الفأس والألفباء

 الفأس والألفباء
        

          حَنِقَ بعد أن برقت عيناه واحمرّتا وكثرت التجاعيد في وجهه، وأخذت أذناه تهتزّان، وشعر رأسه يتماوج. لماذا؟ السّبب أني أعطيت ابنه الدرس الأول في اللغة العريبة مبتدئًا بتعليم الألفباء، وهذا طبيعي، أليس كذلك؟ أرى هذا طبيعيا أن يبتدئ الإنسان بدرس الألفباء، أي ألفباء كانت.. ترى هل ألفباء مذكّر أم مؤنث؟ هل يقال ألفباء (التي) أو الألفباء (الذي)؟ سأبحث عن هذا قريبا.

          أبو الولد، رأيته يأخذ فأسًا كان يزيّن به حائط الغرفة حيث كنت في منزله، ونظر إليّ نظرة، يا لطيف.. ما شعرت عندئذ سوى أن رجليّ قد صارتا جناحين، طرت.. خوفا، أنا لا أحب الفأس، إذا كان مسلّطا عليّ، كما أني لا أحبّه وإن بقي معلقا على الحائط، ركضت بل طرت, وراح هو يركض ورائي مولولًا حاملاً فأسه، يريد كما أعتقد قتلي.. السبب أني ابتدأت بتعليم ابنه الأحرف العربية كما يلي:

          أ= أنا. ب= باب. ت= تحت. ث= ثوب. ج= جميل. ح= حيث. خ=خان. د= داخله. ذ= ذوبا. ر= رقيقا. ز= زائدا. س= سائحا. ش= شاردا. ص= صامتا. ض= ضائعا. ط= طالبا. ظ= ظهور. ع= عين. غ= غريبة. ف= في. ق= قلب. ك= كل. ل= لمعة. م= من. ن= نهد. هـ= هو. و= وراء. لا= لاهث. ي= يموت.

          هذا كان الدرس الأول، أنارأيته درسًا جيدا لفتى فتي. وأكملت الدرس بوصل الكلمات التي طلعت من الأحرف، وسُرّ الفتى بالجمل وراح يرددها مسرورا وأنا أنظر إليه مسرورا أيضا. دخل عندئذ الأب، وقرأ الجمل التي حولته حيوانا هائجا كما قلت، وقبل أن أكمل ما حدث، أريد أن أجمع يا سادة الكلمات التي تمثل كل الأحرف وهي كما يلي: أنا باب تحت ثوب جميل حيث خان داخله ذوبا رقيقا زائدا سائحا شاردا صامتا ضائعا طالبا ظهور عين غريبة في قلب كل لمعة من نهد هو وراء لاهث يموت.

          هذه هي الجملة المفيدة التي طلعتها من الألفباء، أين الضرر فيها؟ وهل هذا يجعل الأب يلحق بي حاملا فأسه ليقتلني وأنا مازلت راكضا هاربا وهو مازال راكضا ورائي؟ أنا لا أرى سببا وجيها لقتلي، حتى أني لا أرى أي سبب يجعلني صالحا للقتل. أنا لا أقتل ولا أريد أن أقتل هذا بديهي.

          مازلت أركض هاربا حتى وصلت إلى الحدود اللبنانية - الفلسطينية، جنوب لبنان، إلى منطقة يدعونها بوابة فاطمة، أما من هي فاطمة وأين الباب؟ هذا سؤال، المهم أني وصلت إلى الحدود ورأيت وراء الأسلاك الشائكة جنود العدو. قلت في نفسي هم.. لم أكمل الجملة بل قلت هؤلاء قتلة عندهم أو عندي سبب لقتلهم. ولكن ليس عندي سهم ولا فأس ولا خرطوشة وقد تعبت وأنا أركض من حي رأس النبع حتى هنا، هنا حدود فلسطين المحتلة، ونسيت والد الفتى الذي لقنت ابنه الألفباء لكنه لم ينسني هو، اقترب منّي مع فأسه وقد نال منه التعب كما نال مني، نظر إليّ نظرة لم أفهم معناها حتى أني لم أكترث له ولا لنظرته المبهمة، وكان وجهي عندئذ يحمل تعابير الغضب.

