آريان.. قصة مترجمة

آريان.. قصة مترجمة
        

          على شاطئ النهر الجاف، توجد مدينة H.L.M ، هي مدينة حقيقية في حد ذاتها، بها عشرات البنايات، والأراضي الصخرية العالية على الشاطئ، القائمة في الساحات الأسفلتية، وفي كل مكان تلال حجرية، وطرق وجسور، مع مجرى النهر من الحصى المترب، ومصنع حرق الجثث الذي تتطاير أدخنته النفاذة الثقيلة فوق الوادي. نحن هنا بعيدون عن البحر، بعيدون عن المدينة الكبرى، بعيدون عن الحرية، بل بعيدون عن الهواء، بسبب أدخنة مصنع حرق الجثث، وبعيدون عن الناس، لأنها مدينة تشبه مدينة كبيرة خالية. فلربما لا يوجد بها أحد في الواقع، في هذه البنايات الكبيرة الرمادية ذات الآلاف من النوافذ المربعة، لا أحد في آبار السلالم هذه، في هذه المصاعد، ولا أحد كذلك في مواقف السيارات هذه التي بها السيارات واقفة - لربما هذه النوافذ وهذه الأبواب مسدودة مطموسة، ولا أحد يستطيع أن يخرج من هذه الجدران، من هذه الشقق، من هذه الكهوف - ولكن الذين يروحون ويجيئون بين الجدران العالية الرمادية، من رجال ونساء وأطفال وكلاب أحياناً، أشبه بالأشباح التي لا ظل لها، ولا يمكن الإمساك بها ولا العثور عليها، هؤلاء الناس ذوو العيون الفارغة، الضائعون في الفضاء الذي لا حرارة فيه، ولا يستطيعون أن يتلاقوا بالمرة، أن يتقابلوا بالمرة، كأنهم بلا أسماء حقيقية.

          من آن لآخر، يمر طيف، يمرق بين الجدران البيضاء. أحياناً نرى السماء بالرغم من الغيوم، بالرغم من الدخان الكثيف الذي يخرج من مدخنة مصنع حرق الموتى في الغرب. كما نرى أيضاً طائرات تفر من السحب، وترسم خلف أجنحتها اللامعة خيوطاً طويلة قطنية.

          تقول الأسطورة إن آريان هي ابنة مينوس ملك كريت. ساعدت البطل تيزيه في التغلب على المينوتور وهو الحيوان الخرافي، ثم هجرها تيزيه (قاموس الأعلام) لا توجد طيور هنا، ولا جراد. أحياناً توجد دعسوقة ضلت طريقها في مواقف السيارات الأسمنتية الكبيرة. تمشي على الأرض, ثم تحاول أن تفر فتطير بصعوبة إلى أحواض الزهور المليئة بالطين حيث يوجد الغرنوقي المحروق.

          أحياناً يوجد أطفال، واقفون أمام أبواب البنايات. وقد ألقوا بحقائبهم على الأرض، يلعبون، ويصرخون، ويتعاركون، لكن هذا لا يستمر طويلاً. فهم يعودون إلى الزنزانات بين الجدران، ونسمع أصوات التلفازات تدمدم وتغني. أو حينما يهبط الليل نسمع فجأة ضجيج العجلات البخارية، فتنطلق المجموعة بكل سرعة في خطوط متعرجة عبر مواقف السيارات، وتدور حول الأعمدة الكهربية حيث مراكز الانطلاق والوصول. عشر عجلات أو ربما عشرون، ويرتدي جميع الأولاد الأقنعة والقمصان السوداء والخوذات البرتقالية أو المتعددة الألوان. وينعكس ضجيج مركباتهم على الجدران الأسمنتية، ويدوي في الممـرات، وفي السراديب، ويجعل الكلاب تنبح أحياناً. ثم ينطلقون دفعة واحدة ونسمع ضجيج عجلاتهم يخفت وينقطع بين جدران أخرى، في جوف ممرات ضيقة أخرى.

          أحياناً يذهبون وراء مصنع حرق الموتى، نحو أعلى وادي آريان، أو يصعدون الطرق التي تفضي إلى المقبرة. ضجيج غريب كضجيج قطيع من الحيوانات المفترسة تصرخ وتزأر في الليل وتحدث أصداء في جوف الخرائب المظلمة. ضجيج يثير الخوف لأنه يأتي من كل مكان في وقت واحد، غير مفهوم، خارق للعادة وللطبيعة.

