الزلازل لا تقتل سوى الفقراء

الزلازل لا تقتل سوى الفقراء
        

          في 12 يناير الماضي، ضرب زلزال بقوة 3.7 على مقياس ريختر هاييتي، أفقر دولة في النصف الغربي من الكرة الأرضية، محولا عاصمتها بور أوبرنس ومدنها الأخرى إلى أكوام من الركام والموت والألم.

          على مدى أكثر من شهر، تناقلت وكالات الأنباء قصصا مرعبة عن الدمار الذي خلفه الزلزال، ومعاناة الضحايا، والجهود الدولية لإغاثتهم. وأعلنت حكومة هاييتي بعد أربعة أسابيع أن عدد قتلى الزلزال المدمر قد بلغ 230 ألفا، وأوقع أيضا حوالي 300 ألف جريح، بينما بترت أطراف نحو 4 آلاف شخص. وقالت وزيرة الاتصالات في حكومة هاييتي ماري لورنس جوسلين لاسيغ: إن هذا العدد ليس العدد النهائي، لأنه لا يشمل التقدير الأخير للقتلى الذين تولت أسرهم أو دور الدفن الخاصة دفنهم في مقابر خاصة. وهو ما يجعل عدد ضحايا زلزال هاييتي يقترب من عدد الذين قتلوا جراء موجات التسونامي العملاقة التي ضربت أجزاء من جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي في السادس والعشرين من ديسمبر 2004، والتي راح ضحيتها أكثر من ربع مليون إنسان.

          لكن المأساة الحقيقية التي تجاهلها كثيرون هي أن الفقر، وليس غضب الطبيعة، هو من قتل كل هؤلاء. فلو ضرب زلزال بهذه القوة اليابان، على سبيل المثال، لكان خبرا عاديا يذاع في أواخر نشرات الأخبار لأنه لم يكن ليسفر إلا عن إصابات بسيطة وخسائر طفيفة. فالكل يعلم أن الزلازل لاتقتل، لكن المنازل هي التي تفعل ذلك. لذا كانت أحياء ، بل مدن الصفيح في هاييتي فخاخ موت حقيقية قتلت هذا العدد الهائل من البشر وشردت ملايين آخرين.

          وفقاً للأرقام الصادرة عن «مركز بحوث الأمراض الوبائية الناتجة عن الكوارث, The Centre for Research on Epidemiology of Disasters (CRED، ومقره بلجيكا، فإن عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم بسبب الزلازل خلال السنوات العشر الماضية يفوق عدد الضحايا الذين سقطوا بسبب كل الكوارث الطبيعية الأخرى.

احصاءات كارثية

          وكان ما يقرب من 60 بالمائة من الأشخاص الذين لقوا حتفهم بسبب الكوارث الطبيعية بين العامين 2000 و2009 قد قضوا في زلازل، و22 بالمائة بسبب العواصف والأعاصير و11 بالمائة بسبب درجات الحرارة القاسية «ارتفاعا وانخفاضا».

          ومن ناحية أخرى، أضرت الفيضانات بسبل عيش 44 بالمائة من مجموع الأشخاص الذين تعرضوا للكوارث الطبيعية والبالغ عددهم مليارا نسمة، تلاها الجفاف بنسبة 30 بالمائة، في حين لم تؤثر الزلازل سوى على أربعة بالمائة من هؤلاء الأشخاص.

          وتقول مارجريتا وولستروم، ممثل الأمين العام للأمم المتّحدةِ الخاصِّ بالحد من من مخاطرِ الكوارث: «كانت الزلازل الخطر الطبيعيَ الأكثر قتلا في السَنَوات العشْر الماضية، وستبْقى تهديدا خطيرا لملايينِ الناسِ حول العالم، خاصة مع وقوع ثمان من أكثر عشر مدن اكتظاظا بالسكان على خطوطِ الصدوع الزلزالية».