          هو رأى هذا، كما أعتقد، عندها قلت له ما قولك؟ وأجاب بماذا؟ قلت بالهجوم. قال مستعد ولكن، قلت: ألست جائعا؟ قال أنا جائع، قلت له أنا أيضا جائع، جلسنا بعيدا عن الأسلاك الشائكة تحت شجرة ليمون ورحنا نقطف ليمونة بعد ليمونة ونأكل، وقال: ماذا نفعل الآن، نهاجم أنا وأنت بالفأس، قلت لنذهب إلى البلدان الشقيقة لتمدّنا بالسلاح والرجال والنساء ونعود لنهاجم، قال جيد، سرنا إلى أن وصلنا إلى أقرب بلد شقيق، ثم إلى بلد شقيق آخر ثم إلى ثالث حتى أنهينا زياراتنا إلى كل البلدان الشقيقة.

          وأتينا بسلاح ورجال ونساء كثيرين، البلاد العربية فيها مليار عربي، يا ولد، تقدمنا من الأسلاك الشائكة، عندما رأى جنود العدو أننا مدججون بالسلاح وأن عددنا بالملايين، راح يركض هاربا وكان بعضهم يقول ويصرخ: شالوم! شالوم! وكان بعضنا يجيبها: يلعن أبوك عكروت اي ابن الشـ...الشالوم! ودخلنا إلى فلسطين المحتلة. سرنا بهدوء وبنظام نحن الملايين حاملين الأعلام والبيارق والشعارات ويافطة كبيرة تطلب من المحاربين الفلسطينيين أن يبحث كل واحد منهم عن مدينته أو قريته أو حيّه، ليبقى فيه مودّعا ماضيه كلاجئ.

          هكذا كان، لكن حادثا وقع ونحن في هذا الجو، جو الانتصار وعودة الأهالي الأصليين إلى وطنهم الأم، والأب أيضا. الحادث هو أن طلقات رشاشة أطلقت من مكان ما صوبنا، وصوبي أنا شخصيَّا. نظرت الملايين باتجاه المكان حيث أطلق النار، ثم أشاروا إلى بناء يرفرف عليه علم العدو، نظرت بالمنظار فرأيته، هو ذاته الجنرال الذي دخل بيروت عام 1982 والذي يبحث عنّي في بيوت رأس النبع إلى أن وقع نظره عليّ، لكني كنت أسرع منه، أصبته بعينه وصار بعين واحدة، تسللت إلى المبنى حيث كان، دخلت على رءوس أصابع رجليّ، لمحته يفرّ من مكانه ويصعد إلىالسطوح، تبعته راكضا، مسرعا أكثر منه، حتى أمسكت به وبصقت في وجهه قائلا له: المرة الأولى التقيت بك عام 82 في شارع الحمراء في بيروت، أجابني: لا في كورنيش المزرعة، قلت طيّب، قل لي كم لبنانيًا قتلت وكم فلسطينيّا؟ لم يجب. قرّبت مسدّسي من عينه السليمة، عندئذ قال: لا أعلم، لا أستطيع تعدادهم! قلت له در.. در بسرعة أعطاني ظهره، جرّدته من بعض ثيابه ورفسته بقدمي على مؤخرته وراح يركض هاربًا، لوّحت للملايين من على السطح وعلا هتافهم.

          تابعنا توغلنا في فلسطين المحررة حتى وصلنا إلى القدس، وكانت أجراس الكنائس تهلل لنا ومن المآذن أصوات تكبّر وتؤهل بالأبطال. في هذا الوقت كان والد الفتى بقربي، قبّلني وفأسه بيده قائلا: لولا ألفباؤك لما تحرّرت فلسطين. أجبته ضاحكا: ألفبائي وفأسك.

 

 

أمين الباشا