الخليفة. وذهبت بصحبة الطلاب الذين طمأنتهم، فنحن نقوم بعمل وطني في نهاية الأمر، وسرنا محاطين بجنود الشرطة إلى قسم الخليفة، والناس يتطلعون إلينا في فضول، فلم نكن نشبه اللصوص، ونبدو أولاد ناس، ولذلك لم أستغرب تعليق بعض الباعة الجائلين: «يبدو عليهم أنهم بتوع سياسة». وعندما وصلنا إلى حجرة الضابط، وعرفنا، أمر بوضع الطلاب في التخشيبة، وسمح لي أن أجلس على كرسي في مواجهة مكتبه وأخذ وقته في قراءة المنشورات التي حسب أنها معكرة للأمن العام، ولكن وجهه كشف عن حيرته بعد القراءة، وفهم ما تحمله المنشورات وقال للجندي باسما، بعد أن رحب بي «أحضر شاي للأفندية» وذهب الجندي لإحضار الشاي، فقال لي الضابط الشاب - الذي يكبرني قليلا فيما بدا لي - لا أعرف ماذا أفعل بك، حرفيا أنتم تعكرون الأمن العام، وتخلون بالانضباط الأمني، وينبغي أن أعاملكم على هذا الأساس، من ناحية أخرى أفهم حماسكم، لكني ليس عندي تعليمات للسماح بما تفعلون، ولم أفكر طويلا، فقد طلبت منه استخدام التلفون الموجود على مكتبه وبالفعل، اتصلت بالدكتور صبحي عبدالحكيم، عميد الكلية الذي اتصل بأحد كبار القيادات الأمنية فيما يبدو، وبعد ما يقرب من ربع الساعة، رن جرس تلفون ضابط القسم، ولم أسمع سوى صوته يردد مفهوم يا فندم، حاضر يا فندم.

          وبعد تنهيدة قصيرة، توجه لي الضابط بالكلام، وقال لي أنا متأسف إذا كانت العساكر عاملتكم بخشونة، وتوجه بالكلام للطلاب المحبوسين في التخشيبة قائلا: «معلهش يا شباب، تعيشوا وتاخدوا غيرها، واحنا علينا إكرامكم بالغداء»، فرددنا عليه في صوت واحد شكرا، فقد كان خروجنا إلى الهواء الطلق أكثر أهمية من الحبس في حجرته، حتى مع الشاي والمعاملة الحسنة.

          وعندما ذهبت إلى الكلية في الصباح، عرفت أن حشود المظاهرات التي أعدها الاتحاد الاشتراكي سدّت طرقات وشوراع منطقة العباسية، وظلت حتى الصباح، وبلغني بعد ذلك أن عبدالناصر استجاب إلى مطلب الجماهير، وأعلن تراجعه عن الاستقالة. والغريب أني لم أشعر بالفرح، فقد كان السؤال الأهم: وماذا بعد؟.

 

 

جابر عصفور