          وتضيف: «إن الحد من مخاطر الكوارث هو استثمار لا غنى عنه لكل مدينة ومجتمع معرضين للزلازل. والخطر الزلزالي خطر دائم ولا يُمْكن تجاهله. والزلازل يُمْكِنُ أَنْ تَحْدثَ في أي مكان وفي أي وقت كان. وسيكون تخفيض الأخطار أولوية رئيسية في عمليةِ إعادةِ بناء هاييتي، ونحن سَنَعْملُ مَع شركائِنا لضمان بأن يكون محورا لعملية إعادةِ البناء».

          ووفقا لبيانات «مركز بحوث الأمراض الوبائية الناتجة عن الكوارث»، فإن 3.852 كارثةَ طبيعية قد قتلت أكثر من 780 ألف شخص خلال السَنَوات العشْر الماضية «قبل زلزال هاييتي»، وأضرت بحياة أكثر مِنْ بليوني إنسان، وتسببت في خسائر اقتصادية تزيد على 960 بليون دولار أمريكي على أقل تقدير.

          وفيما يتعلق بالخسائر البشرية، فإن آسيا هي التي ضربتها الكوارث الطبيعية مراراً وتكراراً خلال العقد الأخير، واستأثرت وحدها بخمسة وثمانين في المائة من الوفيات.

          وكانت الكارثة الطبيعية الأكثر قتلا خلال العقد المنصرم هي تسونامي المحيط الهندي، الذي ضَرب عِدّة بلدان في آسيا في العام 2004 مخلفا وراءه 226,408 قتلى؛ يليها الإعصار «نرجيس»، الذي قَتلَ 138,366 شخصَ في ميانمار في العام 2008؛ ثم زلزال سيشوان في الصين في العام 2008، الذي تسبب في وفاة 87,476 شخص، ثم زلزال باكستان في العام 2005، الذي قتل . 73,338 شخص، ثم موجة الحر التي اجتاحت أوربا في العام 2003 مخلفة وراءها 72,210 قتلى.

الأكثر قتلاً

          وتقول البروفيسور أديباراتي جوها - سابير مديرة «مركز بحوث الأمراض الوبائية الناتجة عن الكوارث»: «إن عدد الأحداث المأساوية التي وقعت في العقد المنصرم «2000-2009» قد زادت بأكثر من الضعف مقارنة بالعقد «1980-1989». وعلى النقيض من ذلك، فإن عدد الضحايا الذين تأثروا بهذه الكوارث قد زاد بنسبة أقل بكثير. وربما يعود ذلك إلى التقدم في استعداد المجتمعات لمواجهة مثل هذه الكوارث».

          أما الأكثر من بليوني شخص الذين تضرروا بسبب هذه الكوارث، فإن 44 في المائة منهم تأثروا بسبب الفيضاناتِ، و30 في المائة بسبب موجات الجفافِ، بينما أضرت الزلازل بنسبة 4 في المائة منهم فقط. ووصل المتوسط السنوي لعدد الوفيات بسبب الكوارث الطبيعية في العقد المنصرم إلى 78 ألف شخص، وهو أعلى بكثير من المتوسط نفسه في العقد الذي سبقه «عقد التسعينيات»، والذي قدر بنحو 43 ألف قتيل. لكن المتوسط السنوي لعدد القتلى في عقد الثمانينياتِ فقد وصل تقريبا إلى 75 ألف قتيل بسبب موجات الجفافِ والمجاعة التي ضربت إثيوبيا والسودان. أما المتوسط السنوي لعدد الكوارث الطبيعية في الفترة 2000 -2009 فقد وصل إلى 385 كارثة، مقارنة بمعدل سنوي 258 كارثة في العقدِ 1990-1999 ، و165 كارثة في العقدِ 1980-1989.

          وكان المتوسط السنوي للخسائر الاقتصادية الناجمة عن الكوارث الطبيعية في العقد المنصرم هو 96 بليون دولار أمريكي. وهو أكثر من ضعفي المتوسط نفسه في عقد الثمانينيات (39 بليون دولار)، لكنه يبقى أقل بعض الشّيء من متوسط الخسائر السنوية في العقد السابق «1990-1999»، والتي قدرت بنحو 99 بليون دولار.

