قصص على الهواء

قصص على الهواء
        

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
-------------------------------------------

          بداية أوجه النظر لأنني وضعت معايير نقدية تختص بكل عناصر القصص المقدمة ومنحت كل قصة درجة، وبناء عليها تم اختيار القصص الخمس الأولى الفائزة.

  • ساديزم أحمد عبد المنعم رمضان (مصر):

          قصة جيدة تم توظيف السرد والحوار فيها بشكل جيد أكد ارتباط عنوانها "ساديزم" بفكرة الابتهاج بالقسوة وتعذيب الآخر، وتمتعت بقدرات وصفية مميزة ولغة جيدة، إضافة الى نضج الرمز في إشارته لحركة الصراع داخل الطبقات في المجتمع.

  • القطار - السيد إبراهيم محمد (مصر):

          قصة فنية تعاملت مع شخصيتين رئيسيتين لإيمان القاص بقدرة القصة على طبيعة استيعاب الشخصيات في القصة، بلغة قصصية جميلة وتقنية تعاملت مع القص بشكل فني. وضحت فكرة البعد التراثي في الفكر التقليدي للعائلات في المجتمع.

  • رسالة - منذر غزالي (سورية):

          نجح كاتب القصة في وصف الحالة الشخصية الذكورية ضمن علاقته بالمرأة بتوظيف جيد لعنصر المكان، وبحوار مقتضب موظف فنيًّا، ولغة سلسة مرتبة وواضحة، وكشف أبعادًا اجتماعية عبر علاقة عاطفية بين مستويين ثقافيين مختلفين.

  • لماذا لم أنتحر؟ - عمران عز الدين أحمد (سورية):

          قدم علاقة رمزية بين الواقع المزري للراوي الذي يبدو كالمنتحر وبين عملية الانتحار نفسها بلغة موظفة جيدًا، ومناسبة للطابع العصري لأحداث القصة، مع توظيف الحوار بلا إقحام.

  • شاهد عدل - عبد الجواد خفاجي (العراق):

          بالرغم من مباشرة العنوان مع أحداث القصة فإن الكاتب استخدم تداخلاً مناسبًا بين الحوار والحدث بتوظيف ضمير المتكلم والغائب والمخاطب معًا بلغة فنية قصصية عبر الكثير من الجمل الجميلة الموحية بالخيال والفن القصصي.

----------------------------
ساديزم.. «لا يستطيع أحدٌ ركوب ظهرك.. إلا إذا كنتَ منحنيًا» مارتن لوثر كينج
أحمد عبد المنعم رمضان (مصر)

          استيقظ السيد محمد فجأة بعد نومة طويلة, وكلمة «السيد» المذكورة سلفا ما هى إلا لقب أو أداة تعريف لا علاقة لها بالواقع, فهو لا سيد ولا نيلة... هو عبد... ومهنته عبد... فهو يقوم صباحًا من على سريره المتهالك إن وجد, يغسل وجهه إن وجد الماء, يأكل الفول، إن زرع الفول, وبعض الخبز، إن استورد القمح... يفتح عينيه إن وجدت عيناه... غالبا لا يقوم بتغيير ملابسه إلا مع تغيير الفصول, كما أنه لا يشرب إلا أيام الفيضان ولا يأكل إلا فى موسم الحصاد... ومع الأسف إن حق لنا أن نأسف فإن تلك المواسم لم تعد تطل بشمسها على أراضينا منذ سنوات عدة.

          يخرج محمد بملابسه البالية وعينه موصدة الأبواب... يمشى فى الشوارع, لا تكاد أن تفرقه عن أى بهيمة أو ماشية فى الشارع. ثم يذهب إلى عمله, وعمل محمد قد يبدو عاديًّا, ماسح أحذية... كان محمد منذ سنين يقف فى الشوارع وفى المقاهى ليمسح أحذية المارة وعابرى السبيل. ولكن بمرور الوقت, غير محمد مهنته لأنه أيقن أن رواد المقاهى والموظفين وعابرى السبيل إن وجد السبيل ليس لديهم ما يدفعونه له مقابل مسح أحذيتهم... بل إن معظمهم بلا أحذية, حفاة... أرجلهم سميكة وخشنة تشبه أخفاف الجمال... بل إن أكثرهم بلا ثياب, عراة, دون أى زينة بلهاء تغطى أجسادهم البالية... فهم لا يشعرون لا بالحر ولا بالبرد... ولا بأى شىء آخر... لا يشعرون بالخجل من مشيهم عراة... و طبعًا السؤال عن أى نشوة أو رغبة جنسية ناتجة عن هذا العرى, هو درب من دروب العبث... فقد ماتت الحياة بداخلهم وشيعت جنازة الأحاسيس والمشاعر.

          لذلك فقد قرر محمد أن يغير من طبيعة عمله... فبدا له أن يذهب إلى المسئولين وعلية القوم و(الكُبّارات) كما اعتاد أن يلقبهم... هندم نفسه وحمل عدته وتوجه ذاهبًا إلى أحدهم, وكان صاحب عز وجاه, ملابسه مرصعة بأشياء تلمع يلقبونها بالمجوهرات... عيناه مفتوحتان, وهو أغرب ما فى الأمر... فلم ير محمد أحدًا وعيناه مفتوحتان منذ سنين.

          ألقى محمد بجسده الهزيل على الأرض, مادًّا فمه ليقبل حذاء السيد اللامع... وبدأ يحكى له وهو متمدد على الأرض حكايته منذ أن كان ماسحًا للأحذية، وكيف أصبحت وظيفته بلا زبائن حتى جاءه آملاً أن يجعله ماسح أحذيته الخاص.

          ضحك السيد ضحكة (تمثيلية) مثل ضحكة الشرير فى الأفلام الأبيض والأسود, وقال له والسيجار محشور فى فمه:

          يا أبله, هل عمرك رأيت حذائى متربًا فى أى صورة صحفية أو فى أى لقاء تليفزيونى؟؟ أنا إذا اتسخ حذائى هذا, ألقيه من الشباك وسوف يجيئون فى الحال بأفضل منه... أنا لا أشغل بالى بتلك التفاهات... لا مكان لك عندى.

