رسالة إلي

نار تأكل نفسها

هذه مجموعة من الرسائل كتبتها ولم يقدر لها أن تصل إلى أصحابها والحمد لله

سيدي..

صدقني إذا قلت لك إنني أكتب لك وأنا مثقل القلب منقبض الصدر، فما كنت أريد أن يأتي ذلك اليوم الذي أراك فيه على غير ما كنت من قبل. وما كنت أنتظر أني سأسمع عنك كل هذا الذي سمعته. صدقني، إنه ليس سهلا ولا ميسورا أن أجد نفسي أنظر إليك على نحو ما أنظر، وأن أراك على نحو ما أراك الآن، فذلك يشعرني بأن ركنا قد انهدم وأن هذا الركن الذي هو أنت هو جزء من كياني ووجداني ومشاعري، فهل تراه سهلا؟ إذا كنت تراه كذلك فما أنا بالمصدق أن كل ذلك يمكن أن يكون.

انسحاب القناعة

مازلت أذكرك مضيء الوجه عامر القلب مستقيما كالسيف، يملأ عليك شعاب نفسك نوع من الرضا لا يخلو من تطلع مشروع وطموح في غير قفز ولا عجلة.

ومرت سنون وجيء بك لكي تحمل جزءا من الهم العام، بعد كارثة ليس مثلها كثير من الكوارث والمصائب، وأبليت بلاء حسنا، وحملت ذلك الهم سعيدا به قادرا عليه. موقنا أنك له، ذلك أنك قد أهّلت نفسك لكي تحمل كبار الهموم.

ومضى عام وراء عام وأنت هناك، وبدأ بعض التغيرّ يتسرب إليك، وهذا أمر طبيعي فالتغيرّ سنة الحياة. وقال أناس إنك أصبحت أنيسا وديعا محبا للمنصب حفيّا به حريصا عليه. وقال آخرون إن المنصب أصبح بدوره مصدر خير وفير. وزاد بعض الخبثاء أن هذا الخير ليس كله خيرا مبرورا.

ولم أشأ أن أصدق فيك إلا ما كنت أحب أن أصدقه. وكنت أنا في أغلب ذلك الوقت بعيدا عن أرض الوطن، أقوم بعمل في بلد من بلاد الحضارة. وكانت أخبارك تأتيني عن طريق القادمين من الوطن أو عن طريق الصحافة أحيانا، فقد أصبحت بحكم موقعك وكأنك نجم من نجوم الصحافة.

وتبدل عهد بعهد. وغابت وجوه وجاءت وجوه. وكنت من أكثر الناس اتصالا بالعهد الذي ولى ولكنك استطعت كما استطاع آخرون غيرك أن تعبر الفجوة، وأن تمكن لنفسك تمكينا وأن تصبح أكثر حظوة وأكثر أهمية، ولم تعدم- كما لم يعدم غيرك- أن تجد لذلك كثيرا من المبررات.

ومع ذلك كله فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر عليك أنك حملت عبئا ضخما وأنك أبليت بلاء حسنا وأنك شاركت مع غيرك في أن تسير السفينة وسط العواصف الهوج.

ومرة أخرى ذهب أناس وجاء آخرون، ولم تبق أنت حيث كنت، ولكن أريد لك أن تكون "المايسترو" بعد أن كنت عازفا منفردا تحسن إجادة العزف على ما تخصصت فيه من آلات.

ولا شك أنك كنت سعيدا كل السعادة بأنك أصبحت "المايسترو" الذي يقود الفريق، ولم يعد دورك مقصورا على أن تكون مجرد عازف بين مجموعة من العازفين.

وصدقت أنك "مايسترو" وبدأت تعامل العازفين في الفريق من ذلك المنطلق. ولكن بعض العازفين كانت "أنيابهم زرقاء"- كما يقولون- فزينوا لك الأمر،

ولكنهم كانوا يحفرون لك قبرا. وساعدتهم أنت بغرورك وعدم فهمك لطبائع الحياة والأحياء، وعدم فهمك لطبيعة الدور الذي أريد لك أن تؤديه.

