المشكلة الغذائية في العالم: من مالتوس إلى الشركات العابرة للقوميات

 المشكلة الغذائية في العالم: من مالتوس إلى الشركات العابرة للقوميات
        

          ثمة في العالم اليوم مليار ومائة مليون إنسان «أي سدس البشرية» يعانون الجوع وسوء التغذية. وحسب معطيات الأمم المتحدة، فإن سبعة ملايين طفل يموتون سنوياً بسبب الجوع، أي 17 ألف طفل في اليوم، أي طفل واحد كل خمس ثوان! إنه رقم مريع، يصعب تصديقه، ولكنه - مع الأسف الشديد - حقيقي، يصفع بواقعيته كل ضمير حي.

          إن ذلك يحدث في وقت يُنتج فيه في العالم ما يكفي لإطعام كل سكان الكوكب. فنحن اليوم لا نعيش في عالم الندرة. إذ إن الثورة الصناعية بداية، ومن ثم الثورة العلمية المعرفية والتكنولوجية وتطبيقاتها في الميدان الزراعي، حررت المجتمع من «الندرة الاقتصادية»، وأزالت التناقض بين تزايد عدد السكان، وبين توافر الغذاء لإطعام الأعداد المتزايدة منهم. فقد بات الاقتصاد العالمي اليوم قادراً على إنتاج كميات من السلع والغذاء كافية لتأمين حاجات كل سكان العالم وإبعاد خطر الجوع عنهم. غير أن المشكلة لا تكمن فقط في الإنتاج وفي زيادة فعاليته، بقدر ما تكمن في التوزيع، التوزيع المتفاوت للموارد والثروات والإمكانات. إذ إن 10% فقط من ثروات حفنة من أصحاب المليارات في العالم، كافية لسد حاجات المليار فقير من الغذاء والمتطلبات الأولية لحياة كريمة.

جوهر المشكلة

          تعتبر المشكلة الغذائية في العالم واحدة من المشكلات الكونية التي تواجهها البشرية جمعاء، لا بل ربما أكثرها حدة في عصرنا الراهن، كونها تمس  مباشرة حياة وبقاء مئات الملايين من الناس. وتُظهر معطيات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) مدى حدة وحجم المشكلة الغذائية، حيث تشير هذه المعطيات إلى أن عشرات الملايين في العالم مهددون بالموت اليوم، بسبب الجوع والأمراض الناجمة عن سوء التغذية، في حين أن أكثر من المليار ونصف المليار إنسان يعانون الجوع ومن مختلف أشكال سوء التغذية، بما في ذلك ما يسمى سوء التغذية «غير المرئي»، أو «الجوع الخفي». أي عندما تؤمن وجبات التغذية التقليدية الكمية الكافية من السعرات الحرارية، ولكنها لاتتضمن الحد الأدني الضروري من البروتينات والدهون، ذات المصدر الحيواني خصوصاً، وكذلك العناصر الدقيقة، وثمة تقديرات تفيد بأن ربع أطفال البلدان النامية يعانون في الوقت الراهن «سوء التغذية غير المرئي». ومن الواضح أن نقص هذه المكونات الغذائية البالغة الأهمية ينعكس سلباً على صحة الناس، وينجم عنه انخفاض نسبي في نوعية وكفاءة اليد العاملة، التي تكون في الغالب غير صالحة للعمل في قطاعات الاقتصاد العصرية.

          ثمة جذور تاريخية عميقة لمسألة تأمين الغذاء لسكان الكوكب، فقد رافق النقص في المواد الغذائية البشرية على مدى تاريخها كله، الذي كان على الدوام تاريخاً للكفاح من أجل القوت. ونُسجت الأساطير حول الجوع. فعلى سبيل المثال، تتحدث أساطير هنود أمريكا اللاتينية عن آلهة الجوع. أما الأساطير اليونانية القديمة فتروي أنه عندما فتحت «باندورا» العلبة التي أوكلتها إليها الآلهة، أفلتت منها كل العيوب البشرية والشرور، ومن بينها الجوع الذي انتشر في كل أنحاء الكوكب.