          وركله بحذائه اللامع فى وجهه حتى أنه أصاب أنفه وأسال منه نقطة دم - مما تبقى له من دم - على أرضية المكتب.

          يا غبى, ألم يعلمك أهلك أو أيا كان من رباك, ألم يعلموك أن تتحكم فى نفسك وتمنع دماءك من الهطول هكذا على أرضية مكتبى أنا وتصيبه بالاتساخ؟ اخرج سريعًا قبل أن أخرجك محمولاً أو أن أدفنك مكانك.

          فتوجه محمد ناحية الباب زاحفًا سريعًا, خائفًا أن تسقط منه قطرة دم أخرى وتكون نهاية عمره. ثم عاد السيد وناداه وهو مازال ناحية الباب:

          يا هذا... لقد وجدت لك مهنة عندى.

          فتبسم محمد وتوجه إليه بجسده منفرجة أساريره وكاد أن يفتح فمه معبرا عن فرحته إلا أن السيد لم يمهله أن يتكلم قائلا:

          ستجيئنى هنا كل يوم... تجلس راكعًا تحت قدمى... كأنك تعبدنى... أو لعلك ستعبدنى بالفعل... تلحس التراب, بل الهواء, من على سطح حذائى الناعم... تقبل قدمى أمام الغرباء... أريح قدمى على رأسك عند اللزوم... أضربك حين أكون عصبيًّا... أقتلك إن أردت... ثم ألقى لك بعض القروش فى نهاية اليوم, تجرى وراءها زاحفًا على الأرض, تلملمها بفمك... أعرف أنك لا تستحق تلك النعمة ولكنى سأنعم عليك بهذه الوظيفة العظيمة.

          لم يعلم محمد ماذا يفعل ولكنه أيقن أنه لا مفر من أن يأتيه صباحًا كما أمر, وقد كان. وأصبح محمد يتردد على مكتب السيد يوميًا يلبى له أوامره.

          وها هو محمد ذاهب إلى عمله, ظهره محنى وعيناه لا تستطيعان تحديد مكانيهما بالضبط بين ملامح وجهه... دخل محمد إلى مكتب السيد زاحفًا كما هى العادة وقبل قدميه وركع له ونظف حذاءه بلسانه، ثم أمره السيد أن يعتدل فى نومته على الأرض حتى يتمكن من إسناد قدميه على رقبته.

          فامتثل محمد لأوامر سيده ونام كما أمر وأسند السيد قدميه على رقبة محمد. ولكن يبدو أن السيد استرخى أكثر من اللازم أو ما شابه فكسر عظمة برقبة محمد... فمات... مات وهو مطأطئ الرأس, ملصقًا إياه بالأرض, تحت أرجل السيد.

          اكتشف السيد أن عبده قد مات, لم ينتبه إلى ذلك كثيرًا ونادى على أحد الخدم وقال له: «لقد مات محمد»... فأجاب الخادم دون تأثر واضح: «هل نأخذه وندفنه فى أى مكان؟؟»...

          لا داعى لهذا... فقط احفروا له حفرة صغيرة تحت مكانه هذا وألقوه فيها وأغلقوها عليه... حتى يقضى بقية الزمن خاضعًا هنا تحت قدمى. آه... ولا تنسوا أن تأتونى ببديل عنه... لقد كان مريحًا حقَّا.

          ملحق:

          يشاع أن أحدهم قد انتفض من تحت الأقدام وقتل السيد... ولكن لا أحد يعلم هل حدث هذا فعلا أم لا.

----------------------------
القطار....
السيد إبراهيم أحمد ـ مصر

          لم يكن فى نيته يوماً الارتباط بها، فليس كل الأقارب يتزوجون بالضرورة من أقربائهم ، لكنها تصر عليه

          ـ تربينا معاً ، وعشنا معاً ، وكبرنا معاً ، حتى العمل بالمدينة نذهب اليه معاً ونعود منه معاً ..

          ـ اللعنة على مشوار المدينة اليومى ، فهو الذى يغذى ذلك الوهم النابع من رأسها فقط ..

          ينحدر بهما الطريق الرملى جانباً وهما فى طريقهما لركوب قطار العودة .. أحس برعدة كاد أن يسقط.. تدركه من ذراعه . يمتقع لونه وهو ينظر اليها مشفقاً .. يخلفان وراءهما غباراً خفيفاً .. الأقدام تفر من تحتها الرمال ، الشمس يخنقها الغروب . تتوارى .. المقابر تسير مع الطريق تصاحب الأحياء رحلة الدرب الرملى الطويل .. ينظر نحوهم يتمنى لو كان هناك، تبدو عربات القطار المسترخية على أشرطة القضبان الفرعية أمام بقايا من بيوت رحل عنها ساكنيها .. ينظر نحوها يتمنى لوكان مع من رحلوا ..

          ـ ما ذنبى ؟! أبى يهجرنى صغيراً لأمٍ أنهكها الانتظار وشماتة المحيطين فهجرتنى رغماً عنها بالموت ، يربينى عمى فى بيته .. أكبر معها ، تحبنى ولا أحبها ، ومن أحببتها وتزوجتها بعيدة حيث العاصمة وابنى معها ..

          ينظر نحوها بعطف ، تنظر اليه شذراً ، يسكنه اللون الأصفر .. عيون الأموات ترقب حياتهما ، كادت تتعثر فى حجر ناتىء صغير ، يمسك يدها تجذبها دفعةً واحدة ، يغزوه اللون الباهت ثانيةً . يرتعد . تثبت عينيها فى عينيه .. شفتاها تتحركان ، تتلو صحيفة جرائمه . يسقط فى يده . يتسمر ..

          ـ من المؤكد أنها عرفت قصة زواجه وانجابه سراً ممن استأمنهم على سره فأذاعوه.