          في الليل، يهب الهواء البارد على البنايات وعلى مواقف السيارات، وعلى المرتفعات الحجرية. السماء سوداء، بلا نجوم، بلا قمر. مع النور الباهر الذي يصدر عن الأعمدة الحديدية الضخمة، النور الذي ينعكس على الأسفلت. وفي النهار ينعكس ضوء الشمس على الجدران الأسمنتية اللون، وهو حبيس سحب كثيفة، والصمت الذي هو بداخل هذا الضوء لا نهاية له. هناك أنوار، وهناك ظلال. هناك مرور للسيارات على الطريق الكبير الذي يحاذي النهر، وأسفل على الطريق السريع. محركات السيارات تنطلق وتزأر بلا انقطاع بين المرتفعات. شاحنات الأسمنت، وشاحنات الأخشاب، والبنزين، والطوب، شاحنات اللحوم واللبن. السيارات تتجه نحو الأسواق والمحلات الكبرى، أو تعود منها، عمياء، كأن أحداً لا يقودها في الواقع.

          اليوم الاثنين الموافق لعيد الفصح. مدينة H.L.M الكبرى أكثر فراغاً، أكثر اتساعاً. السماء رمادية، وريح باردة تهب بمحاذاة النهر الجاف، وتصعد بين جدران السدود، بين مرتفعات البنايات. ونور السحب الأبيض يلمع على النوافذ، حتى الطابق السادس عشر، ويصدر أنواعاً من البرق تتحرك، أنواعاً من الأشعة. وثمة ظلال شاحبة تتحرك في مواقف السيارات الخالية.

          الناس لا وجود لهم هنا اليوم. اختفوا. لا يوجد سوى هياكل السيارات والمنازل، أشبه بسيارات المقابر الكبرى، هناك على مرتفع النهر. هذا يوم لها، يوم لهياكل السيارات المهجورة، بلا محركات، بلا عجل، بكشافات محطمة، وزجاج مكسر، وكابوتات مفتوحة تظهر الفراغ الأسود الذي انتزع منه ما بداخلها.

          في الشوارع الخالية، يوجد بعض الأطفال الذين يركضون وراء كرة لونها أبيض في أسود. ويوجد بعض النساء متوقفات على حافة الطوار، يتبادلن الحديث. وأحياناً هناك موسيقى. تخرج من نافذة كبيرة مفتوحة بالرغم من الريح الباردة: موسيقى ثقيلة؛ ذات نغمات بطيئة، يصاحبها صوت غريب حاد يغني وهو يرتجف دون توقف، وأيادي الناس تصفق على الإيقاع. لمن يغني هذا الصوت - الصمت، وراء ذلك، كبير، طويل. الصمت يأتي من الجبال الملساء، التي يختفي انحناؤها في السحب، الصمت يأتي من الطرق، من مجرى النهر الجاف، ومن الناحية الأخرى، بعيداً، من الطريق السريع فوق قواعده العملاقة. إنه صمت حاد، وبارد، صمت له صرير من التراب والأسمنت، كثيف كالدخان الأسود الذي يخرج من مداخن مصنع حرق الجثث. إنه صمت من هناك، من ضجيج المحركات. في أعلى التلال، من جهة المقبرة، يعيش هذا الصمت، ممزوجاً برائحة الدخان النفاذة التي تصدر عن مصنع حرق الجثث، ثم يهبط متثاقلاً على قاع الوادي، على مواقف السيارات، ويمتد حتى قاع الكهوف بلا نور.

          هنا تمشي كريستين بمحاذاة العمارات العالية، دون أن تنظر، دون أن تتوقف. طويلة، رشيقة، وبخاصة مع الجنز القطيفة الأسود الذي ترتديه، والبوت القصير ذي الكعبين العاليين جداً. ترتدي كذلك سترة بلاستيك بيضاء على قميص مخطط أحمر في أبيض. شعرها الطويل مربوط ذيل حصان مع بوكلات مذهبة تضغط على حلمتي الأذنين. الريح الباردة تكنس الشارع الذي لا ينتهي آتية من البحر من الجهة الأخرى للتلال، وتصعد وادي النهر مثيرة الغبار. ثم هي ريح شتاء، وكريستين تنضغط في سترتها البلاستيكية، وتقفل الياقة بيدها اليمنى، فيما تدس يدها اليسرى في جيب البنطلون الخلفي على مؤخرتها.