          إن وقوع الإنسان فريسة الجوع أو عدمه، يتوقف بالدرجة الأولى على «حقه في الغذاء» «أي على كمية الغذاء التي يمكنه الحصول عليها أو شرائها»، وليس فقط على كمية المواد الغذائية المنتجة أو المتوافرة في البلد أو المنطقة التي يقطنها. أي بكلام آخر، لا يكفي أن ينتج البلد أو يقتني المواد الغذائية بكميات وفيرة حتى يزول الجوع فيه تلقائياً، بل الأهم من ذلك أن تكون هذه المواد الغذائية متاحة لأفراد المجتمع. وهذا يتوقف على توافر فرص العمل لهؤلاء الأفراد، وعلى قدراتهم الشرائية، وكذلك - بالطبع - على أسعار تلك المواد الغذائية.

          في العصر الراهن تبرز حدة ومأساوية المشكلة الغذائية نتيجة لطابعها المتناقض. فمن جهة، يؤدي الجوع إلى هلاك الملايين: ففي النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين وحده هلكت بسبب الجوع أعداد من الناس، تزيد على كل الذين هلكوا خلال المائة والخمسين سنة السابقة بسبب الحروب والنزاعات المسلحة والقلاقل الاجتماعية. ويموت سنوياً بسبب الجوع والأمراض الناجمة عنه في العالم، أعداد من البشر أكثر بعدة مرات من أولئك الذين قتلوا نتيجة انفجار القنبلتين الذريتين، اللتين ألقتهما الولايات المتحدة الأمريكية على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. أما من جهة أخرى، فإن  مستوى تطور القوى المنتجة والتطورات العلمية والتكنولوجية المستخدمة في الإنتاج الزراعي، تجعل الإنتاج العالمي من المواد الغذائية قادراً عموماً على تلبية الحاجات الغذائية لسكان العالم كافة.

          إن المشكلة الغذائية ذات بعد عالمي شامل (كوني)، سواء من حيث طابعها الإنساني، أم من حيث ترابطها الوثيق مع المهمة المعقدة المتمثلة بتذليل التخلف الاقتصادي والاجتماعي في الدول المستعمرة سابقاً والتابعة. فعدم تلبية الحاجات الغذائية لعدد كبير من سكان البلدان النامية والمتخلفة لا يشكّل عائقاً أمام فرص التقدم فحسب، بل هو في الواقع مصدر دائم لعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي وللنزاعات في هذه البلدان. وتتجلى كونية المشكلة الغذائية على نحو آخر أيضاً. فإنتاج وتوزيع المواد الغذائية والمتاجرة بها بين الدول، تعتبر الشغل الشاغل للحكومات، إن لم يكن في كل بلدان العالم، ففي الغالبية الساحقة منها. وفي الوقت الذي تعاني بلدان الجوع وسوء التغذية، تسعى بلدان أخرى إلى تحقيق التوازن في الوجبات الغذائية وفي نوعية الغذاء، بينما تجهد بلدان معينة لحل مشكلة الفوائض في المواد الغذائية أو معالجة المشكلات الصحية الناجمة عن الإفراط في استهلاكها لدى بعض الشرائح الاجتماعية فيها.

مالتوس والمالتوسيون الجدد

          أكّد توماس روبرت مالتوس «1766 - 1834»، الباحث السكاني والاقتصادي الإنجليزي، في حينه أن ثمة علاقة وطيدة بين تطور عدد السكان وتطور كمية الإنتاج. ولكنه على النقيض من ابن خلدون الذي تحدث منذ القرن الرابع عشر عن الصلة الوطيدة بين عدد السكان ومستوى الحضارة، حيث إن عدد السكان يشكل عاملاً مهماً في تقسيم العمل والنمو، زعم مالتوس بأن نمو عدد السكان يفوق الزيادة في إنتاج المواد الغذائية، قائلاً بحتمية النقص في المواد الغذائية نسبة إلى زيادة عدد السكان، إذ «إن قوة السكان على التناسل أعظم من قوة الأرض على إنتاج القوت للإنسان». فقد اعتبر مالتوس أن عدد السكان يزيد وفق متوالية هندسية، بينما يزيد الإنتاج الزراعي وفق متوالية حسابية، مما يؤدي حتماً إلى نقص الغذاء والسكن.