          تتكلم .. لم يكن معها . تنهره فى عنف . يغرس بصره فى موقع قدميه . تزجره . يتشجع على الكلام .. تدمدم الأرض تحتهما .. يغزو الكون صوت قادم . احتواهما الفزع .. قطار آت من بعيد .. يتكلم .. تسرح . لاتسمعه .. تستصرخه .. يحاول الكلام .. صوت القطار يبتلع صوته .. لا تسمع . تتلو عليه ذنباً آخر .. يعلو صوته مدافعاً رافضاً موقفه الذليل لفضل أبيها الذى تحسن استغلاله ..تصغى فى ذهول .. يأكل صوته غضب القطار البطىء .. تصرخ في وجهه.. بتقهقر ، تمضى أمامه يائسة .. السكون يشجعه على الكلام .. فتح فمه .. التقط صفير القطار عباراته . محاها .. تشده اليها .. القطار الغاضب مازال يسير الهوينى على القضبان المنهكة التى لا ترحب باستقباله .. نظر اليها النظرة الأخيرة .. ليس له من أمل هنا ، شاع أمر زواجه عندها فمن المؤكد أن البلدة كلها علمت بأمره وأهلها والعمدة وإمام المسجد وعمه وهذا ما فعلته ابنته فكيف هو ؟ محاكمات فى المجالس وتقطيع سيرته سهارى وحكايات على المصاطب و .... و .... و ...

          ـ سأركب القطار .. ابنى ليس له عم هنا أو هناك ..

          ـ قطارنا لم يأت موعده بعد .. انتظـ ـ ـ ـر .....

          لم بسمعها .. كان قد أخذ قراره ، واتجه نحو القطار مسرعاً .. يعانق ظله ظله .. يتحدان .. تصرخ فيه .. رأتهما جسداً واحداً .. خيل إليها أنه غطى بجسده القطار أو أن القطار قد تمدد فيه .. يلوح لها من العربة الأخيرة .. تحاول أن تلحق به ، تصرخ باكية : عد .. يتكلم . تصغى .. يأكل آخر كلماته صوت قطار يعلن عن رحيله .. لم تسمع . تزجره .... ذهب صوته .. وذهب القطار ... لتبقى وحدها والدرب الطويــل ...

----------------------------
رسالة
منذر غزالي (سورية)

          محطة القطار تزدحم بالناس, ونسمة الخريف تترك برودتها على الخلايا المتوترة.

          يحمل حقيبتها الصغيرة, والحزن يرتسم على وجهه, يمشي بجانبها نحو باب المقطورة .

          القلب ينبض بسرعة, والكلمات تتجمد على الشفاه.

          لحظة الوداع تأتي مسرعة ً ...

          تمد يدها, يمد يده ... يجذبها نحوه ليحتضنها, تمنعه بهدوء . يقبّل يدها الناعمة, تطبع قبلة ً على خده ...وتغيب خلف الزجاج البارد .

          ــ سأكتب إليك حالما أصل .

          يمتزج صوتها مع صافرة الوداع .

          القطار يتململ ... يبتعد . أفعواناً ضخماً يبتلع الليل, والمسافات, والأحلام, واللقاءات .

          مضى أسبوع, وتبعه آخر... وهو ينتظر رسالتها .

          لمسة يدها مازالت تدغدغ باطن يده, حرارة قبلتها تشع على خده .

          لمستها الأخيرة ... همستها الأخيرة ... والذكرى الأخيرة :

          مبكرة ً جاءت ذلك الصباح, تحمل كتباً, وأشرطة تسجيل ٍ, ووردة ً صغيرة ً.

          ــ هذه كتبك, وأشرطتك ؛ أما الوردة فهي مني .

          تصمت قليلاً ثم تتابع :

          ــ سأسافر غداً .

          تأتيه مفاجأتها صاعقة ً. كان يعلم أنها ستغادر يوماً بعد أن تنهي دراستها, لكنه ما كان يظن أن هذا اليوم سيكون قريباً إلى هذا الحد .

          ــ مسافات ٌ ستفصل بيننا ... قال كأنه يحدّث نفسه .

          ــ المسافات لا تعني بعداً ... يأتيه ردُها سريعاً .

          ــ دائماً تجيدين الردَّ, تغلبينني بكلماتك الكبيرة .

          * * *

          شهرٌ يمضي, ويتبعه آخر ... وهو ما زال ينتظر .

          تأخّرت أكثر مما ينبغي, حتى بات يكره أن تصل . وإن وصلت, فأي سعادةٍ تركتها ليالي الانتظار ؟!

          " من الأفضل ألاّ أنتظر أكثر, أن أنسى, أيأس . اليأس راحة ٌ ... يغنينا عن إلحاح الحلم, ووجع الانتظار "

          ولكن كيف ينسى, وكلُّ شيءٍ حوله يذكّره بها ؟

          تفاصيل غرفته تعيد تفاصيلَ لقاءاتهما . جدرانها تردد صدى كلماتها التي لا تنتهي .

          " هل من واجبي أن أكتب إليها أنا ؟ "... يسأل نفسه, ويجيب :

          " كان يجب أن تعطيني العنوان لو كانت حقاً تريد أن أكتب إليها "

          تحاصره ذكرياتها, وكلماتها ... يقرر فكَّ الحصار .

          في المدرسة يسأله زميله مدرس التاريخ عن السكن في أطراف المدينة ... يوافق على الفور .

          ــ غرفةٌ صغيرةٌ فوق السطح, والعائلة محافظة !

          ــ لا يهم ... مكانٌ ليس فيه ذكراها هو المكان المطلوب .

          البيت قديم ٌ بكل شيءٍ . الأب يعمل حتى وقتٍ متأخرٍ من الليل, الأبناء يأمرون وينهون, والأم لا تعرف غير تلبية الطلبات, وبنتٌ وحيدة, هادئةٌ دائماً, صامتةٌ دائماً . كأنها غير موجودةٍ .