          الصمت يسود بحيث إنها لتسمع ضوضاء كعبيها ترن في بلاط مواقف السيارات، وجميع جدران العمارات الكبيرة، بل وحتى قاع الكهوف. ولكن لعل البرد هو الذي يجعلها لا تسمع شيئاً آخر. الكعبان يرتطمان بأسمنت الطوار فتحدثان ضوضاء معدنية حادة، لحوحة تدوي دوياً عالياً في داخل جسمها وفي رأسها.

          وفيما هي تمشي تحاول أن ترى نفسها في زجاج السيارات المتوقفة، أو في المرايا القلابة في خلف الشاحنات الكبيرة. تحاول أن ترى نفسها، بشيء من القلق وهي تميل قليلاً برأسها وتخفض عينيها. في المرايا الصغيرة، المحدبة كما في وسط الغيوم الزرقاء، ترى صورتها سوداء وبيضاء تتقدم وكأنها ترقص وساقاها طويلتان وذراعاها طويلتان ووجه صغير يلفه شعرها الذهبي. ثم يكبر الوجه ويتضخم حتى يتشوه قليلاً، فيطول الأنف، وتسود العينان وتتباعدان كعيني سمكة، وفم يبتسم يكشف عن أسنان بيضاء ناصعة. فيما مضى كانت كريستين تضحك أمام شكلها المشوه. لكنها الآن ومع القلق الشديد تحاول أن تستعيد وجهها الحقيقي، وجسمها الحقيقي من خلال الصورة المضحكة وهي تغمض عينيها حينما تجاوزت المرآة.

          لا تدري لماذا هي تحتاج إلى أن ترى نفسها إلى هذه الدرجة. هذا شيء يحز في داخلها ويكاد يؤلمها، وحينما تكون قد سارت طويلاً في الشارع دون أن ترى إلا صورتها الرمادية في المرآة، أو وجهها المشوه في مرايا السيارات العاكسة، تبحث عن مرآة حقيقية، أينما تكون، في مدخل عمارة، أو أمام صالون حلاقة. فتذهب إلى المرآة وتتوقف، وتطيل النظر، بشراهة، دون أن تتحرك، دون أن تتنفس تقريباً، وعيناها مثبتتان في عيني الأخرى، لدرجة الدوار.

          لا ترى الشمس بسبب السحب الرمادية، ولكن كريستين تشعر أن الوقت متأخر. والليل على وشك الهبوط الآن، ليس بسرعة، صاعداً حذو وادي النهر، مع الريح. لكن كريستين لا تريد أن تعود إلى البيت. ففي البيت. الشقة ذات الجدران الضيقة القذرة، ورائحة المطبخ الثقيلة المقرفة مع ضجيج جهاز التلفاز، وصياح الجيران وضوضاء الأواني، والضوضاء التي تدوي على السلالم الأسمنتية. وباب المصعد الذي يصر ويرتطم من طابق إلى طابق. كذلك تفكر كريستين في أبيها، أبيها الجالس أمام جهاز التلفاز بخديه اللذين لم يحسن حلقهما وشعره الأشعث؛ وتفكر في أختها الصغرى، ووجهها الشاحب وعينيها المحاطتين بهالة سوداء، ونظرتها الخبيثة لطفلة في العاشرة من عمرها. تفكر فيها بشدة لدرجة جعلتها تقطب ما بين حاجبيها وتهمهم ببعض الكلمات دون أن تدري ما هي بالضبط، أو من مثل «هيا!». وتفكر أيضاً في أمها بوجهها المتعب، وشعرها المصبوغ، وأطرافها وبطنها الثقيل، وصمتها الثقيل أيضاً، كأنما هناك أشياء كثيرة تراكمت أشبه بالدهون الضارة.

          الحقيقة أن كريستين لا تفكر حقيقة في كل ذلك، وإنما تمر عليه سريعاً، صور، وروائح، وأصوات تتدافع بقوة وسرعة لدرجة غيّبت مشهد مواقف السيارات والجدران ذات الثلاثمائة نافذة متماثلة. حينئذ تتوقف وتغلق عينيها أمام هذا البلد شديد البياض، هذا البساط من الملح، من الجليد.