          صاغ مالتوس نظريته حول السكان في كتابه «بحث في مبدأ السكان»، الصادر عام 1798. يقول مالتوس: «إن الرجل الذي ليس له مَن يعيله، والذي لا يستطيع أن يجد عملاً له في المجتمع، سوف يجد أن ليس له نصيب من الغذاء على أرضه. فهو عضو زائد في وليمة الطبيعة، حيث لا صحن له بين الصحون، فإن الطبيعة تأمره بمغادرة الزمن». أثارت هذه النظرية غير الإنسانية انتقادات حادة، كونها شكّلت أساساً نظرياً للكثير من الممارسات اللاإنسانية في عدد من الدول. ومبرراً للإبادة الجماعية لكثيرمن الشعوب. حيث أجبرت بعض العرقيات، كالسود والهنود الحمر في أمريكا، على إجراء التعقيم القسري.

          رحل مالتوس، ولكن نظريته ظلت تجد لها مناصرين جدداً، يرون أن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين المشكلة الديموجرافية والمشكلة الغذائية في العالم، معتبرين بأن نمو سكان الكوكب يجري اليوم بوتائر أسرع بكثير من وتائر نمو إنتاج المواد الغذائية. والجدير بالذكر أن المالتوسية تنتعش دائماً وتجد لها أنصاراً جدداً، كلما واجهت الرأسمالية أزمات جديدة. فيسعى هؤلاء لإثبات أن البؤس والجوع ليسا وليدي النظام غير العادل نفسه، وإنما هما نتيجة مباشرة لظهور أفواه جديدة وبأعداد كبيرة ومتزايدة على نحو يعجز الكوكب بموارده المحدودة والمتناقصة باستمرار عن إطعامهم. أحد هؤلاء المالتوسيين الجدد، وليام بلوم، يرى بأن عدد سكان الكوكب تضخم على نحو مبالغ فيه، ويقترح «تخفيض نسبة الولادة بصورة حادة، لأن خفض عدد السكان سيترك أثراً إيجابياً في ما يتعلق بمسألة تزايد الدفء على المستوى الكوني، وتوافر الماء والطعام».

          لتعليل رأيهم يقول «المالتوسيون الجدد» بأن البشرية احتاجت إلى 4 ملايين سنة لكي يصل عددها إلى ملياري نسمة، وإلى 46 سنة لتضيف إلى عددها مليارين آخرين، ثم إلى 22 سنة فقط لكي تضيف المليارين التاليين. لا ينفي المالتوسيون الجدد بأن نمو إنتاج المواد الغذائية في الماضي جرى على نحو أسرع من نمو عدد السكان، الأمر الذي أتاح زيادة حصة الفرد من المواد الغذائية، وذلك بفضل التطور التكنولوجي في المجال الزراعي. غير أنهم يزعمون بأن بداية القرن الحادي والعشرين شهدت أمرين جديدين مثيرين للقلق فيما يتعلق بإنتاج المواد الغذائية.

          أولهما، تمثل، حسب رأيهم، في أن نمو إنتاج المواد الغذائية أخذ يتباطأ تدريجياً (وهو أمر غير صحيح في الواقع)، مقترناً بعوائق تكبح تخفيض كلفة الإنتاج، وبالتالي الأسعار. والثاني، تمثل في ارتفاع الكلفة البيئية التي تدفعها الطبيعة والبشرية جمعاء، لقاء زيادة الإنتاج الزراعي. ويقول المالتوسي الجديد بول إيرليخ في هذا الصدد: «إننا إذ نحاول إطعام العدد المتزايد من أبناء جلدتنا، فإننا نعرض بذلك للخطر عموماً قدرة الأرض نفسها في الحفاظ على حياة ما على سطحها».

العوامل المؤثرة على الوضع الغذائي في العالم

          رداً على هذه المزاعم، يقول فريد ماغدوف في «The Monthly Review» إنه لا توجد أي علاقة بين وجود مئات ملايين الجياع في العالم ونمو عدد السكان. فالسبب الفعلي يكمن في النظام الرأسمالي نفسه، وفي آلية عمله والعلاقات الإنتاجية - الاجتماعية في داخله. ويؤكد بأن ما يُنتج في الولايات المتحدة من مواد غذائية يفيض عن حاجة سكانها، ومع ذلك يبقى الجوع مشكلة خطيرة. ولو تقلص عدد سكان الولايات المتحدة إلى النصف، فإن الفائض في المواد الغذائية سيزيد، ولكن الجوع لن يزول، وسيبقى هناك مَن يعاني الجوع وسوء التغذية حتى في الولايات المتحدة نفسها. والأمر نفسه ينطبق على البلدان الأخرى. ويضيف: إن الفقراء في الهند يعانون الجوع، فيما يتعفن فائض القمح في مخازنه. العوز وسط الرفاه: محاصيل هائلة وجوع متفاقم!

