السيد ياسين وأشرف أبو اليزيد.. مفكِّرٌ واقعي في عالم افتراضي

السيد ياسين وأشرف أبو اليزيد.. مفكِّرٌ واقعي في عالم افتراضي
        

          إذا كان يُعابُ على المُفكِّر نزوعه للخيال، ونزوحه إلى الانعزال، وغلوه في الغياب وراء أبراج أفكاره العاجية، فإن السيد ياسين قد حطم ذلك كله حين انخرط في الحياة الفكرية العربية بكل كيانه، محللا لآدابها، ومنظرا لثقافاتها، ومدافعًا عن ديمقراطياتها، ومنشغلا بهموم مجتمعاتنا. لم يكتف المفكر الكبير بالفلسفة والتنظير، ولم يقف عند تصدير أفكاره بين دفتي إصداراته، بل خص قراءه وحوارييه بمقالات دورية تضيء وتفسر مثلما تنتقد وتثوِّر. كما امتدت مساحة اهتمامات المفكر السيد ياسين من التحليل الاجتماعي للأدب، إلى سبر فضاء قضايا المعرفة، وصولا لبحوثه في أزمات السلطة والديمقراطية والهوية. لهذا كان حوار أشرف أبو اليزيد معه مثل بساط ريح يعبر سماء مدن أفكاره، في يسر وتؤدة تعكس رزانة الباحث، وخبرة السنوات.

  • الشباب المصرى ينظر إلى المستقبل بغضب، لإحساسه العميق بأنه ليس له مكان فيه.
  • ضعف حضور مدونات الاهتمامات التكنولوجية يعكس ضعف انتشار التفكير العلمي.
  • عرفني شيخي في الأخوان المسلمين على عالم الشاعر تي. إس. إليوت.

 

  • يصعب أن نبدأ حوارًا مع مفكِّر موسوعي، لكن دعني أقف عند منتصف الطريق؛ وأعني به مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. أريد منك أن تأخذني لحلم البداية، والكثيرون يعتبرونك اليوم الأب الروحي للمركز؟

          - ارتبطت بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية مبكرا بعد عودتي من فرنسا في بعثة امتدت من 1964-1967م. كنت قد تعرفت على الدكتور جمال العطيفي - رحمه الله - بصفته سكرتير عام الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، وذلك أثناء محاضرة جمعتنا، حيث سألني عن شخصي فور الانتهاء من مداخلة لي أشاد بها وتعرفت عليه آنذاك، بل وقال لي إنك تتحدث أفضل من المحاضر!

          كنت أيامها باحثًا في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وبدأت العلاقة بيننا، حيث ذهبت إلى مقابلته في الأهرام، وقال لي إنه يوجد زميلة تسأل عني، وكانت الدكتورة عفاف مراد وهي زميلتي أثناء مرحلة الدراسة بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية كما كنا زملاء في جمعية الفقه الإسلامي وجمعية الأبحاث الجنائية وسافرت هي إلى باريس لدراسة الدكتوراه وتقابلنا في السفارة المصرية هناك، حيث عملنا ندوات عدة، وعادت هي وعملت في «مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية» وهذا هو الاسم الأول للمركز.

مركز الأهرام وحديث البدايات

          وبالفعل عرَّفتني هي على الأستاذ حاتم صادق مدير المركز ونشأت علاقة تواصل بيني وبين المركز، واقترحت عليهم عمل وحدة لدراسة المجتمع الإسرائيلي ووافقوا على ذلك وعملت رئيسا لها، في الوقت الذي كنت أعمل أيضا في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وبقيت خبيراً منتدباً من 1968 إلى 1975. وفي 1975 حيث استقلت من المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وعينت مديرا لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية وبدأت الملحمة.

          لم يكن هناك غير باحث أو باحثين تقريبا ممن يصلحون للبحث العلمي، أما البقية فقد تكفل الدكتور عبدالملك عودة في «تطفيشهم» من المركز، حين ترأس المركز شهرين أو ثلاثة قبل عودته إلى الجامعة مرة أخرى. هناك وجدت إبراهيم كروان هو الباحث الحقيقي وبنيت حوله المركز، وقد رشح لي الدكتور عمرو محيي الدين عددًا من تلاميذه في علوم الاقتصاد، ورشح الدكتور علي الدين هلال تلاميذه في علم السياسة كما رشح لي كلاهما الآخر، وكانا زميلين معًا!