          نافذة الغرفة تنفتح على غوطة دمشق, ما تبقّى من الغوطة ؛ وعلى السطح أريكةٌ قديمة ملقاةٌ منذ زمن ٍ .

          بصمتٍ يدخل, يصعد الدرجَ الجانبي, وبصمتٍ يخرج . لا أحد يراه, أو يشعر بوجوده .

          الطريق إلى موقف الباص ضيقة متعرجة, تحفّها الأشجار من الجانبين . خطواتٌ مستعجلة تتبعه, تعقد شالها على رأسها, تضمُّ كتبها إلى صدرها ــ صباح الخير ! ... وتقف صامتةً حتى يأتي الباص .

          يذهب إلى مدرسته, وتذهب إلى كليتها .

          في المساء ـ والشمس مالت نحو الغروب, ورمت الأشجار ظلالها على السطح ـ يجلس على الأريكة, يقرأ, أو يكتب, أو يستمع إلى الموسيقا .

          أصوات الطيور تملأ الفضاء . تمتزج مع صوت الموسيقا .. ترقُّ مشاعره, ويغرق في تأملاته .

          تتسلل الذكرى داخله كما تتسلل أشعة الشمس بين الأغصان العالية .

          تأخذه الذكرى بعيداً, إلى شتاء مضى دافئاً :

          كان المطر يهطل بغزارة . وصل إلى الموعد وثيابه تقطر . انتظر قرب جهاز التدفئة حتى وصلت . جلسا على الطاولة المعتادة قرب النافذة .

          كان يجيد الصمتَ, وكانت تجيد الكلام ... تبتكر الأساليب كي لا يسود الصمت .

          تحدثت عن الثقافة, والأدب, والحرية, ومكانة المرأة . قرأت قصيدةً جديدة لدرويش نسختها من إحدى المجلات . لم يقرأ شيئاً, لكنه كان يصغي باهتمام . يرى فيها صورة أحلامه .

          على زاوية دفترها كتبتْ : " جميلٌ أنت مثل غابةٍ يغسلها المطر"

          تابعت عيناه العبارة َ . قال مازحاً :

          ــ لو قرأ شابً ذكي ما كتبتِ, لعشقك من الكلمة الأولى .

          ردّت بنزقٍ مصطنع :

          ــ لم أكتب هذا كي يعشقني أحدً .

          وبهدوءٍ أجابها :

          ــ لكني لستُ ذكياً على أية حال .

          بهرها ردُّه الجريء . أغلقت دفترها, وانكمشت في مقعدها ... ساد صمتٌ طويل .

          لم يبقَ في المقصف غيرهما, والصمت المطبق . حتى فيروز, أغنيتها سكنت دون أن ينتبها .

          عند موقف الباص ودّعها, وهمس في أذنها :

          ــ أنا أحبكِ .

          يدها الصغيرة ارتعشت داخل يده, عيناها لمعتا ببريقٍ أنثوي جذاب . لا يدري : ابتسامةٌ, أم اختلاجة قلبٍ تلك التي ارتسمت على شفتيها ؟!.

          صوت خطوات صاحب البيت ينشله من تأملاته . صعد إلى السطح يسأل عن المستأجر الجديد .

          حيّاه بكلماتٍ طيبةٍ, وهو يبدي اهتماماً خاصاً "بالأستاذ ". لا يطيل المكوث ؛ وقبل أن يغادر يطلب منه أن يساعد ابنته " التي تدرس في السنة الأولى لغة عربية " :

          ــ إذا كان وقتك يسمح .

          ــ أنت تأمر يا عم .

          ساعات المساء صار يقضيها في بيت العائلة . يجلس ساعةً, أو ساعتين . تجلس أمامه صامتةً, تصغي إليه باهتمامٍ . كما يجدر بتلميذة تجلس أمام معلمها .

          تسترق نحوه ـ بين الفينة والفينة ـ نظراتٍ خاطفة ً . أمها تتابعها من بعيد, تراقب نظراتها, وحركاتها .

          اكتسب ثقة الأب ... وصارت تصعد هي إلى السطح . تجلس على الأريكة القديمة في ساعات المساء ؛ وقبل هبوط الليل, ينهي الدرس, وتغادر .

          نظراتها الخاطفة أصبحت متمهلة ً, تتمعن في ملامحه ... حزن ٌ غامضٌ يرتسم على وجهه, وفي نظرة عينيه .

          خطواتها الصباحية المستعجلة صارت أكثر هدوءاً وهي تسير إلى جانبه نحو موقف الباص, وكلمة ( صباح الخير) تخرج من شفتيها مع ابتسامةٍ مرتبكة .

          ساعات المساء بدأت تطول . بعد أن ينهي الدرس, تتطرق إلى مواضيع أخرى, تحاول أن تكتشف سرَّ هذا الحزن الذي يغلف ملامحه . تتكلم بهدوءٍ, يتضرج وجهها الصافي بحمرةٍ ورديةٍ, حتى طرف أنفها المستقيم .

          لفت نظرها ـ منذ البداية ـ الكتب الكثيرة الموزعة على الأرفف, وفوق الطاولة .

          سألت :

          ــ هل قرأت كلَّ هذه الكتب ؟

          أومأ برأسه بالإيجاب .

          طلبت منه كتاباً تقرؤه . تمهّل بالردِّ, ثم قال :

          ــ اختاري الكتاب الذي يناسبك, وخذيه .

          ــ أريد أن تختار لي أنت ... ورمت نحوه نظراتٍ مباشرةً .

          امتدت يده نحو أحد الأرفف, سحب رواية ( آلام فرتر ), وقال مداعباً :

          ــ انتبهي ! هذه الرواية أبكت ـ في زمانها ـ بنات ألمانيا .

          ابتسمت ابتسامةً فرحةً, حملت كتبها ... ومضت .

          الليل هبط قبل قليل ... ليلٌ هادئ رقيق .

          جلس يتأمل النجوم المبعثرة . الماضي, والحاضر يضطجعان على سرير قلبه .