          وتهب عليها الريح الباردة من جديد. أمامها، أسفل العمارة العملاقة، يوجد مقهى ميلك بار. هنا تحب كريستين أن تأتي لتمضية الوقت حينما تخرج من المدرسة وقبل أن تعود إلى البيت الضيق وأبيها وأمها الصامتة ونظرة أختها الماكرة. تصعد السلالم وهي تشعر بالبهجة وتدفع الباب الزجاجي وتشم الرائحة التي تحبها، رائحة الفانيليا، والقهوة والسجائر. اليوم لا يوجد أحد في الميلك بار. لقد ذهب الجميع إلى المدينة الكبرى للنزهة على شاطئ البحر، أو إلى الجبل بالدراجات البخارية. لا يوجد سوى صاحب الميلك بار وهو رجل ثخين بنظارة، جالـس خلف منضدته يقرأ الصحيفة. مائل على الصحيفة يقرأ كل سطر بكل اهتمام لدرجة أنه لا يتنبه لوجود كريستين حينما تدخل وتجلس بجوار النافذة إلى طاولة من البلاستيك.

          ماذا يقرأ يا ترى بكل هذا الاهتمام - ولكن كريستين لا تفكر في ذلك، فسيان بالنسبة لها. هي تحب أن تجلس هنا ومرفقاها فوق الطاولة تتطلع إلى الخارج من خلال الزجاج.

          الآن، الليل على وشك الهبوط. ففي الشارع الخالي، تحت السماء الرمادية، يتقدم الظلام ببطء، ويستقر. من آن لآن يمر شخص على قدميه وينظر داخل الميلك بار ثم يستأنف طريقه. وتود كريستين أن تعرف الساعة لكنها لا تجرؤ أن تسأل صاحب المقهى الذي يواصل قراءة الصحيفة كلمـة كلمة كأنه لا يتمكن من فهم ما يقرأ.

          ثم مرت كاتي أمام الميلك بار، وعرفت كريستين ولوّحت لها ودخلت مندفعة إلى المقهى، وهي ترفع صوتها بحيث انتبه الرجل. كاتي أطول من كريستين وأضخم منها، وجهها مليء بالبقع الحمراء وشعرها أسود مجعد. هي أيضاً أكبر سناً من كريستين. ويبدو أنها في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمرها. ولكن يبدو أن كريستين مساوية لها في العمر بسبب ملابسها والكعب العالي وكذلك المساحيق. وينهض صاحب المقهى تاركاً منضدته ويقبل على الفتاتين قائلاً: «ماذا تشربان»؟ فقالت كاتي: «قهوة»، وقالت كريستين: «قهوة باللبن»، وظل الرجل ينظر إليهما في انتظار أن تقولا شيئاً آخر. ثم همهم قائلاً: «حسناً. ولكني سأغلق البار بعد عشر دقائق» هكذا هي كاتي دائماً: تتكلم أكثر من اللازم، وأسرع من اللازم وتأتي حركات أكثر من اللازم. وهذا يشبع كريستين قليلاً، وبخاصة أنها لم تأكل منذ الصباح، وأنها سارت طول النهار في الخارج في الشوارع الخالية والميادين، وعلى شاطئ البحر. كذلك فإن كاتي تغتاب الناس جميعاً، هي بالفعل لسان عقرب، وهذا يدير الرأس أشبه بآلة تدور بسرعة خارقة.

          من حسن الحظ أن الليل هبط في الخارج. وبالرغم من التحذير الذي أعلنه صاحب المقهى، فإنه لم يبد عليه أنه يريد أن يغلق المقهى حالاً. فهو لا يزال يقرأ صحيفته، ولكن بدرجة أقل من الاهتمام، وهو يرفع رأسه من آن لآخر لينظر إلى الفتاتين. وتلقي كريستين نظرة نحوه، فتفاجأ به ينظر إليها بعين لامعة. فتشعر بالخجل، وتدير رأسها بسرعة نحو زجاج الباب.

          وفجأة تقول لكاتي «هيا، نذهب! » وبلا انتظار، تضع ثمن القهوة باللبن فوق المنضدة البلاستيكية وتخرج. وتلحق بها كاتي أسفل السلم: «ماذا بك - تريدين العودة إلى البيت» فتقول كريستين: «لا، لا شيء».

          ولكنها الآن وهي في الخارج، تدرك أنها يجب أن تفكر من جديد في الشقة ذات الجدران القذرة، والتلفاز الذي يتحدث وحده، ووجه أبيها، وأمها المتعبة، ونظرة أختها. وقالت كاتي: «حسناً، سلام، أنا سأعود إلى البيت». وبدا عليها الضيق فجأة. وتود كريستين أن تستبقيها، فتشير لها وتقول: «اسمعي، هل ».