  • كما لو كان ذلك انتخاباً طبيعياً؟

          - بالضبط كذلك، وطبعا كان معياري في ذلك بناء على خبرتي الطويلة بالمركز القومي للبحوث الإجتماعية والجنائية لم يكن يعني لي تقدير الباحث الجامعي إن كان نجح بمقبول أو بامتياز، فحرصت على أن أجري مقابلة معه وأرى بنفسي إن كان ذلك الشخص مشروع باحث حقيقي؛ أو لا، وهل هو مثقف أم لا؟ وقد كان أغلب هؤلاء ممن لهم نضال سياسي، وكانوا على درجة عالية من الثقافة والاطلاع، وهكذا بدأت مسيرة التأسيس الثاني لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية.

  • يعتبر ذلك التأسيس الحقيقي الذي أنجب تلك التقارير السنوية التي أصبح القراء والدارسون يتلهفون عليها. حدثنا عن فلسفة تلك التقارير وقصتها؟

          - لكي أكون دقيقا، أقول لك إن مرحلة التأسيس الأولى كانت مهمة جداً. فالتأسيس الأول كان حين أمر الأستاذ محمد حسنين هيكل بتحويل مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية إلى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. وأذكر أن الاستاذ لطفي الخولي - رحمه الله - طلب مني أن أرافقه في رحلة إلى موسكو ورفض هيكل ذلك لحاجته لي في عملية تحويل المركز، رغم رغبتي الشديدة بالذهاب إلى موسكو، وقد حزنت جدًّا (ضاحكاً).

          شاركت الأستاذ حاتم صادق في تحويل المركز إلى شكله الحالي. واقترحتُ تحويله إلى وحدات تضم رؤساء وبرامج وهكذا. كانت المرحلة الأولى مهمة فكانت هناك ندوات علمية وكنا نستضيف خبراء من الخارج خاصة بعد هزيمة 1967 للتناقش في مستقبل الصراع.

          لكن في العام 1975 يمكن أن نتحدث عن النقلة الكيفية في تاريخ المركز، بعد أن أصبح للمركز برنامج علمي، ومجلس خبراء يجتمع كل يوم أحد الساعة السادسة وكان ذلك موعدا مقدسا، خبراء على أعلى مستوى ومنهم أستاذ الاقتصاد الدكتور عمرو محيي الدين، وأستاذ علي هلال الدين و جميل مطر في العلاقات الدولية واللواء حسن البدري في الوحدة العسكرية. كان المركز قائماً على التخطيط، وكذلك كان هناك اجتماع لكل فريق العمل من الباحثين، حيث يطرح النقاش ويدور الحوار حول أبحاثهم. تخطيط ديمقراطي يطلب من كل وحدة بحوث وضع خطة تتمثل في 3 أو 4 صفحات لكل موضوع وترفع الخطة إلى مجلس الخبراء وتناقش مناقشة نقدية، إذا أقرت الخطط تطبع كخطة المركز لهذا العام وتوزع على الأهرام كله. فقد وددت أن أطلع الأهرام عن وجود مركز علمي لدينا يعمل بطريقة عقلانية. وبعد فترة أحسست بتأثري بالتقرير الاستراتيجي الصادر من لندن، والأستاذ هيكل حين أنشأ المركز كان في مخيلته المركز الاستراتيجي الموجود في لندن فقد كان ذلك النموذج الذي احتذى به، فقررت أن يصدر تقرير استراتيجي عربي، وقد أخذ ذلك وقتا طويلا مع الخبراء على أمور عدة منها لماذا لا يكون مصريا وليس عربيا، وقد استغرقنا 6 أشهر لتحديد محتوى التقرير، مع اجتهاد من كل خبير. واستقر الأمر على التخطيط الذي وضعته مسبقا في لحظة كشف، يحتوي على 3 دوائر؛ الأولى للنظام العالمي الدولي، الثانية للنظام الإقليمي العربي، والثالثة للنظام والمجتمع المصري، وكانت تلك الوحدات الأساسية للتقرير. وبدأت المسيرة حتى الآن وأصبح يصدر بانتظام منذ حوالي 22 عاماً. وأصبح هو المرجع الاستراتيجي الأساسي في العالم العربي، وأصبح له مرجعية دولية وعالمية.