          خلافاً لمزاعم المالتوسيين، القدامى والجدد. ثمة أسباب وعوامل حقيقية تمارس تأثيرها على الوضع الغذائي في العالم، ساهمت وتساهم في تفاقم المشكلة الغذائية، لاسيما في البلدان النامية والمتخلفة. أول هذه العوامل يكمن في التقسيم الدولي للعمل الذي تكوّن تاريخياً، وموقع البلدان النامية في الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية، والوضع الذي وجدت هذه البلدان نفسها فيه، نظراً للإرث الاستعماري وما خلفه من نمط إنتاج فيها، أنفق على تسميته «نمط الإنتاج الكولونيالي»، نمط الإنتاج المشوّه، الأحادي الجانب، الذي يقوم على التخصص في إنتاج عدد محدود من السلع التقليدية، أو تلك الموجهة للتصدير والمرتبطة إلى حد التبعية الكاملة باقتصادات البلدان الصناعية المتقدمة.

          فعندما يتخصص بلد معين في إنتاج نوع واحد أو بضعة أنواع من الزراعات الصناعية، التي تُصدر حصراً إلى الدول الصناعية المتطورة كمواد أولية لتلبية حاجات اقتصاداتها، وتستورد في المقابل القسم الأكبر من حاجاتها من السلع الصناعية والمواد الغذائية من هذه الدول المتطورة، فإن هذا الوضع يتيح للدول الصناعية المتطورة التحكم في أسعار الصادرات والواردات على حد سواء «صادرات البلدان النامية من المنتجات الزراعية والمواد الأولية، ووارداتها من السلع الصناعية والمواد الغذائية». وفي النتيجة تكون محصلة التبادل الدولي في غير مصلحة البلدان النامية التي بالرغم من أن الغالبية الساحقة من سكانها تعمل في القطاع الزراعي، فإنها تجد نفسها عاجزة عن تلبية حاجاتها الضرورية من المواد الغذائية، في حين تتمكن البلدان المتقدمة من حل هذه المسألة إلى حد كبير، بالرغم من أن نسبة العاملين في الزراعة فيها لا تتجاوز الـ10% من مجموع الناشطين اقتصادياً فيها.

          إن تخلف غالبية البلدان النامية، الذي يتجلى في تدني مستوى تطور القوى المنتجة في الزراعة، وفي تخصصها الضيق في مجالي الزراعة وإنتاج المواد الأولية، وفي فقر السواد الأعظم من السكان وضعف قدراتهم الشرائية، يفاقم بدوره المشكلة الغذائية في هذه البلدان. فضلاً عن ذلك، فإن تركيز بعض هذه البلدان على إنتاج السلع الزراعية المخصصة للتصدير التي تخصص لها أفضل الأراضي وأكثرها خصوبة، على حساب المواد الغذائية التي لاتزال في الغالب تنتج في ظروف فلاحية تقليدية وبدائية، تتأثر إلى حد كبير بالظروف المناخية، كل ذلك يجعل إنتاجية العمل في القطاع الزراعي في هذه البلدان يؤمن الطعام لشخصين فقط في أفضل الأحوال، في حين أن مثيله في البلدان الغربية يطعم أكثر من 20 شخصاً. وتصل هذه النسبة إلى 80 شخصاً في الولايات المتحدة، وإلى 100 شخص في كل من بلجيكا وهولندا.

          والعامل الآخر الذي لا يقل أهمية في ظهور وتفاقم المشكلة الغذائية، والذي هو في الواقع نتيجة طبيعية للعامل السابق، يتمثل في الدور الذي تلعبه الشركات العابرة للقوميات في الاقتصاد العالمي، وفي اقتصادات البلدان النامية تحديداً. فهذه الشركات فرضت نفسها كلاعب رئيسي في أسواق المواد الغذائية، إنتاجاً وتسويقاً، حيث تمارس احتكار المواد الغذائية وتستخدمها في حالات عدة، كسلعة للمضاربة في أسواق أخضعت كل شيء للتسليع ولمنطق الربح: الأرض والماء والغذاء والدواء.. وربما الهواء!

