عبد الحي مسلّم.. ذاكرة الشعب الفلسطيني

عبد الحي مسلّم.. ذاكرة الشعب الفلسطيني
        

          تجربة الفنان الفلسطيني عبد الحي مسلم لها نمط خاص، فهو لم يدرس الفن ومنذ بداياته في الرسم عندما كان ضابطا في الجيش، كان أحيانا مثارا لسخرية البعض، لكنه أصر على المتابعة وخاصة بعد عمله على نشارة الخشب والغراء التي بها استمر بتجربته التي أوصلته إلى عالم الفن. بأدواته البسيطة استطاع خلق عالم تشكيلي خاص، بمعنى آخر، إنه كما يقول بملعقة الشاي وقطعة حديد استطاع رسم القضية الفلسطينية.

          يحمل عبد الحي مسلم تقاسيم خاصة، هي فلسطينية في شكله وفي روحه، وفي نظرته ثمة إيحاءات كثيرة تتقاسمها معه حالما تبدأ بشرب الشاي برفقته، ويحمل أيضا الفنان مسلم الكثير من الأريحية والبساطة والنقاء الإنساني الذي يؤمّن لك اتصالاً مباشراً دون تكلف وعناء.

          أن تتعرف على الفنان يعني أن تتكئ على الطمأنينة، وهو كما هو في فنه وفي حياته دون أدلجة، وعندما تحاوره تذوب الأفكار المسبقة لمصلحة واقع جديد يتسم بالعفوية والبساطة.

          السمة الرئيسية التي تعنون حياة عبد الحي مسلم في أنه يعيش ويتفاعل مع حاضره لأجل ماضيه، يمارس حياته اليومية وفلسطين في قلبه وروحه، يلتقي معها في الصباح والمساء، فلسطين الذاكرة هي مستقبله الحالم التي يراها في الشارع وبين البيوت وأحيانا يقول لك : هذا الرصيف أو النافذة أو هذا الطعام يذكره بوطنه، وذات مساء كانت الأمطار شديدة، شكلت سيولا جرفت معها الطين، شعر تماما أنه في فلسطين، إنه الوطن الذي يبحث عنه في كل شيء، وفي كل التفاصيل تلك الطاقة الحيوية تجاه وطنه وطفولته وذكرياته كانت قد تفجرت في الفن الذي كان بمنزلة الوطن البديل.

مع الحلاج

          وكانت كافية، ملعقة الشاي الصغيرة مع نشارة الخشب، أن تقوده إلى هذا التفجر الإبداعي الذي حالما توضع على السكة كما عبر الحلاج ذات مرة يمشي دون توقف نحو فلسطين.

          لا يمكن أن نتكلم عن عبد الحي مسلم دون التفكير بالفنان الراحل مصطفى الحلاج، ذلك الرجل النادر، حيث جمعت الاثنين صداقة ولقاء يوميا في صالة ناجي العلي بدمشق التي كان يديرها الحلاج حين ذاك ويعمل معه فيها المسلم، ودوما وما إن تنزل الدرج المؤدي إلى الصالة حيث في نهايته فسحة سماوية تغطيها دالية وتتوزع فيها بعض الورود والنباتات المختلفة، كان الاثنان يهتمان بالحديقة الصغيرة وبتشكيلها ودوما في صباحات الصيف يجلسان لتناول القهوة وقلما لا تجد زائرا يطل ليشاركهما القهوة والحديث.

          كلا الفنانين جاءا من منطقة نائية في التفكير وأسلوب العمل، وفي التجربة، وجاء زمن ليكونا في فضاء مر عليه الكثيرون واستفادوا منه أيضا وأصبح هذا المكان ملتقى أشبه بوطن، وبات حلما وذاكرة بعد رحيل عبد الحي مسلم إلى الأردن التي طالما حلم بالعودة إليها، وبرحيل الحلاج من شباك الحرائق.

اللغة التشكيلية

          يعوّل البنيوي الفرنسي ليفي شتراوس على الفنون التقليدية في البقاء والاستمرار، وقد ثبت أن الأعمال ذات الصلة بالجذور والموروث الشعبي تبقى حية، ربما يندرج في هذا الفهم الفن الفطري، أو الساذج كما يسمى، في هذا المنحى استطاع هذا الفن أن يشكل حضورا مهما منذ تأسيس الحداثة، وذلك لاقترابه من الصدق الإنساني ونزوعه نحو التعبير عن البدائية، حيث كشفت الدراسات أن ذلك الاقتراب والغوص في التجربة الإنسانية تطلب قرابة أو صلة ما مع الفنون القديمة.

          إن أغلب الفنانين الفطريين جاءوا من مهن مختلفة ومصادفة ما قادتهم إلى العمل الفني، حيث ثمة موهبة كامنة يأتي الوقت المناسب لظهورها، ربما هذا ما ينطبق على الفنان عبدالحي مسلم الذي كان يعمل بسلاح الطيران وقد غادره نحو الفن، دون دراسة أكاديمية مسبقة وهذا أمر مهم أحيانا للوصول إلى صياغة تشكيلية ممسكة بالجانب الفطري أو الطفولي، وربما هنا يلعب الفن دور السحر كما كان منذ نشأته، من هذه الزاوية نستطيع أن نشكل أرضية لقراءة أعمال عبدالحي التشكيلية التي أخذت محورين تجلى الأول وهو سياسي في تناوله للقضية الفلسطينية بكامل أبعادها، أما الثاني فهو ذاكرته أو ذاكرة فلسطين التي تناولت التراث الفلسطيني بموضوعاته المختلفة.