          يتسع قلبه, يحتوي الكون بلا نهائيته .

          ليس الحزن ما يعاني, ولكن تعزّ عليه الأيام الجميلة كيف مضت بصمتٍ خجول مثل طفل مذنب .

          الأب لم يعد من عمله بعد . الأم تنتظرها بقلق . توجهت إلى غرفتها, أغلقت الباب, وجلست على حافة السرير.

          شيءٌ كالسعادة, كالحزن, لا تدري . لكن سكينة عُلْوية شاملة تملأ روحها .

          فتحت الكتاب, لكنها لم تقرأ حرفاً . ضمّت ركبتيها إلى صدرها, وراحت تحدق في المجهول .

          ظلت وقتاً طويلاً شاردة في أفكار لا تعرف ماهيتها, غارقةً في مشاعر متناقضة, عذبة, لذيذة, لكنها مرهِقة, وممضّة في الوقت نفسه .

          تعيد في خيالها كل كلمة قالها, وكل حركة بدرت منه . ماذا أصابها ؟ ... هي لا تدري, غير أن كل شيء فيه بات عزيزا على قلبها, قريباً من مشاعرها البكر الشفافة .

          تفرح تارة, تحزن تارةً, وشعور غامض, جديد يتصاعد في أعماقها .

          أسندت رأسها على ركبتيها ...ودمعةٌ حيرى تجمدت بين رموشها . امتدَّ الليل طويلاً, وهي على هذه الحال .

          في الصباح : لم يلتقِ بها في طريقه إلى موقف الباص .

          في المساء : لم تأتي إلى الدرس . لم يأبه للأمر في البداية, لكنّ غيابها أسبوعاً كاملاً ولّد في داخله القلق :

          " لعلها مريضة ؟ " . وقرر أن يسأل عنها إذا لم يلتقِ بها صباح الغد .

          كانت الشمس قد غابت منذ زمن, والليل أسدل خيمته السوداء حين سمع وقع خطواتٍ هادئة ٍتصعد إلى السطح .

          نظر إليها ... في ملامحها شيء ٌ مختلف : وجهها الشاحب, أين إشراقه وصفاؤه ؟

          عيناها المتعبتان, أين غار بريقهما ؟

          سأل :

          ــ ما بكِ ؟ هزّت رأسها, ولم تنبس ببنت شفة . فتح الكتاب, وتهيأ لشرح الدرس . وهي صامتة ٌ شاردة, لا تجرؤ على النظر في عينيه .

          تسأل فجأة دون مناسبة :

          ــ هل قرأت الكتاب الذي أعطيتني إياه ؟

          ــ قرأته منذ زمن .

          أرادت أن تقول شيئاً آ خر, لكنها وجدت نفسها تسأل :

          ــ هل تكتب القصص ؟

          أجاب باقتضاب, وهو يزداد حيرةً . حاول أن يعيد الأمور إلى سياق الدرس, وشعور ٌ بالحرج بدأ ينتابه من تأخر الوقت . لكنها تابعت تقول وهي شاردة :

          ــ كم أتمنى أن أكون مثلك . مثقفة ً, وعندي مكتبة كبيرة مثل مكتبتك .

          انزلق الشال عن رأسها . خصلةٌ سوداء لامعة معطرة تراقصت فوق خدها, وهي ما تزال تتابع :

          ــ في داخلي أحلام كثيرة لا تتسعها جدران بيتنا .

          الليل يرقُّ, والنسيم الرطب يحرك الأغصان, وهي منساقةً إلى الحديث عن نفسها, يمتزج حفيف الأوراق مع كلماتها الراجفة, فيصغي إليها كأنه في حلم ٍجميل .

          ــ لو كان بجانبي إنسان مثلكَ, يأخذ بيدي, ولا يتخلى عني .. اختلجت شفتاها, وتقطّعت كلماتها, وازداد احمرار وجنتيها, وهو ينظر إليها كأنه يراها للمرة الأولى .

          " هذه الفتاة الهادئة, الصامتة, تخفي كلَّ هذه الأحلام ! "

          الحرج يزداد في داخله, فقد تأخر الوقت كثيراً .

          فجأةً ... تظهر أمها على السطح .

          رفعت شالها بحركةٍ سريعةٍ, واعتدلت في جلستها . اقتربت الأم منهما . رمته بنظراتٍ حادّة, وعنَّفت ابنتها بصوت منخفض . لا تريد أن يسمع أحدٌ ما يجري . طلبت منها النزول فوراً .

          رفضت النزول معها . " ــ لست ُ صغيرةً . " ... ردّت عليها بكلماتٍ قاطعةٍ متحدية .

          أذهله ردُّها, و تحوّل حرجه إلى خجلٍ, وتوتُّر .

          أ ُسقط في يد الأم, وفضّلت النزول وحدها " كي لا تثير فضيحة " . لكنّ نظراتها الحادّة, وزمّة َشفتيها, توحيان بالوعيد .

          امتقع لونها, وغابت الملامح عن وجهها, جمدت في مكانها صامتةً, تتنفّس أنفاساً متلاحقةً, وجسدها كله يرتعش .

          لم يقلْ شيئاً . خشي إن قال ـ ولو كلمة واحدة ـ أن تنفجر مباشرةً بالبكاء . مرّت الدقائق ثقيلة ً, بطيئة ً . كلٌ منهما ينظر في اتجاه, لكنه يفكر في الآخر .

          انسحبت بعد قليل . ألقت كلماتٍ راجفةً, ومضتْ .

          ظلّ ساكناً, شارد الذهن, مأخوذاً بهذه القوة التي فاجأته بها هذه الفتاة الرقيقة .

          لم ينم ليلته ؛ وفي الصباح, خرج مبكراً . لا يريد أن يلتقي بأحدٍ من العائلة . طيلة النهار ظلّ يفكر في ما حصل, ونظرات أمها الحادة لا تغيب عن خياله. ". لأي سبب ؟ وكيف ستنفذ الأم وعيدها ؟. ما موقف أبيها الذي منحني ثقته ؟ وكيف سيفهم الأمر ؟ ."