مركز أكاديمي ورأي عام

  • أود معرفة الأثر المجتمعي الحقيقي لذلك، بمعنى هناك قياس لهذا المجتمع واستبصار لما يحدث فيه، ولكن العكس ماذا عن المتلقي لهذه التقارير؟

          - سؤال مهم وجيد، لقد صممتُ على تأسيس مركز أكاديمي بكل المعايير الأكاديمية الصارمة في البحث والنشر، مع إننا في مؤسسة صحفية، وكان يبدو ذلك متناقضا إلا أن التوفيق حالفنا، لأن المركز كانت له صفحة في جريدة الأهرام وأصبحنا نخاطب الرأي العام. والأستاذ هيكل معنيٌّ جدا بهذا وهو ترشيد الخطاب في مصر حول إسرائيل والصراع والعلاقات الدولية. فلم تعد موضوعات إنشاء، ووصف العدو بأنه عصابات وشراذم، هذا الكلام كان قبل 1967م. اتيحت لنا الفرصة لنتعلم كيف نخاطب القارئ العادي بأسلوب يستطيع الوصول إليه، وهنا يبدأ التحدي الأسلوب الأكاديمي أحيانا «متقعر» ويحتشد بمصطلحات ومفاهيم، فنحن نفهم بعضنا بعضا كأكاديميين، وكانت رحلة مخاطبة القارئ العادي تمثل معاناة. ونجحنا بالفعل في الوصول إليه وأصبحت المقالات في مركز الأهرام مراجع أساسية للمثقفين والإعلاميين وأساتذة وطلبة الجامعة بالإضافة إلى مجلة السياسة الدولية.

  • بالفعل تلك المجلة كان لي حظ الإطلاع المبكر عليها وقد رغبت في الاطلاع على بعض المفاهيم التي أصبحت اليوم دارجة مثل مفهوم (المواطنة) ولكنها مع غيرها من المفاهيم التأصيلية ولدت في تلك التقارير على أيدي الكثير من العلماء والباحثين الذين شاركوا في أبحاثها. ومن هنا يأتي السؤال على مفاهيم أخرى نبتت في بساتين تلك التقارير، ومن ضمن ما أود أن أسأل عنه هو تجديد الخطاب وخاصة الديني، فأنتم معنيون بالتوجه للقارئ العام؟

          - في هذا المجال قدم المركز إسهاما بارزا، الزميل الأستاذ نبيل عبدالفتاح أصدر تقريراً عن الحالة الدينية كان هو رئيساً لتحريره ومعه ضياء رشوان مديرًا للتحرير. وقد فوجئنا به وقد طبع 5 طبعات في خمسة شهور وكان هناك طلب شديد عليه. السؤال هنا لماذا؟ لأنه للمرة الأولى كان هناك اقتراب من الظاهرة الدينية في مصر بشكل علمي ومفتوح يساوي بين المسلمين والمسيحيين. التقرير التالي تناول الأعياد الدينية الإسلامية والمسيحية وقد لاقى النجاح ذاته مما أصدر حاجة لكل طرف في معرفة الطرف الآخر، وكان ذلك إسهام المركز في هذا المجال. وقد عمل المركز الكثير من التقارير في الحركات الإسلامية وفهمها. في النهاية أصبح المتلقي يثق ثقة مطلقة في المركز. فهناك دراسات اكاديمية تتسم بالمنهج العلمي والموضوعية فلم يكن هناك انحياز لطرف على آخر.

  • أعتقد أن ذلك هو الذي جلب تلك النجومية لكل العاملين في المركز؟

          - أنت ترى ذلك جليًّا على الفضائيات (ضاحكاً) التي تستدعي العاملين في المركز، والسبب أقوله لك، لأن بالمركز ميزة كبيرة ونادرة ففيه تخصص دقيق ومعرفة شاملة لدى كل باحث. مثلا في المجتمع الإسرائيلي ستجد الباحث عماد جاد، والباحث عن المشكلة الفلسطينية سيلتقي بخبير الشئون الفلسطينية وحيد عبدالمجيد، ويسألونك عن التسلح الذري فيجيبك محمد عبدالسلام وقدري سعيد، وتستفتيني في العلاقات الدولية فأوصي لك بعبد المنعم سعيد وحسن أبوطالب، في قضية دارفور يتحدث هاني رسلان المتخصص بها. هناك تخصص ومعرفة دقيقة في أي ملف كما أن هناك معرفة شاملة أيضا. الجمع بين التخصص الدقيق والمعرفة الدولية السياسية الشاملة إحدى المزايا لدى العاملين في المركز.