          وفي العام 2009، كان العدد الإجمالي لمن قتلوا أو أضيروا بسبب الكوارث الطبيعية أقل من عددهم في العام 2008، الذي لم يشهد كوارث كبرى. 327 كارثة قتلت 10.416 شخص، وتضرر منها تقريباً 113 مليون آخرِون، وسبّبتْ ما مجموعه 34.9 بليون دولار من الأضرار الاقتصادية.

          وتبْقى أرقامُ 2009 أيضاً أوطأ بكثير من متوسط السنوات 2000-2008، التي كَانتْ 85.535 «وفاة»، وتضرر 229.792.397 شخص، وخسائر اقتصادية 102.7 بليون دولار.

          وكانت الكارثة الأكثر قتلا هي الزلزال الذي بلغت قوته 7.6 درجة على مقياس ريختر وضرب جزيرة سومطرة في إندونيسيا في 30 سبتمبر الماضي وقتل أكثر من 1100 شخص. وعلاوة على ذلك، تسببت الأعاصير (موراكوت)، و(كتسانا)، و(بارما) والعديد من الفيضانات في الكثير مِنْ الوفيّاتِ في آسيا، الأمر الذي جعلها مجددا القارة الأكثر تضررا من الكوارث الطبيعية. وكانت ستة من البلدان العشرة الأكثر احتواء على وفيات ناجمة عن الكوارث الطبيعية تقع في آسيا.

إدارة الكوارث

          وتقول البروفيسورة جوها -سابير: «إلى حد بعيد كان معظم المتضررين ضحايا لكوارث متعلقة بالمناخ، مثل الفيضاناتِ والأعاصير. ورغم أن هذه الكوارث مناخية في طبيعتها، فإن تأثيراتها على التجمعات البشرية تتحدد من خلال عوامل غير مناخية، مثل التوسع الحضري، والتخطيط العمراني، وإزالةِ الغابات». ويؤكد (مركز بحوث الأمراض الوبائية الناتجة عن الكوارث) أَنّه يمكن إدارة هذه العواملِ على نحو يقلل من عواقب هذه الكوارث الطبيعية.

          والواقع أن تأثيرات الزلازل تكون فادحة وفورية لكونها تضرب بصورة مفاجئة، وبالتالي تزهق عدداً أكبر من الأرواح مقارنة بالكوارث الطبيعية الأبطأ مثل الفيضانات والجفاف التي يملك الأشخاص فيها بعض الوقت للاستعداد والتكيف.

          وتتابع البروفيسورة جوها-سابير قائلة: «إن المنطقة التي يؤثر فيها الزلزال تكون صغيرة نسبياً مقارنة بالفيضانات والأعاصير التي تدمر مساحات واسعة ولكنها تسبب عدداً أقل من الوفيات المباشرة».

          وتقع ثمانية من مدن العالم العشر الأكثر اكتظاظاً بالسكان على خطوط الصدع التكتونية وهي: العاصمة اليابانية طوكيو، العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي ومدينة نيويورك في الولايات المتحدة، ومدينة شنغهاي في الصين، والعاصمة الإندونيسية جاكرتا وثلاث مدن في الهند هي مومباي وكلكتا والعاصمة نيودلهي.

          وكان «تقرير التقييم العالمي بشأن الحد من مخاطر الكوارث»، الذي أصدرته الأمم المتحدة في مايو الماضي، قد حدد ثلاثة محركات أساسية للمخاطر: وهي التنمية الحضرية غير المخططة وسبل المعيشة القابلة للتضرر وتدهور النظم البيئية في نطاق تغير المناخ، مؤكدا أنه إذا لم يتم الاهتمام بهذه القضايا ستحدث زيادات جمة في مخاطر الكوارث واستمرار الفقر. 

صورة واقعية

          وقد رصد هذا التقرير أهم ملامح الصورة المأساوية التي يجسدها واقع الكوارث الطبيعية في كوكبنا على النحو التالي:

          - من الناحية المطلقة فقد ازدادت المخاطر العالمية المرتبطة بالفيضانات بين عامي 1990 و2007 بنسبة 13% «من حيث عدد الوفيات» و35% «من حيث الخسائر الاقتصادية» وذلك بسبب نمو تعداد السكان المتسارع  ونمو الناتج المحلي الإجمالي، أما من الناحية النسبية فإن معدلات المخاطر قد ظلت على المستوى نفسه وقد تكون حتى في انخفاض.