          ولكنها لا تدري ماذا تقول. الليل بارد، الريح تهب. وترفع ياقة سترتها الزرقاء، وتأتي بحركة بيدها وتنصرف وهي تجري. وتراها كريستين وهي تدخل العمارة المقابلة وتنير نور السلم. وتنتظر لحظة أمام أحد أبواب الطابق الأرضي. ثم يفتح الباب، ويغلق. اختفت كاتي.

          وتسير كريستين في الشارع بضع خطوات حتى زاوية موقف السيارات. تلوذ بأحد الجدران في منطقة مظلمة. برودة الليل تجعلها ترتعش، بعد حرارة المقهى المعطرة. السماء الرمادية أصبحت وردية منيرة من جهة المدينة الكبرى، مع وجود الخط القاتم الذي يعلو مداخن مصنع حرق الموتى. لا توجد ضوضاء، أي ضوضاء ذات معنى. كل ما هناك ضجيج السيارات المكتوم والشاحنات. هناك فوق جسر الطريق السريع، وضوضاء الرجال والأطفال داخل الشقق أو الصوت الأخن الذي يصدر عن أجهزة التلفاز.

          لا تريد أن تدخل عند أهلها، ليس بعد. تريد أن تظل مكانها جامدة، مستندة بظهرها إلى الجدار البارد، تتطلع إلى الليل، إلى السماء الرمادية، إلى الجدران العالية البيضاء حيث مئات النوافذ المنيرة. والسيارات الجامدة في المواقف. تحت المصابيح، والشاحنات المتوقفة في الشارع، وأنوار المدينة الكبرى التي تضيء كنجوم كابية. تريد أن تسمع ضوضاء الحياة المختلطة داخل الشقق، تسمعها جميعاً مرة واحدة، وتشعر ببرودة الليل. وتمكث طويلاً على هذا النحو، جامدة لصق الجدار، حتى جمّد البرد ساقيها وذراعيها وكتفيها. نقاط الرطوبة تلمع فوق سترتها البلاستيكية البيضاء وفوق حذائها البوت.

          حينئذ تستأنف سيرها في الشوارع الخالية وهي تلف حول المجمعات السكنية. لا تعلم كثيراً إلى أين تذهب. أولاً نحو مبنى المدرسة، ثم تعبر حديقة الأطفال الصغيرة وهي تهبط الطريق، ثم تصعد الحارات حيث المنازل الخربة المهجورة في حدائقها الجرداء. تجعل الكلاب الصغيرة تنبح خلف القضبان الحديدية، وهناك قطط سـوداء تجري أمامها تحت السيارات المتوقفة.

          وحينما تصل المجمعات السكنية التي تشبه عمالقة واقفين وسط الأرض ومواقف السيارات، تشعر من جديد بنور المصابيح البارد الرطب فيقشعر جسمها.

          حينئذ يقبل ضجيج الدراجات البخارية نحوها بسرعة فائقة. تسمعه يفرقع بين العمارات دون أن تدري من أين يأتي بالضبط. أين تذهب - وتود كريستين أن تختبئ لأنها واقفة في منتصف الشارع الكبير ونور المصابيح ينيرها بطريقة فجة. فتأخذ في الجري نحو أقرب عمارة وتلصق ظهرها بالجدار في اللحظة التي تمر فيها مجموعة الدراجات بكل سرعة في الشارع. ستة أو سبعة عليهم أقنعتهم من الخوذات، يرتدون قمصاناً من الجلد الصناعي الأسود فوق دراجاتهم البخارية تريال المليئة بالوحل. تراهم كريستين يلفون عند المفترق وتسمع ضجيج الدراجات الذي يبتعد ويختفي.

          فجأة، تشعر بالخوف. لا تدري بالضبط مصدر الخوف، لكنه فيها، مثل القشعريرة، وأيضاً من حولها، في صمت الشوارع الخالية، والعمارات العملاقة ذات المئات بل الآلاف من النوافذ، في نور المصابيح البرتقالي، في الريح الباردة التي تصعد بطول الوادي حاملة الرائحة النفاذة الكريهة، رائحة الدخان وجلبة الطريق السريع. خوف غريب غير واضح، يطبق على حلق كريستين ويبلل بالعرق ظهرها وراحة يديها، بالرغم من البرد.