          أحسَّ أنّ من واجبه تركَ البيتِ قبل أن يتسببَ لها بمتاعبَ لا تستحقها ...

          عاد متأخراً . دخل بحذر ٍ . يريد أن يأخذ الأشياء الضرورية, ويغادر إلى أي ِّ سكن ٍ مؤقّت .

          سمع خطواتٍ مستعجلةً تتبعه .

          ــ لماذا تأخرتَ ؟ ... انتظرتكَ طول النهار .

          كانت تتحدث بنبرةٍ منهكة ٍ, معاتبة ٍ ؛ وإصرارٌ غريب ينبعث من عينيها المتعبتين . رمت في يده ورقةً صغيرةً مطويةً عدّة طياتٍ :

          ــ لا أستطيع التأخرَ . إذا أردت أن تعطيني ردّاً اتركْه تحت فرشة الأريكة...ثمّ غادرت مسرعةً .

          لم يدخل الغرفة . جلس على الأريكة منهدّاً. النسمة باردة, أو لعلَّ خلاياه الملتهبة جعلته يشعر بلسع النسمات .

          فتح الورقة . كلماتٌ قليلة, يبدو من خطها أنها كُتبت على عجل ٍ ... قرأ :

          " ضربني أخي . منعني من الصعود إلى السطح, وهددني بترك الجامعة .

          قلتُ لهم إنك طلبتَ مني المغادرة أكثر من مرة, ولكني أنا التي كنت أرفض .

          لا يهمّني الضرب, مستعدة أن أتحمل أكثر من ذلك .

          أنا أحبك .... ولا شيء بعدك يهمني . "

          وضع الورقة جانباً, غير مصدّق ما يجري . أخذ نفساً عميقاً, ورفع نظره نحو السماء . القمر يبدو مكتملاً, يجري مسرعاً خلف غيمةٍ كبيرةٍ تحجب نوره عن الأرض . وفي داخله تجري الأحداث مسرعة ً؛ تلك المشاعر القديمة, والرسالة التي انتظرها شهوراً ولم تأتي ؛ وهذه الرسالة التي تأتيه على غير انتظار, وما خلّفته من مشاعر .

          الغيمة تنزاح شيئاً فشيئاً, ليظهر وجه القمر بهياً ساطعاً, يرسل إلى الأرض أشعته الفضية ؛ وفي قلبه نورٌ جديد يشعُّ دافئاً, وفتيّاً.

----------------------------
لماذا لم انتحر.؟!
عمران عزالدين أحمد (سورية)

          أنا الآن في عالم الأموات.. لقد انتحرتُ منذ يومين، كان شعوراً غريباً، أجريتُ عملية حسابية بسيطة، كانت الكفة راجحة لسعيي الانتحاري. لم أهنأ يوماً بلحظة فرح أو ثناء أو حتى فشل وجيه مُسبِبٍ.

          كنتُ من المتفوقين في جُلّ مراحلي الدراسية والعملية، حُرمتُ قسراً من بعثة دراسية إلى فرنسا، كنتُ كما كان يردد والدي ابناً مرضياً.. وزوجاً مثالياً كما كانت تردد زوجتي، التي خلعتني فيما بعد، وتزوجت مباشرة ابن مدير الدائرة التي أعمل فيها.!

          صدر قرار تعسفي بنقلي من وظيفتي في المدينة إلى أحد الأرياف النائية، فقدمتُ استقالتي، ووافق المدير السبعيني عليها بسهولة فائقة دون أن يكلف نفسه عناء السؤال عن السبب الذي جعلني أتقدم إليه بطلب الاستقالة.؟!

          أذكر أنني قلتُ له وهو يقبع على كرسيّه الوثير كعجل ضخم ببرود أعصاب، وكأنني أفرغتُ للتو في جوفي كوباً من شراب ليمون مثلج :

          لو سارتْ الأمور بهذه السرعة في الدوائر الوظيفية، لكنّا بألف خير.؟!

          ردّ عليّ بوجه متجهم وقرفٍ لم أتمكن من تفسيرهما:

          هذا يعني أنكَ غير راض عن النظام الذي تسير بموجبه الدوائر..؟

          - أنا ...!

          - وبالتالي أنتَ غير راض عن القوانين التي تخدم البلد والمواطن.؟

          - ..........!!!

          وأردف بعصبية:

          انصرف أيها المريض.. أنصحك بطبيب نفسي بعد خروجك من هنا مباشرة.!

          سافرتُ إلى القرية حيث تقطن والدتي، التي أقسمتْ منذ زمن طويل أنها لن تترك القرية بعد وفاة والدي، الذي استشهد دفاعاً عن الوطن. ما زلتُ أذكر أننا خرجنا إلى الشوارع بعد أن غادر العدو أرض الوطن، مغتصباً لكرامتنا، نحتفل بنصر مؤزر، نزغرد وندبك وقد بُحت حناجرنا، ونحن نهتف بشعارات تندّد بالعدو وجرائمه.

          قلتُ لها بينما كانت تتوضأ من ماء الحنفية:

          ـ سأسافر بعيداً يا أمي.. هل ترغبين في شيء قبل أن أذهب .؟!

          ـ وأين ستسافر.. إلى بلاد الكفار الذين سلبوا كلّ خيرات بلادنا..؟!

          ـ كلا يا أمي، بل سأسافر إلى ....!

          ـ لا تكفر يا ولد، كن عاقلاً.. سأغضب عليك حتى يوم القيامة إذا لم تكف عن هذا الهراء.