          - إن مخاطر الكوارث يتركز بصورة كبيرة في البلاد الفقيرة والتي تفتقر لحوكمة جيدة. وتتركز أعلى درجات المخاطر في مساحة صغيرة جدا من مساحة الأرض. وعلى سبيل المثال، تعاني بنجلاديش والصين والهند من 75% من إجمالي عدد  الوفيات من جراء الفيضانات على مستوى العالم.

          - مخاطر الكوارث ليست موزعة بالتساوي ويتحكم فيها محركات عديدة تتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية لكل دولة. وعلى الرغم من أنه بالتقريب يتعرض العدد نفسه من سكان اليابان والفليبين إلى الأعاصير الاستوائية فإن عدد الضحايا في الفليبين سيكون 17 مرة أكثر من اليابان.

          - تعاني الدول ذات الاقتصاديات الصغيرة والقابلة للتضرر «مثل الجزر النامية الصغيرة والدول النامية من دون سواحل» من أعلى درجات القابلية للتضرر من جراء الأخطار الطبيعية وكذلك قدرة محدودة على المجابهة والتعافي التي تعوق عملية التنمية. وتعاني فانواتو في المحيط الهادي أعلى نسبة وفيات سنوية من الأعاصير في العالم، بينما تحتل جزر سانت كيتس ونيفيس المكان الثالث.

          - إن تزايد تكرار الأحداث الأقل حدة «الأحداث التي تؤدي إلى وفاة أقل من 50 شخصا وتدمير أقل من 500 منزل» قد يدل على قرب حدوث كارثة كبيرة حيث إن  تلك الخسائر تعني تراكم المخاطر التي ستنتج عند وقوع الكارثة.

          - تعاني المجتمعات الأكثر فقرا نسبة غير متساوية من الخسائر. إن العائلات الفقيرة لديها قدرة أقل على المجابهة ولا يغطيها التأمين أو الحماية الاجتماعية. وقد تعرض أكثر من مليوني منزل في المكسيك لعائلات فقيرة إلى خسائر من جراء الكوارث منذ عام 1980 بسبب الأخطار المتعلقة بالطقس والدائمة التكرار.

          - إن مخاطر الكوارث المتعلقة بالطقس يزداد بسرعة من حيث المناطق التي تتأثر والخسائر ودرجة تكرار حدوث الكوارث. وبدراسة 12 دولة في آسيا وأمريكا اللاتينية ظهر أن 97% من الخسائر على مستوى البلديات كانت من جراء الأخطار المتعلقة بالطقس.

          - يؤثر تغير المناخ على التوزيع الجغرافي للكوارث ذات الصلة بالطقس وكذلك حدتها ومدى تكرارها مما يهدد قدرة الدول الفقيرة ومجتمعاتها على مجابهة الكوارث والتعافي منها.

          - إن الطريقة التي تدير بها الدول للحد من مخاطر الكوارث لا تدمج اعتبارات المخاطر في عملية التنمية.

          - يتعين ربط الأطر السياسية والمؤسسية ذات الصلة بتغير المناخ ومكافحة الفقر بصورة أفضل بتلك الأطر ذات الصلة بالحد من مخاطر الكوارث وذلك على المستويين الوطني والدولي.

 

 

أحمد خضر الشربيني   





الزلازل حولت هاييتي إلى أكوام من الركام





الكوارث البيئية تتحالف مع الفقر ضد سكان المدن الفقيرة





ضحايا الزلازل في العالم يفوق عدد ضحايا الكوارث البيئية كافة





مدن الصفيح في هاييتي وغيرها، فخاخ موت مروعة





مخاطر التنمية الحضرية غير المخططة تهدد اقتصاديات العالم





مخاطر التنمية الحضرية غير المخططة تهدد اقتصاديات العالم