          فقد صارت هذه الشركات تسيطر اليوم على مساحات شاسعة من الأراضي في الأرياف في البلدان النامية، سواء من خلال شرائها أو استئجارها لسنوات طويلة بمبالغ رمزية، أو من خلال الدخول كشريك مع جهات داخلية غالباً ما تكون قريبة من مراكز القرار في السلطة في البلد المعني. فتكسر هذه الشركات بنشاطها، نمط الإنتاج الزراعي التقليدي المتوارث في هذا البلد، وتعيد توجيه الزراعة فيه باتجاه زراعات عصرية «تصنيعية، أو ترفيهية كالزهور مثلاً» موجهة نحو التصدير، حارمة السكان المحليين من زراعاتهم المحلية التي تؤمن حاجاتهم الغذائية الضرورية، مع ما ينطوي عليه ذلك من تهديد للأمن الغذائي في البلدان النامية.

          ولا تعمل الشركات العابرة للقوميات على احتكار سوق المواد الغذائية في العالم فحسب، بل وتحدد أسعارها من دون ارتباط بقانون العرض والطلب في غالب الأحيان، ومن دون حاجة إلى السوق وإلى «اليد الخفية»، لهذه السوق «وليفعل آدم سميث ما يشاء!». فالغذاء ينتج ليس من أجل إطعام الناس، بقدر ما ينتج من أجل جني الأرباح القصوى. ولهذه الغاية تحدد الأسعار، بحيث تصبح المواد الغذائية الأساسية بعيدة عن متناول أعداد متزايدة من الناس في مختلف أنحاء المعمورة، وليس في البلدان النامية وحدها. فارتفاع أسعار المواد الغذائية، إذاً، وبنسب مفتعلة ومبالغ فيها في أحيان كثيرة، هو أحد الأسباب والعوامل التي تساهم في تفاقم المشكلة الغذائية في العالم.

          تجدر الإشارة إلى أن ثمة أسباباً أخرى، عديدة ومتداخلة، تساهم أيضاً في ارتفاع أسعار المواد الغذائية، كمحصلة لارتفاع كلفة الإنتاج الزراعي على المستوى العالمي. فالنمو السريع الذي تشهده اقتصادات بلدان كبيرة كالصين والهند فضلاً عن  بلدان أخرى، وتسارع وتيرة التصنيع فيها أدى، من جهة، إلى ارتفاع مستوى المعيشة في هذه البلدان، ومن ثم إلى ازدياد أحجام ونسب استهلاك المواد الغذائية فيها. كما أدى، من جهة أخرى، إلى تسارع الطلب على النفط فيها، وبالتالي إلى ارتفاع أسعاره، ومن ثم إلى ارتفاع أسعار مكونات أساسية للإنتاج الزراعي، كالبنزين وزيوت الآلات والأسمدة والمبيدات. كما أن ارتفاع أسعار الوقود يؤدي إلى ارتفاع كلفة نقل المنتجات الغذائية إلى الأسواق، ومن ثم ارتفاع أسعارها.

          ومن بين الأسباب التي تساهم في تفاقم المشكلة الغذائية في العالم تعزز الاتجاه نحو تطوير وإنتاج الوقود العضوي، خصوصاً في ظل الميل الثابت لارتفاع أسعار النفط والغاز، ومع إدراك حقيقة أن عصر النفط الرخيص قد ولّى، وأنه لابد من البحث عن أنواع بديلة من الوقود، وجدها البعض في القطاع الزراعي، فتتحول مساحات شاسعة من الأراضي في العديد من البلدان، النامية خصوصاً، من زراعة الحبوب والزراعات الغذائية الأخرى، إلى زراعات لإنتاج الوقود العضوي.

          وتلعب دوراً كبيراً في تفاقم مشكلة الغذاء في البلدان النامية أيضاً حقيقة تطور تكنولوجيا الإنتاج الزراعي في البلدان المتطورة، التي تحول بعضها إلى مصدّر للمنتجات الزراعية والمواد الغذائية. أي ما نشهده من تبدل في التقسيم الدولي للعمل، تحولت بموجبه دول صناعية متطورة إلى التخصص في إنتاج سلع زراعية على أسس علمية وتكنولوجية حديثة، وتصديرها إلى البلدان الأخرى بما فيها البلدان النامية، وبأسعار عالية. ويقترن ذلك مع لجوء حكومات الدول الصناعية المتطورة، سواء في الاتحاد الأوربي أو الولايات المتحدة أو اليابان، إلى تقديم الدعم وشتى أنواع الإعانات المباشرة والضمنية لمزارعيها.