  • يمكن بهذا التحليل أن نعثر على الوصفة السرية للصبغة لما يجب أن يكون عليه الباحث اليوم؟

          - معك حق.

          في رحاب الأدب الإنجليزي

  • لعلنا لا نخرج عن سياق المعرفة الشاملة حين أستعيد حديثنا بالأمس عن هوايتكم للأدب الإنجليزي وأريد أن نبحر معا في زورق تي. إس. إليوت ومن معه؟

          - درست الثانوية في مدرسة رأس التين بالإسكندرية، وقد كان ذلك في أواخر الأربعينيات حينما كان لا يزال لدينا في المدارس الحكومية مدرسون من الإنجليز يدرِّسون لغتهم الأم. مستر ميتشل كان معلمي للغة الإنجليزية، كما كان هناك معلم آخر أفضل منه يدعى راغب متى، وكان أسطورة في تعليم اللغة الإنجليزية وله منهج خاص مما حببني في اللغة الإنجليزية وأدخلنا إلى أعماق اللغة. وفي أسرتي كان شقيقي الأكبر يكتب الشعر باللغة الإنجليزية كما كان أيضا شقيقي فؤاد ياسين قارئاً جيداً في أسرة قارئة. أحببت الشعر الإنجليزي. في تلك المرحلة كنت اشتري الكتب المستعملة من مكتبة في حي العطارين (اسمها مكتبة أخوان الصفا وخلان الوفا للحاج إبراهيم). وكان الحاج إبراهيم أيضا يعرف اللغة الإنجليزية جيدا فيساعدني في اختيار القواميس الإنجليزية ومسرحيات شكسبير. فيقول لي هذا قاموس وبستر بمائة وعشرين قرشا. آنذاك كوَّنت مجموعة دواوين شعرية إنجليزية بين 20 و30 كتابا وهكذا قرأت مبكرا لشكسبير وشيلي واليزابيث براونينج وزوجها روبرت براونينج وقد كانت هي أجود منه شعرياً.

          تعرفت على تي. إس. إليوت من شيخي في الأخوان المسلمين، وهو الشيخ مصطفى الشمرقة - رحمه الله - وكان كفيف البصر ومدرساً في المعهد الأزهري وناظر مدرسة الدعاة في الأخوان المسلمين شعبة محرم بك والعطارين. وقد دخلت مدرسة الدعاة لمدة عامين، ولأنه كان كفيفا فقد أقرأ عليه. أحب الشيخ مصطفى الشمرقة أن يقلد طه حسين، فدخل كلية الآداب منتسبا في قسم اللغة العربية وقد درست معه كل مقررات اللغة العربية، وقد كنت اقرأ له مقرراته. وكان من بين المقررات الدراسية عليهم تي إس إليوت. كان الدكتور محمد مصطفى بدوي أستاذ الأدب يدرسهم اللغة الإنجليزية فدرست معه قصائد إليوت كلها وترجمت قصيدة لإليوت مبكِّرًّا اسمها (الرجال الجوف) التي ترجمها بعد 20 سنة الدكتور لويس عوض. كان ذلك التواصل مع الأدب الإنجليزي سر حبي للغة الإنجليزية.

  • هذا قبل أن تصبح دراسة اللغة الإنجليزية «أرضا يبابا»؟

          - نعم، أضف إلى ذلك أنني قاريء قديم للغة الإنجليزية، وقرأت بها الفلسفة مبكرا، كما اهتممت بأدب المقالة، وهو أمرٌ يدخل في عصب التكوين، وكان هناك تقرير عن الأدب الأنجلو ساكسوني، وقرأت كتاب المقالات الإنجليز، وهو ما أثر على كتاباتي بعد عشرين عامًا، فأصبحت من كتاب المقالات الفكرية، أو الفلسفية، وليس الثقافية.