حرائق.. حرائق

وبدأت الحرائق تشتعل بينك وبين العازفين أجمعين، لا تكاد تستثني منهم أحدا، ومن سوء حظك أن الذين كانوا يحاولون إطفاء الحرائق من حولك أصابتهم بدورهم شظايا بعضها منك وبعضها من الآخرين، أما أنت فقد صور لك خيالك وحرصك على ما أنت فيه أن أقرب الناس إليك ممن يحاولون تهدئة الأمور بينك وبين أعضاء الفريق الآخرين، صور لك خيالك المريض أنهم يحاولون أن يكسبوا ودّ هؤلاء على حسابك، فأصبحت تتشكك في أمرهم وتحاذر منهم، وما كنت معهم قط كذلك من قبل. أما ما أصابهم من الآخرين فقد كان متوقعا، ولم يكن غريبا، ذلك أن أولئك كانوا لا يريدونك ولا يريدون من هم منك قريبون.

وكثرت الحرائق حتى لم يعد يمر يوم من غير واحدة منها. ولم تقتصر الحرائق على أعضاء الفريق وحدهم، ولكنها تعدت إلى ما وراء ذلك لكي تنتشر في دائرة أكثر اتساعا وأكثر وضوحا. ولم تكن تستطيع أن تتحمل وجهة نظر أخرى أو ترى نقدا يوجه إليك.

ولما كثرت الحرائق من الداخل والخارج وجد صاحب الفريق نفسه مضطرا أن يتدخل. ودعاك إليه ودعا معك آخرين وجرى حديث عاصف عدت بعده مطمئنا راغبا في إعادة تنظيم العازفين واستبعاد بعضهم واستقدام آخرين، وبدأت تتداول في أمر ذلك كله. وسألك بعض من كانوا قريبين منك عما دار في تلك الجلسة بينك وبين بعض أقرانك. وبين صاحب الفريق الكبير، ولما سمعوا منك ما جرى من حوار وما قاله الرجل الكبير من كلام أدركوا أن نية تتجه إلى تنحية المايسترو واستقدام قائد جديد للفريق، ولكنك رفضت ذلك التفسير رفضا كاملا، لأنك كنت تريد ألا تصدقه. وواصلت جهدك لكي تعدل وتبدل بعض أعضاء الفريق، والشائعات من حولك تؤكد أن "مايسترو" جديدا يؤلف فريقا جديدا، وأنت عن ذلك كله من المعرضين.

واستدعاك "صاحب الفريق"، وأخبرك بأنه قرر أن يستغني عن خدماتك، وأنه كلف غيرك بإدارة مجموعة العازفين، وطلبت منه أن تقدم له ما يشبه الرغبة في ترك العمل، فأبى عليك ذلك وحرص على أن تكون نهايتك أقرب إلى الطرد منها إلى الخروج الكريم.

لا شيء إلا الرماد!

واضطربت أمورك بعض الوقت اضطرابا شديدا وانصرف عنك كثيرون كما ينصرفون عادة في هذه المناسبات. وحرص بعض الأصدقاء القدامى على ألا يتركوك وأنت في هذه المحنة النفسية وظلوا حولك إلى أن استعدت نفسك وبدأت تمارس نشاطك. وإذا بك تحسن استثمار موقعك القديم، عندما كنت كبير العازفين في تلك الجوقة، واندفعت اندفاعا لا هوادة فيه نحو جمع المال من كل سبيل، وبكل سبيل، ونسيت الفن والعزف والوطن. ولم يعد يشغلك شاغل إلا المال وران على قلبك- والعياذ بالله- صدأ شديد. وزاد الأمر سوءا أنك أخذت تسيء الظن بكل من حولك، ويوما بعد يوم فقدت الأصحاب القدامى واحدا بعد الآخر، حتى قال عنك البعض إنك قد تخصصت في فقد الأصدقاء بقدر تخصصك في جمع المال.

وأنا واثق أنك ستقول: أليست هذه هي سمة العصر. ألم نعد جميعا من عبّاد المال نتجه إليه مصبحين، ونتجه إليه ممسين، ونتجه إليه فيما بين ذلك؟!.

قد يكون هذا كله صحيحا، ولكن ذلك كله لا يغني، إننا في زمن بعيد كنا نتصور أنك من أولئك الذين اتجهت قلوبهم نحو العمل المخلص الجاد- نحو الفن وإتقانه وإعادة بنيانه- فإذا بك واحد من أكثر الناس شراهة للمال، ومن أكثرهم تفريطا في الصحاب ومن أكثرهم بعدا عن المثل العليا التي عشت زمنا لا تتحدث إلا عنها.

ترى ماذا خسرت وماذا كسبت؟. لقد خسرت البشر وكسبت حطاما، أغلب الظن أنه لن يسير وراءك بعد عمر طويل.

والله يرحمنا ويرحمك ويحسن ختامنا أجمعين.