          ألقيتُ نظرة أخيرة على الغرفة التي نشأتُ فيها، كنتُ مأخوذاً بسحر القرآن في ذلك الزمن وهو يُتلى بصوت والدي الجهوري الجميل، أرغمني والدي في البداية على الاستماع إليه، ثمّ تحول الأمر بعد ذلك إلى طقس مقدس، كنتُ أتكوم على بعضي، أحبس أنفاسي منتشياً إلى أن ينهي القراءة. في الغرفة ذاتها أتقنتُ حِفظ الحروف وكتابتها، وفيها كنا ننام جميعاً، نغير ملابسنا، ونستحم في "طَشْتٍ" معدني أصبح نحاسياً بعد ذلك لكثرة الاستعمال.

          انصرفتُ بعد أن قبّلتُ رأسها وراحة يدها وهي تردد على مسمعي:

          ـ إياك أن تسافر إلى بلادهم.. سأغضب عليكَ يا ولد.!

          عدتُ بعد ذلك وأنا أشعر بتعب يفتتُ ما تبقى من العزم في هذا الجسد الذي سيودع هذه الأرض بغزو طوابقها السفلية.

          ولجتُ البيت.. أحكمتُ إقفال الأبواب والنوافذ والستائر.. أوقفتُ ساعة الحائط عن التكتكة.. ألقيتُ نظرة على السلك الموصول من مكبس الضوء والممدد بشكل مستقيم في منتصف الغرفة. الكرسي الحديدي الثقيل الذي اشتريته لهذه الغاية تحت السلك تماماً. الحبل الذي سأربط به رجلي بأرجل الكرسي ملقىً على الأرض بالقرب منه، أطفأتُ الإنارة، جلستُ على الكرسي، أحكمتُ رباط رجليّ، كممتُ فمي، زفرتُ زفرات قوية متتابعة فيما ذاكرتي تستحضر صوراً وأخيلة ومواقف تتعلق بشبابي المتحمس ورجولتي الخائبة، انهمرتِ الدموع من عينيّ وانهمر العرق بغزارة من جميع أنحاء جسدي.. طلبتُ المغفرة من الله بصوت واهن مبحوح، قرأتُ سورة الفاتحة وآيات من سورة " ياسين" على روحي، وصليتُ مصفداً بعد ذلك صلاتي الأخيرة.

          مدّدتُ يديّ إلى السلك المعرّى، أطلقتُ صرخة مكلومة ذبيحة. ماتتْ صرخاتي التي قمتُ بكبتها في حلقي وأنا أنتفض.. أرتعش.. أغيب عن الوعي، انتزعَ السلكُ الجائعُ اللحمَ عن جسدي، بقيتْ عظامي، ثم تفحمتْ رويداً رويداً.

          لملمتُ بعد ذلك ما تبقى من عظامي المبعثرة، ثمّ أرجعتُ كلاً منها إلى موضعه الأساسي، ونزلتُ إلى الشّارع. كانت الناس تنظر إليّ نظرة شزراء، صوبتُ عينيّ الجاحظتين المخيفتين إلى المحلات والباعة. في زاوية نائية متطرفة أبصرتُ قصاباً بديناً مربوعاً يقطّع لحم خروف معلقٍ بسلسلة.. دنوتُ منه.. ألقيتُ عليه السلام.. كان منهمكاً بعمله، وعندما نظر خلفه وأبصرني خاف وتعوذ بالله ثمّ فرّ هارباً لا يلوي على شيء، ألصقتُ لحم الخروف النيئ على عظامي.. ولجتُ المحل، مدّدتُ يديّ إلى درج الطاولة.. كان فارغاً.. حملتُ سكيناً وقصدت الشارع العام.. وجدتُ على ناصيته شاباً وسيماً يتأبط كتاباً ويستظل بجريدة يحملها بيده الأخرى.. كان ينتظر الحافلة لكي تقله ربَّما إلى عمله.. اقتربتُ منه من الخلف.. اسّتللتُ السكين.. وضعتهُ على رقبته.. قلتُ له: انزعْ ملابسك وإلا قطعت عنقك.. لم يحرك ساكناً.. نزع ملابسه على الفور وهو يكتم أنفاسه.. قمتُ بارتدائها.. ووليتُ هارباً.. طلبتُ من امرأة جميلة كانت تسير في الطريق بكل غنج ودلال: هل تقبلين أن تكوني أمي..؟!

          سارعتْ إليّ وحضنتني، ثمّ قبلتني على خدي قبلةً طويلة تبخرتُ على أثرها.!

----------------------------
شاهد عدل
عبد الجواد خفاجي (العراق)

          تحامل وهو يخترق صفوف الجالسين حتى أخذ مقعدًا ، تفصل بينه وبين المنصة مسافة غير قصيرة، وقد تصاعدت إلى أنفه ـ ما إن جلس ـ زفرة ما لبثت أن عبأت خيشومه، غير أن إحساسًا بالاختناق بدأ يتصاعد حثيثًا حتى استبد أخيرًا بصدره، ومن ثم كان عليه أن يلقف نفسه لقفًا، وفيما كان الوقت يمضي بطيئًا ممضًا كان جفناه ينسدلان دون أن يرمشا، فيما بدت عيناه مستسلمتين للحظة غائمة.

          ـ الشاهد الأول "محمود عبد العارف".

          استفاق فجأة على صوت الحاجب لما تكرر النداء، ورفع جفنيه المجهدين.. انتصب واقفًا ، بَيْدَ أن ساقه لم تكن تطاوعه لأن يبدأ خطوة واحدة، غير أن ألمًا خفيفًا كان يحس به منذ الصباح منبعثاً من كاحل قدمه بدأ يستعر الآن في رجله كلها.

          ـ آه .......

          كتم آهاته وأظهر تحديًا واهناً وهو يسحب نفسًا شاردًا إلى صدره.. أحيانًا لا تطاوعه ساقه .. لا يعرف متى يتصلب مفصلها، ولا متى ستفاجئه بما لا يليق.. بدأ يعرج باتجاه المنصَّة .. ساق تطاوعه والأخرى تتأبى، بّيْدَ أن نصف جسده الأعلى ـ على ما بدا ـ كان مترنحًا بين المجاهدة والسقوط.. يجر رجله جرًا ، وفى لحظة أخرى كان يحجل، يخشى أن يتأخر في الوصول فيغتاظ القضاة، أو يتهمونه بالتلكؤ ، ربما لهذا ظل يجاهد ساقه وجسده، يزفر ما به من غيظ، وهو يهم بين عرج وحجل.