  • للأسف لم يعد هناك في عالمنا العربي تقييم حقيقي للمقالة، ربما لأن كل من هب ودب أصبح يكتب ذلك النوع الأدبي، فقل الاعتراف بها؟

          - تقليد المقالة الفكرية ليس مستقراً بشكل تام. وهناك قلة يكتبونها. طبعًا كان هناك أستاذنا العظيم زكي نجيب محمود، ملك المقالة الفلسفية الفكرية، لكن من يكتب مثله كانوا محدودين جداً.

عن المدونين ومدوناتهم

  • طرحتَ في ندوة مجلة العربي الأخيرة (الثقافة العربية في ظل وسائط الاتصال الحديثة، 8 - 10 مارس) مجموعة من الأفكار التي نالت حظا كبيرًا من النقاش، لكنني أريد في البداية أن ترسم وجه ذلك الفضاء الذي سنخوض بأسئلتنا فيه. بداية ألا ترى أن ذلك الفضاء الكوني الحر تسبغ عليه هالة من الديمقراطية الافتراضية التي يتداول فيها قاطنوه المعلومات بكل مقوماتها ومكوناتها بحرية؟

          - ينبغى ألا يقر في الأذهان، أن تشكيل مجتمع المعلومات الكوني عملية هينة وذلك أنه يقف دونها تحديات عظمى، ينبغى مواجهتها. وأول هذه التحديات المعركة الدائرة الآن حول «ديمقراطية المعلومات»، والتى هي الشرط الموضوعي الذي لابد من توافره، وذلك لتفادي الشمولية والسلطوية. وأساس ديمقراطية المعلومات أربعة مقومات، أولها: حماية خصوصية الأفراد، وتعنى الحق الإنساني للفرد لكي يصون حياته الخاصة ويحجبها عن الآخرين. والمقوم الثاني هو الحق في المعرفة، ونعني حق المواطنين في معرفة كل ضروب المعلومات الحكومية السرية، التي قد تؤثر على مصائر الناس تأثيراً جسيماً. ونأتي بعد ذلك إلى حق استخدام المعلومات. ونعني بذلك حق كل مواطن في أن يستخدم شبكات المعلومات المتاحة وبنوك البيانات، بسعر رخيص، وفى كل مكان، وفي أي وقت. وأخيراً نصل إلى ذروة مستويات ديمقراطية الإعلام، ونعني حق المواطن في الاشتراك المباشر في إدارة البنية التحتية للإعلام الكونى، ومن أبرزها عملية صنع القرار على كل المستويات المحلية والحكومية والكونية.

  • يظن البعض أن مفردة المُدَوَّنَة مستحدثة، والواقع أن (المدونة الكبرى) هي مؤلف جمع بين غلافيه أقوال الإمام مالك المروية عنه والمخرجة على أصول مذهبه، وبعض آراء أصحابه. وتعتبر المدونة الأصل الثاني للفقه المالكي بعد الموطأ، كما أنها أدق كتب الفروع في الفقه المالكي وأصحها. وقد شُرِحت المدونة ولخصت وعلق عليها الكثير، مثل: محمد بن أبي زيد القيرواني، ويُعد من الكتب المهمة في التنظير للأصول والفروع. ولكن أنت تحدثت عن مدونات في سياق مجتمع المعلومات العالمى المرتكز على ما يطلق عليه الفضاء المعلوماتي، حيث ظهرت أشكال متعددة من التفاعلات الاجتماعية والثقافية والسياسية أخذت شكل المدونات؟

          - انتقل تقليد كتابة المدونات من الولايات المتحدة الأمريكية إلى مختلف بلاد العالم، وانتشرت في العقد الأخير في مختلف أنحاء الوطن العربي وفى مصر. وإذا رجعنا إلى بحث: «المدونات المصرية: فضاء اجتماعى جديد» الذي نشره مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري، نجده يحدد بدقة أنماط المدونات المصرية بناء على عينة من هذه المدونات في إطار البحث الشامل الذي يجريه في الموضوع.

          فهناك مدونات متنوعة الاهتمامات تمثل (30.7 %) ومدونات سياسية تحتل الترتيب الثانى (18.9%)، إلا أنها الأعلى صوتاً في الفضاء التدويني بحكم ارتباطها بأحداث سياسية مصرية، وهناك مدونات شخصية حول الحياة والنفس والحظ والعواطف والرغبات (15.5%)، ومدونات ثقافية تضم الاهتمامات الأدبية والفنية والفكرية والصحفية (14.4%)، ومدونات دينية لا تزيد عن 7% من مجموعة عينة المدونات، ومدونات اجتماعية للعلاقة بين الرجل والمرأة والزواج والطلاق والعنف، ومدونات ذات اهتمامات علمية وتكنولوجية تقتسم باقي النسب الضئيلة، حيث لا تزيد نسبة الأخيرة عن 4% وبعضها يحرره مدونون يعملون في مجالات متصلة بالتكنولوجيا والإنترنت والاتصالات والحاسب الآلي، وضعف هذه النسبة يعكس ضعف انتشار التفكير العلمي.