          يضاف إلى ما تقدم، تسارع ظاهرة «التمدين» في البلدان النامية، أي نزوح أعداد واسعة من سكان الأرياف إلى المدن، وتجمع قسم كبير منهم في أحزمة بؤس تلف هذه المدن، مع ارتفاع مستوى البطالة فيها إلى مستويات غير مسبوقة، وتقلص عدد العاملين في القطاع الزراعي وانتقال الفئات الأكثر حيوية ونشاطاً اقتصادياً إلى قطاعات الاقتصاد الأخرى غير المنتجة للمواد الغذائية، وإهمال مساحات واسعة من الأراضي في الأرياف. وهي أمور تؤدي كلها إلى تراجع الإنتاج الزراعي في عدد كبير من البلدان النامية، وبالتالي إلى تقلص إمكانات التأمين الغذائي لسكانها.

هل من حل لمشكلة الغذاء في العالم؟

          إن حل المشكلة الغذائية في العالم يتطلب بالدرجة الأولى خلق الظروف الملائمة لزيادة إنتاج المواد الغذائية. وهذا يعني قبل كل شيء إجراء تغيير جذري في موقع البلدان النامية في التقسيم الدولي للعمل وفي التخصص الإنتاجي، خصوصاً في المجال الزراعي، والعمل على تنويع بنية الاقتصاد فيها بحيث تصبح قادرة على تأمين حاجاتها من الغذاء، سواء بتطوير الإنتاج أو بتوظيف القسم الأكبر من حاصلات صادراتها في تحقيق هذا الهدف. وهو يتطلب أيضاً التوسع في الأراضي الزراعية، والعمل على استصلاح أراض أخرى في مناطق مختلفة من العالم، والعمل على وقف الزحف العمراني على مساحات واسعة من أفضل الأراضي الصالحة للزراعة. كا أنه يفترض العمل على رفع إنتاجية الإنتاج الزراعي في البلدان النامية من خلال إتاحة الفرص لها لاستخدام أفضل الإنجازات العلمية - المعرفية والتكنولوجية التي توصلت إليها الدول المتقدمة في المجال الزراعي، والتي جعلت من هذه الدول مصدّراً للمنتجات الزراعية. فمن أجل حل أزمة الغذاء في العالم، على الدول المتقدمة التخلي عن أنانيتها، وعن «سرية المعرفة وحصريتها»، وتحديداً في مجال الإنتاج الزراعي، الأمر الذي يتيح زيادة إنتاجية الغذاء وتحسين نوعيته وتأمين القوت لمئات الملايين من الجياع، ومن الذين يعانون سوء التغذية في جميع أنحاء العالم.

          من الواضح أنه لا يمكن حل المشكلة الغذائية العالمية بجهود منعزلة ومتفرقة لبلدان محددة أو منظمات معينة، بل بفضل تضافر جهود دول العالم مجتمعة. ولا يجوز تناول هذه المشكلة بمعزل عن تحليل ومعالجة المشكلات الكونية الأخرى، كمشكلة الحرب والسلم «نشير هنا إلى التأثير السلبي على الأمن الغذائي، الذي تمارسه النزاعات الحربية وتعاظم الإنفاق العسكري بما في ذلك في الكثير من البلدان النامية» والمشكلة الديموجرافية ومشكلة الطاقة والمشكلة البيئية. فكلها مشكلات مترابطة تصيب المجتمع الدولي بأسره، وعلى حلها يتوقف مستقبله ومصير أبنائه. فكما قيل في افتتاح «قمة الجوع» في روما «إن أزمة الغذاء اليوم هي نداء تحذيري للغد»، وإن حلها «يتطلب رؤية كونية واحدة».

          وأخيراً، فإن المشكلة الغذائية إنما هي مشكلة ملحة متعددة الجوانب والأوجه، يتجاوز حلها أطر القطاع الزراعي وحده. إن حل المشكلة الغذائية لا يرتبط فقط بزيادة الإنتاج وتخفيض كلفته، بل وبوضع استراتيجية للاستخدام العقلاني للموارد الإنتاجية، تقوم على فهم الجوانب النوعية والكمية لحاجة الإنسان في الغذاء. وتبرز إلحاحية معالجة المشكلة الغذائية المتفاقمة، ليس فقط نتيجة لعواقبها الكارثية على حياة مئات الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم، بل وكذلك لانعكاساتها الخطيرة على الأمن والاستقرار في الكثير من البلدان وعلى المستوى الدولي عموماً.

 

 

محمد دياب