أرقام

كيف ينفقون

انتشر في الأدبيات السياسية والاقتصادية في السنوات الأخيرة الربط بين نفقات الدفاع وبين التنمية. فالعالم أصبح يبدو وكأنه بلا عقل أو قلب. الملايين تموت من الجوع، وأولويات الإنفاق عند الكثير من الحكومات: السلاح أولا. وبينما تتعثر التنمية، وينتشر المرض والجهل، وسوء المسكن، وسوء التغذية في العالم الثالث، نجد أقطارا مدججة بالسلاح، مثخنة بالجراح من كثرة النزاعات الإقليمية التي تشارك فيها.

الجهود كثيرة لكن الأرقام مفزعة وعجيبة.

لقد حاول العديد من منظمات الأمم المتحدة عقد مقارنة رقمية بين ما يجري إنفاقه على الصحة أو التعليم، وما يجري إنفاقه على شئون الحرب والدفاع. وكان اختبار الأرقام جاريا على ما نسميه النفقات الحكومية ولمدة خمس سنوات تمتد ما بين 1986- 1990، وجاءت النتائج صادمة.

هكذا تصرفت الحكومات

إن أحد المقاييس الأساسية لتقييم أعمال الحكومات هو سلوكها المالي: كيف تجمع الأموال من الشعب، وبأي منطق، وبأي قدر من العدل؟ وكيف توجه النفقات العامة.. إلى أي مجال؟ وبأي أولويات؟

وبطبيعة الحال، فإن ظروف بلد ما قد تختلف عن ظروف بلد آخر، ولكن عندما تلتهم نفقات الدفاع أكثر من نصف إنفاق الحكومة، ويجري إنفاق النصف الآخر على كل مرافق الحياة. عندما يحدث ذلك يكون هناك خلل بالتأكيد.

في هذه الفترة (86- 90) وجهت يوغسلافيا 55% من النفقات الحكومية على أغراض الدفاع، على تجهيزات عسكرية وشراء معدات وأسلحة، جرى استخدامها بطبيعة الحال في الحرب الأهلية التي دارت رحاها طوال الفترة الماضية.

على الخط نفسه، أنفقت نيكاراجوا نصف ميزانياتها في الدفاع، بينما كان ما وجهته للصحة والتعليم معا 20% من هذه الميزانيات!

بعدها، تأتي سوريا (40% من النفقات للدفاع)، ثم موزمبيق (35%)، ثم أنجولا (34%)، ثم إسرائيل (27%)، ثم غينيا (26%). ويأتي دور الولايات المتحدة التي توجه ربع إنفاقها لأغراض الحرب.

وباستثناء الولايات المتحدة ذات السياسة الكونية، فإن الملاحظة السريعة للأرقام تقول: إنها بلدان فقيرة ومراكز توتر في الوقت نفسه. ففي معظم هذه البلدان دارت صراعات وحروب إقليمية أو حروب أهلية، وكان على الحكومات أن تتسلح، وأن تفتح الخزائن للسلاح.

مقارنات أخرى

ويبدو الأمر أكثر وضوحا لو عقدنا، كما عقدت هذه المنظمات الدولية بعض المقارنات.

ففي دراسة إحصائية قدمتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) تبين أن نفقات التعليم والصحة كانت دائما في أولوية متأخرة بالقياس لنفقات الدفاع، بالطبع، هناك استثناءات. فإسبانيا تنفق على الصحة ضعف ما تنفقه على الدفاع، وتنفق على الدفاع ما لا يجاوز نفقات التعليم. وفي بريطانيا تتساوى نفقات الصحة والدفاع. وفي المغرب تفوق نفقات التعليم النفقات العسكرية.

ولكن، وفي بلدان أخرى تصبح المفارقة واضحة. في سوريا- حيث الخطر الإسرائيلي على الأبواب- تبلغ نفقات الدفاع 40% مقابل 2% للصحة و 10% للتعليم. وفي إسرائيل جرى توجيه 27% من النفقات الحكومية للدفاع و 4 % للصحة و10 % للتعليم.

وهكذا يلتهم الدفاع في الكثير من البلدان معظم النفقات، ولا يبقى شيء يذكر لمعيشة المواطنين.

المفارقة الأكبر أظهرتها إحصاءات المنظمة نفسها، حيث جعلت أحد مؤشراتها الرئيسية: وفيات الأطفال تحت الخامسة، والتي تجيء في معظم الأحيان لأسباب اقتصادية. وعلى رأس الجدول جاءت دولة موزمبيق التي بلغ متوسط نصيب الفرد فيها من الناتج القومي عام 89: ثمانين دولارا لا غير. وبلغت نسبة التضخم خلال الثمانينيات 35 %. سنويا وكان نصف سكان المدن وثلثا سكان الريف تحت خط الفقر. وفي هذا البلد كان أكثر من ثلث الميزانية لأغراض دفاعية.

ولكن، لأن موزمبيق قد تكون نموذجا شاذا، فإن الحديث عن مجموعات دولية هو الأفضل. ووفقا لتقسيم منظمة اليونيسيف، فإن هناك أربع مجموعات دولية وفقا لعدد وفيات الأطفال تحت سن الخامسة، فهناك المعدل المرتفع جدا، والمعدل المرتفع، والمتوسط، والمنخفض. وبينما يتراوح متوسط الإنفاق الدولي على الدفاع بين 7% و 16%، فإن متوسط الإنفاق على الصحة يتراوح بين 5% و11%. لكن الأهم هو المؤشر العام الذي يقول: كلما زادت نفقات الدفاع زادت نسبة وفيات الأطفال دون الخامسة. ووفقا للترتيب التنازلي للمجموعات الدولية الأربع فإن أكثر المجموعات إنفاقا عسكريا والتي تخصص 16% من ميزانياتها لهذا الغرض هي البلدان التي تشهد أعلى المعدلات في وفيات الأطفال على الإطلاق. وربما تكون العلاقة أيضا واضحة مع اعتمادت الصحة التي تنال قسطا أقل.

وبمعنى آخر، فإن كل رصاصة يجري إعدادها لتقتل عدوا. تمر أولا عبر طفل لا يجد الغذاء أو الدواء فتقتله.

هل هناك ما هو أشد بلاغة ودلالة من ذلك؟

لا أعتقد، وكل الدعوات التي تنادي بإعادة توجيه الموارد، وحسن استخدام ثروات الأمم، دعوات صحيحة ومهمة.

الناس تموت جوعا، بل إنها تُقتل. هذا ما تشير إليه الأرقام، والدليل هذه المرة من عالم الطفولة.