          وإذا كان التدوين في سياق مجتمعات ديمقراطية عادة ما يستخدم للتعبير عن الذات في المقام الأول، وليس للتعبير عن آراء سياسية باعتبار أن المنابر الإعلامية مفتوحة وإن كان ذلك نظريا لكل من يرغب في التعبير عن رأيه السياسي، إلا أن التدوين في الولايات المتحدة الأمريكية تحول ليكون منبرا سياسيا للآراء المعارضة للإدارة الأمريكية وخصوصا في عهد الرئيس جورج بوش، فيما يتعلق أساسا بحربه ضد العراق، والنتائج المأساوية التي ترتبت عليها، وخصوصا بالنسبة للشباب الأمريكي المجند، والذي سقط منه في ساحات المعارك العسكرية الآلاف وجرح وشوه آلاف آخرون.

          وقد أدى هذا التحول في اتجاهات التدوين الأمريكى من التعبير عن الذات الفردية والاجتماعية إلى التركيز على النقد السياسي للسياسات الأمريكية المنحرفة للإدارة الأمريكية وخصوصا في غمار حربها ضد الإرهاب وما دار فيها من مخالفات جسيمة لحقوق الإنسان، إلى هجوم غير مسبوق على التدوين والمدونين لدرجة أن الرئيس بوش صرح في 17 أكتوبر عام 2006 بأن هؤلاء المدونين الذين ينتقدون حربه ضد الإرهاب وأمثالهم من الصحفيين الذين يستخدمون شبكة الإنترنت، ليسوا سوى أدوات لدعاية العدو الموجهة ضد الولايات المتحدة الأمريكية. أما عندنا فقد أرجعت ظاهرة المدونات السياسية أساسا، وكذلك تجمعات الفيس بوك إلى أزمة اختلال القيم في المجتمعات العربية، وخصوصا في تقلبها بين التقليد والحداثة من ناحية، ومن ناحية أخرى في التحول من اقتصادات اشتراكية إلى اقتصادات رأسمالية وما صاحب ذلك من حراك اجتماعى صاعد وهابط لعديد من الطبقات الاجتماعية، أو التحول من اقتصادات بدائية إلى اقتصادات نفطية في دول الخليج العربي، وما أدى إليه ذلك من انقلابات في مجال القيم الاجتماعية، ومن تغير هائل في مواضع الطبقات الاجتماعية.

  • في ختام تحليلك لذلك الواقع الافتراضي، بمعلوماته، وديمقراطيته، ومدوناته، ومجتمعه الخائلي الموازي لمجتمع الأرض، ما هو شكل المستقبل؟

          - اختلال القيم، والفوارق الطبقية الهائلة، وتقسيم المجتمع المصري إلى منتجعات هنا وعشوائيات هناك، هي الأسباب الكامنة التي جعلت الشباب المصري لا ينظر خلفه في غضب حسب اسم المسرحية الإنجليزية الشهيرة لصمويل بيكيت ولكنه وهذا هو الأخطر - ينظر إلى المستقبل ذاته بغضب، لإحساسه العميق أنه ليس له مكان فيه!.

----------------------------------

ترى من سيخبر الأحباب أنّا ما نسيناهم
وأنّا نحن في المنفى نعيش بزاد ذكراهم
وأنّا ما سلوناهم
فصحبتنا بفجر العمر ما زالت تؤانسنا
وما زالت بهذي البيد في المنفى ترافقنا
ونحن بهذه الغربة
تعشّش في زوايانا عناكب هذه الغربة
تمدّ خيوطها السوداء في آفاقنا الغبراء أحزانا
تهدهد جفننا الأحلام تنقلنا على جنح من الذكرى
إلى عهد مضى حيث السكون يثير نجوانا

محمد القيلي

 

 





المفكر السيد ياسين وأشرف أبو اليزيد