توماس غينسبورو والسيدة شيريدان

توماس غينسبورو والسيدة شيريدان
        

          عندما رسم الفنان الإنجليزي توماس غينسبورو  صورة «اللايدي آلستون»  في مطلع ستينيات القرن الثامن عشر  كان يقيم في بلدة باث في غرب إنجلترا حيث بدأت شهرته في رسم الشخصيات، أما صورة «السيدة ريشارد شيريدان» التي رسمها في عام 1786م، أي بعد أكثر من عشرين سنة على اللوحة الأولى، وقبل وفاته بسنتين فرسمها، بعدما بلغت تجاربه ونجاحاته ذروتها في رسم الصور الشخصية الفردية والجماعية، والمناظر الطبيعية أيضاً.

          ولو بدأنا بمقارنة المقاييس للاحظنا فوراً أنها تكاد تكون متطابقة في اللوحتين: «226 × 168  سم» للوحة الأولى، و«220 × 154 سم» للوحة الثانية. وهي المقاييس التي غالباً ما اعتمدها فان ديك نفسه في القرن السابق، لأن رسم الأشخاص بمقاساتهم الحقيقية أو القريبة من الحقيقة، يضاف إليها بضعة سنتيمترات فوق الرأس أو تحت القدمين، تعطي انطباعاً للمشاهد أنه أمام شخص كبير، وبالتالي أمام مكانة كبيرة. وفيما عدا المقاييس، فإن كل ما في هاتين اللوحتين يختلف في الواحدة عن الأخرى، ولايجمعهما غير العبقرية الواحدة التي نبعتا منها. أما اللوحة الثانية فتكاد لا تمت بصلة إلى الأولى.

صورة السيدة شيريدان

          وإذا بدأنا بالوضعية التي تتخذها «السيدة شيريدان» لوجدنا أنها عفوية أكثر مما هوعليه الحال في اللوحة الأولى. كما أن ثوبها عادي جداً، ويفتقر إلى أبهة ثوب اللايدي آلستون. وفي ما يتعلق بالخلفية الطبيعية التي تحيط بها، تبدو هذه الطبيعة منظمة ومهندسة أكثر مما هو الحال في اللوحة السابقة. ولاتخلو هذه اللوحة أيضاً من إحساس بالحركة، بفعل النسيم اللطيف الذي ينفح في قماش الموسلين الذي يلف عنق السيدة، وأقل من ذلك في شعرها. وفي ذلك يعد استجابة أو تجسيداً للمزاج الجديد الذي بات يميز النخبة الاجتماعية في بريطانيا آنذاك، وهو مزاج يتسم بحساسية تقارب أحياناً العاطفية، وهو ما سينفجر خلال السنوات القليلة اللاحقة، رومنطيقية في الشعر والرسم والأدب. ولكن الفارق الأكبر ما بين هاتين اللوحتين هو التقنية التي اعتمدها الفنان في رسم كل منهما. ففي حين تبدو ضربات الفرشاة في اللوحة الأولى  دقيقة ومحددة. فهي في اللوحة الثانية تبدو مضطربة مهتزة، وتتكرر أحياناً كما لو أن هناك خطأ استدعى الإصلاح. علماً أنها متعمدة، وليست نتيجة أي خطأ. فقد طوَّر غينسبورو خلال نضجه الفني، تقنية تقضي بتعليق فرشاة الرسم على عصاة طولها نحو ستة أقدام. تسمح له بالوقوف على مسافة واحدة من النموذج ومن اللوحة... ومثل هذه التقنية تفترض حتماً تكرار الخطوط كما لو كانت اللوحة رسماً تحضيرياً. ولكن سيطرة غينسبورو على هذه التقنية بلغت مستوى عالياً، فما عاد بحاجة إلى الاقتراب من اللوحة إلا لتحديد المعالم الدقيقة في الوجه. أما الباقي، فراح يتركه بكل ما فيه مثل هذه الضربات الحرة، التي قال عنها الرسام البريطاني الشهير جوشوا رينولدز: «عندما تقترب من هذه اللوحات، تبدو ضربات الفرشاء مترددة خائفة وخائبة، ولكنك عندما تبتعد عنها قليلاً، ترى أنها كلها تقع في المكان المناسب».

 

 

 

عبود عطية   




توماس غينسبورو (1727-1788)، «اللايدي آلستون»، حوالى العام 1760م، (226 × 168 سم) متحف اللوفر باريس. صورة «السيدة شيريدان». (1786م)، (220 × 154 سم)، متحف الناشيونال جاليري، واشنطن