          لم يكن الظرف مناسبًا لأن يتأمل وجه القضاة عن كثب، وقد اقترب من المنصة، وربما كان عليه ـ أيضًا ـ أن يجاهد عينيه اللتين رصدتا مساحة شاهقة من السواد الموشى بخطوط حمراء، ورؤوس ثلاثة صلعاء تعلوها.

          ـ هذه محكمة .. لها وقارها وهيبتها.

          كلمات صارمة وصلت أذنيه ، بيدّ أنه لم يكن يفهم شيئًا يستوجب الكلام .. لقد جاء كشاهد عدلٍ، فما بالهم يتحدثون عن وقار المحكمة وهيبتها؟

          ـ أنت نسيت أنك تمشي في قاعة المحكمة.. نسيت نفسك وأنت تمشي متراقصًا، وكأنك ها هنا في عرس !.

          كانت كلمات القاضي صادمة كالجريمة، مهيبة كالمجهول، وفيما بدا وجهه متجهمًا ونظراته حادة، ارتعدت أوصال الشاهد.. تناسى ألمه الذي يستبد بساقه، وفيما بدا أيضًا أنه على وشك السقوط، وثمة عرق غزير بدأ يتصبب من جبهته، وقد عصفت بداخله عاصفة من الشؤم، وبدأت شجاعته التي يتوهمها تفر منه.

          هو يعلم أن للمحكمة وقارها، كما يقر للقاضي بالتجلَّة، لكنه لم يكن يعلم أن مشيته جريمة، وأنها ـ إلى حد ما ـ تكسر هيبة المحكمة.

          استجمع بقايا أعصابه المنهارة، وانهمك يرتب بعض كلمات تليق:

          سيدي القاضي: لم يكن الأمر كما تظنون .. نعم إنكم تأخذون بالظاهر، هذا صحيح، لكنما الصحيح أيضًا أن الظاهر وحده غير كافٍ؛ فما فهمتوه فيَّ لم يكن صحيحًا البتة، وأنني ما رقصت إلا حينما تألمت، ربما فهمتم ـ أيضًا ـ أنها حالة الفرح التي لا تتناسب وكآبة اللحظة، وإن كنت أراها مناسَبة لإطلاق الفرح أن أراني واحدًا من العدول، وأن ثمة عيوناً تتحرى العدالة، وأن أبثها شهادة حق في وجه الباطل والادعاء.. أن.. أن أخطو باتجاه الحق ريثما أنافح وجه الباطل، وريثما يتنحى ـ ولو قليلاًـ هاجس قديم يلح على رأسي بأن العدالة فوق الأرض وَهْمٌ كبير.. يقيني أنكم تفترضون للفرح مناسبة أخرى، بيد أني أراها حاضرة، أو ربما أنكم تفترضون رجلا غيري للفرح.. ليتكم أجبتم الآن من بدد الفرح في عينيّ ، لماذا هي الصفحة الآن سوداء ملبدة بالتجهم والصلافة، ولماذا أنتم الآن شبورة غائمة؟!.. لماذا هي اللحظة مالحة، ولماذا أنا الآن أبدو كالجريمة ؟!.

          لقد دفعني الزحام يومًا، إلى صدر عربة غاشمة، ولم يكن جسدي أكثر من أربعة أشبار، ولم تكن خطوتي أكثر من شبر واحد.. هكذا قيل لي، وقالو إنها مَرَسَتْ ساقي اليسرى قبل أن تمرق هاربة بين الدروب، وقالوا إن الشرطة فشلت في العثور على الجاني، أو ربما أنها لم تكترث بالتحري والبحث، وقالوا إنهم حبسوا أمي لأنها أهملتني، وقالوا أخيرًا: قضاء وقدرًا.

          الحقيقة ـ سيدي القاضي ـ أنني منذ خمسين عامًا أتحمل عرجي، أو رقصتي ـ كما تفضلتم بوصفها ـ أتحملها بآلامها مع كل خطوة أخطوها .. أتحملها صابرًا، وما مطلوب من عدالتكم غير تحمل رؤيتها لدقائق معدودات، ريثما ينتهي هذا اللقاء.

          التقارير الطبية التي معي تؤكد سيدي القاضي أنني مُعاقٌ، وأن مفصل قدمي اليسرى مثبت بمسامير بلاتين، وأنها لا تطاوعني عند المشي وأنها ...... .... .....

          كان بإمكانه أن يقول كلامًا كهذا، وقد رتب في رأسه الكلمات، ورصَّ العبارات، كيف يبدأ، كيف ينتهي، كيف يكون الكلام موجزًا ومعبِّرًا ودالاً، وبليغًا وموحيًّا ومناسبًا للموقف والمقام.. كيف .. كيف .. كثير انشغالات بالكلام والأسلوب والمداخل والمخارج .. كثير اهتمام بالمضمون .. كثير صبرٍ وتأنٍ ومثابرة في الانتقاء والجمع والتوليف، غير أنه استجمع ما لديه من شجاعة مبددة، ومسح عرقه الطافر على جبهته، وجاهد خُنَّاق صدره كي يسحب نفَسًا عميقًا يكفي لدفقة اللفظ ، ويعين الصوت على الخروج من المخارج.. استجمع ما استجمع ومسح ما مسح وسحب ما سحب وفتح عينيه على آخرهما، وهمت شفتاه تنفرجان : سيِّدي .... لولا أن أذنه سمعت قولاً كان ثقيلاً وشائخًا وصادمًا:

          ـ يُحْبَس الشاهد أربع وعشرين ساعة لإساءته إلى المحكمة، على أن تؤخذ شهادته في جلسة قادمة.
------------------------------
* ناقد من البحرين

 

 

فهد حسين*