          تمشي بسرعة الآن؛ محاولة عدم التفكير في شيء. ومع ذلك وفجأة، تتذكر نظرة صاحب الميلك بار الحادة فيأخذ قلبها في الخفقان أسرع، كأنها لا تزال تشعر بهذه النظرة عليها، ترصدها في الظلام. لعله هنا، حقاً. وتذكر أنه كان على وشك أن يغلق المقهى، ونظر إليها بعد أن خرجت وكانت واقفة في الشارع.

          وفجأة، ومن جديد؛ جاءت الدراجات البخارية. في هذه المرة لم تسمعها وهي تأتي، فقد وصلت في اللحظة نفسها التي سمعت فيها ضجيجها. فلعلها وصلت ببطء وهي تلف وتتعرج داخل موقف السيارات متلصصة بين السيارات المتوقفة حتى تفاجئها.

          الآن كريستين تقف جامدة في موقف السيارات، تحت نور المصابيح الأصفر الذي يلمع فوق شعرها الأشقر، فوق سترتها البلاستيكية البيضاء وفوق حذائها البوت، فيما تدور الدراجات في بطء من حولها. أما راكبو الدراجات فوجوههم تحت قناع خوذاتهم، ولكن أحداً منهم لا يبدو أنه ينظر إليها، ولكنهم بكل بساطة يلفون حولها وهم يعطون دفعات لدواسة البنزين فيضغطون عليها في دفعات صغيرة تجعل الدراجات تندفع، ويحركون نور الكشافات والنور الأحمر. وكلما يدورون يضيقون حلقتهم على الفتاة، والآن يتحركون قريبين منها جـدّاً بحيث تستطيع أن تشعر بسخونة الهواء الخارج من الشكمانات. وتلزم كريستين مكانها جامدة وقلبها يخفق وساقاها خائرتان. وتتطلع من حولها نحو العمارات العالية، لكن الجدران عالية شاهقة، والنوافذ المنيرة كثيرة، وفي مواقف السيارات، السيارات المتوقفة كثيرة وهياكلها ملأى بالانعكاسات! الضجيج البطيء العميق الصادر عن الدراجات التي تدور يهز الأرض، يهز جسمها كله ويملأ رأسها. وتشعر بساقيها ترتعدان من تحتها ويستولي عليها نوع من الدوار. حينئذ، وفجأة، وفي صرخة عالية، تنطلق أمامها وتجري بكل ما تستطيع من سرعة عبر موقف السيارات.

          لكن الدراجات لا تزال وراءها، ثم تدور حول السيارات المتوقفة وتعود إليها وهي تعميها بكشافاتها وتضغط في دفعات على دواسات البنزين تجعل زئير الدراجات يدوي ويطن.

          لكن كريستين لا تتوقف، بل تجتاز أحد مواقف السيارات ثم تجري بحذاء الشوارع الكبرى وتحاذي جدران العمارات، وتعبر المساحات المغطاة بالحشيش الأجرد. تجري بكل سرعة بحيث إنها لم تعد تستطيع تقريباً أن تتنفس، وجعلت الريح الباردة تسيل دموعاً على خديها. ومن فرط ما جرت، لم تعد تعلم أين هي الآن، فهي لا ترى حولها، وعلى مدى البصر، سوى الجدران البيضاء العالية. جدران العمارات المتشابهة، ومئات بل وآلاف النوافذ المتشابهة، والمواقف بسياراتها المتوقفة، والشوارع التي تنيرها المصابيح البرتقالية، والخرائب المغطاة بالعشب القذر. بعد ذلك، وكما جاءت الدراجات البخارية، فقد اختفت. ومن جديد، عاد الصمت الثقيل والبرد والفراغ، يستولي على مدينة H.L.M. وتستطيع كريستين أن تسمع من جديد السيارات البعيدة بضجيجها وهي تدور هناك فوق الجسر الكبير الذي يعبر النهر.