          في أعمال عبدالحي مسلم عموما وخاصة المتعلقة بالموروث الشعبي تتسم بخصائص تشكيلية هي واضحة المعالم للمتلقي، حيث تعتمد على النحت البارز بواسطة نشارة الخشب والغراء، ويتم تلوينها فيما بعد وهي تقنية ابتكرها واشتغل فيها بمفرده، لذلك فعمله هو مزيج بين النحت والتصوير، ومن حيث الشكل الفني هو استمرار للإرث البصري لمنطقة بلاد الشام، حيث دون دراية منه ربما، أو هي نوع من استمرار الصور القديمة في أعماله المتجذرة بالتراث وفي مجمل أعماله، والجانب الآخر كان في اشتغاله على الموضوعات التي تتعلق بالعادات والتقاليد من أفراح ومناسبات مختلفة. مرفقا عليها الكتابات والأغاني الشعبية التي هي بنت المنطقة بتاريخها العائد إلى ماقبل الميلاد، كما بينت العديد من الدراسات حول هذا الموضوع.

          أن الأغاني المرتبطة مثلا بلوحات (العرس) تعكس تراثا شفويا فيه من البساطة لكنه في الوقت نفسه عالي العمق وتأتي أهمية هذه الأعمال في أنها تثبت على سطح اللوحة التراث قبل أن يندثر.

          في شغل عبد الحي مسلم هدوء وصفاء وأناة في تلوينه للعناصر، يعمل كأنه يبني وطنا من جديد تخرج الشخصيات من ذاكرته واحدة تلو الأخرى بترتيب جديد وألوان ناصعة، لكنها أحيانا مثقلة بالصمت والسكون، وقد عكس ذلك عمل «دار أم عبد الحي» حيث نجد الانفراد لكل شخصية بجوانيتها الخاصة التي تعكس روحا ميتافيزيقية، ثمة قامات فرعونية بعض الشيء وأحاسيس خاصة جدا للشخصيات الذين يزاولون أعمالا مختلفة، وهناك إيقاع للتكوين غير حركي ويعمل على اصطفاف الشخصيات بتراتبية حيث في مقدمة العمل يجلس النساء بوضعيات مختلفة تعمل نوعا من الارتكاز البصري للعناصر الإنسانية الأخرى في اللوحة وللمفردات الخلفية، وأراد عبد الحي أن يخبئ نفسه في شجرة الرمان كما كان يفعل في طفولته لكنه خبأ نفسه بعض الشيء عن عين المتلقي.

          وبالروح والإحساس نفسه في العمل المذكور يشتغل الفنان عمل «شم النسيم» لكن بإتقان لوني فطري عالي الحساسية وهو يعكس ذلك الغنى البصري والثراء اللوني، الخلفية الخضراء على الأصفر في أسفل اللوحة والشخصيات الملونة بألوان نقيضة ومكملة أحيانا، أعطت حيوية سحرية للوحة، تلك السمات اللونية نجدها في عمل «لباس خمس مناطق من فلسطين» وفي الأعمال التي تناولت الزي في مناطق مختلفة في فلسطين، وفي هذه اللوحات يرصد عبدالحي الزي الفلسطيني لشخصيات مرتبطة ببعض الحكايا، والمهم في هذه الأعمال من الناحية التشكيلية الهدوء والصمت في الشخصيات والحركة الثابتة كما في أعمال النحت في مدينة ماري المتقاربة معها في تكحيل العيون التي تعطي نظرة ماورائية للوجود ونظرة للحياة، كما تعبر عن نوع من الصلاة أو التأمل، ثمة تقارب ربما لم يقصده الفنان، وما نجده أيضا في هذه الأعمال التنظيم الدقيق لبناء الشكل وللعناصر وفي الرسم والتلوين للزخرفة وإطارات على جوانب اللوحة وأحيانا يملأ الفراغ ببعض المفردات البصرية مثل / الأواني، مرآة، طبق قش،.

          في عموم أعمال المسلم تبدو روحه مسكوبة فيها، حديث أصابعه الصامتة بكلام كثير إنه عبد الحي الذي حلم بأن يكون فنانا وعلى طريقته، قد حقق ذاته وأصبحت أعماله وطنا على رصيف الحلم، وشاهدا على وطن مسلوب، لكنه مسكون في ذاكرته وأعماله، وربما نحلم معه في أن تدور عجلات حياته كما الكثيرين نحو الوطن، نحو فلسطين.

 

 

 

سامر اسماعيل   




العائلة أغنية التاريخ، تمتد بين الأجيال وتربط الواقع بالخيال





صور لطقوس حياتية تنقرض لكنها تبعث من جديد من أعمال الفنان الفلسطيني





الحرف واللون صنوان في أعمال عبدالحي مسلم





الأزياء التقليدية جزء أصيل من الذاكرة الشعبية





مشاهد الحياة اليومية في مجتمع نسيجه حب الحياة