          ترى أين هي! دون أن تدري كيف. ساقاها وهي تجري قادتاها حتى العمارة التي تسكن فيها. وترفع بصرها تبحث عن نوافذ الشقة حيث أبوها وأمها وشقيقتها الصغرى. منذ ستة أشهر وهي تسكن هنا. لكنها يجب أن تنظر طويلاً قبل أن تعرف النوافذ الثلاث التي يوجد بجوارها أوعية الجيرانرم. النافذتان الكبيرتان الخاصتان بالحجرة الكبيرة منيرتان، فأبوها يجلس فيها في الكرسي الخاص به، يشاهد التلفاز وهو يأكل. الآن، كريستين مرهقة، وهي سعيدة تقريباً لأنها تعود إلى الشقة الضيقة وتشم رائحة الطعام الثقيلة، وتسمع صوت التلفاز الزنان.تصعد درجات السلم، وتدفع باب دخول العمارة وتضع يدها على مفتاح نور السلم. هاهم في انتظارها، كلهم، بقمصانهم السوداء وخوذاتهم التي تلمع في نور السلم.

          لا تستطيع أن تصرخ. لأن شيئاً ما يسد حلقها. وساقاها لا تقويان على الحركة. واقتربوا. أحدهم وهو طويل يرتدي قميص طيار وخوذة برتقالية، يأخذها من ذراعها. فتحاول أن تخلص نفسها، وتفتح فمها وتهم بالصراخ. فيضربها بكل قوته بقبضته في بطنها حيث ينثني الجسم نصفين ويتوقف التنفس. ويسحبونها نحو الباب المجاور للمصعد ويهبطون السلم الأسمنتي الذي يرن. وتسمع ضوضاء التلفاز في الطابق الأرضي، وضجيج الأواني، وصياح الأطفال. تحت الأرض، النور الرمادي يأتي من مصباحين في منتصف مواسير المجاري. ويتقدمون بسرعة، يسحبون جسم كريستين، يكادون يحملونها. لا يقولون شيئاً. يفتحون باباً. فإذا بكهف، بالكاد أربعة أو خمسة أمتار مربعة من الأسمنت الرمادي، بعض الصناديق. وعلى الأرض مرتبة قديمة. يلقون بكريستين أرضاً. ويوقد أحدهم شمعة في عمق الكهف فوق طبق قديم. الكهف من الضيق بحيث يقفون ملتصقين. وفي الخارج، ينطفئ نور السلم ولم يعد هناك سوى نور الشمعة الذي يتراقص. وتسترد كريستين تنفسها. وتسيل دموعها فوق خديها فتلخبط الريميل والماكياج. وتصطك أسنانها. «اخلعي ملابسك».

          ويدوي صوت الشاب الطويل في الكهف، صوت حاد وأجش لا تعرفه كريستين. تسقط في قاع بئر متجمد وأسود،استمر ذلك طويلاً لدرجة أنها لم تعد تدري ماذا جرى.

          ثم، تهتز الشمعة أكثر قليلاً وتغرق في مادة الشمع. حينئذ يتوقف كل شيء. يسود الصمت، والبرودة من الشدة بحيث إن كريستين تتكور على نفسها فوق المرتبة، ثم يغشى عليها.

          حينما يعود النور الكهربي، ترى باب الكهف مفتوحاً وركاب الدراجات واقفين في الممر. تعرف أن كل شيء انتهى. فتنهض وترتدي ثيابها، وتخرج من الكهف يدفعونها أمامهم في السلم الأسمنتي. وفي المدخل، بقى كبيرهم وحده بخوذته وقميصه، قميص الطيار. وقبل أن ينصرف، يميل على كريستين ويحط يده فوق رقبتها. فتقول كريستين: «قذر!» ويرتعش صوتها من الغضب والخوف. لكنه يضغط بيده على كتفها.

          «لو تكلمت، سنقتلك» وتجلس كريستين في الخارج فوق درجات السلم. وتظل طويلاً في مكانها، بلا حراك، حتى تفقدها البرودة كل إحساس، وحتى تغطيها عتمة الليل، وتهدئ من ألم بطنها وجروح شفتيها. ثم تخرج إلى موقف السيارات وتبحث عن سيارة متوقفة بمرآة قلابة، وبكل هدوء، وبهمة طفلة صغيرة، تمسح الريميل من عينيها وتبسط صبغة خديها المزرقين.

------------------------------

رعيت الأوز وأطعمت بين يديك الحمام،
وما شاب قمحي زؤان
وأعرف ما كنت إلا الغلام القتيل،
وسياف نفسي أفردت جدا
فمن أين يأتي ائتمان
دخان،
دخان
يموت الندى كل يوم
ويذبل في حبه البيلسان
دخان على القلب هذا الدخان
دخان،
دخان.

محمد القيسي

 

 

تأليف: ج. م. ج. لوكليزيو
 ترجمة: د. حمادة إبراهيم