الفلسفة من النظرية إلى الواقع العملي

الفلسفة من النظرية إلى الواقع العملي
        

          بعد أن طالعت في العدد 608 يوليو 2009م موضوعاً بعنوان «هل تنجح الإنترنت في إحياء الفلسفة؟» للكاتب إبراهيم فرغلي. مما دفعني إلى إرسال هذا التعليق:

          مما يدعو للأسف الشديد والتحسر أن هذا العلم (علم الفلسفة) لم يجد حظه من الاهتمام أو التقدير في عالمنا العربي والإسلامي، على الرغم مما له من مكانة رفيعة وسامقة في الغرب اليوم، إذ لا يمكن لأمة أن تتقدم وتترقى إلا إذا أدركت فلسفة ما تشتغل به من علم وفكر وأدب وفن وتربية ... وغير ذلك من النظريات المعرفية. إذ لم تعد الفلسفة عبارة عن أفكار خيالية ونظريات هلامية غير قابلة للدراسة والتطبيق المادي في الواقع الملموس، أو ترف عقلي وفكري كما كانت في السابق، كما لم تعد تهوم في آفاق بعيدة لا علاقة لها بالإنسان وما يدور في عقله من أفكار واهتمامات وثيقة الصلة بحياته التي يعيشها. لقد أصبحت الفلسفة وثيقة الصلة بكل ما يشغل فكر الفرد والجماعة فالفرد في حاجة إلى الفلسفة في حياته التي يعيشها وكذلك الجماعة. إذن فقد خرجت الفلسفة من عالم النظريات إلى عالم الوجود فأضحت فلسفة عملية تطبيقية.

          فالفلسفة علم يحوي في جعبته كل العلوم ولا يوجد علم من العلوم المتعارف عليها اليوم، ـ سواء أكانت حديثة أم قديمة ـ إلا وقد خرج من عباءة الفلسفة، فقد كان الفلاسفة في السابق هم أهل الحكمة والمعرفة ولهم باع في كل فن من فنون المعرفة الإنسانية بدءاً من اللغة باعتبارها الوعاء الذي يحوي كل فكر بشري ومروراً بالعقيدة والتفاسير والحديث والتاريخ ... والفنون والثقافة (الشعر) والطب والهندسة والفلك والجغرافيا والرياضيات ...، وقد أضاف الفلاسفة (في الغرب) إلى تلك العلوم معرفة بأحدث ما توصلت إليه البشرية من تقنيات علمية وفي شتى مجالات المعرفة فهناك ثورة الاتصالات والاستنساخ والفضاء والانتقال الآني ...، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل سيتعداه إلى ما سيتجدد في كل ضروب العلوم والفنون والآداب الإنسانية.

          لهذا كان لزاماً علينا أن نتساءل وما الفلسفة إلا نوع من السؤال أو فلنقل التساؤل عن ماهية الهدف أو السبب والعلة الكامنة وراء السلوك الذي نبذل جهداً كبيراً أو صغيراً لنقوم به أي أن علينا ألا نكف عن التساؤل ؛ لأن التساؤل يدفعنا إلى البحث والبحث يوصلنا إلى الإجابة أو الإجابات العقلية والمنطقية التي تفسر لنا الدافع الذي يحثنا ويدفعنا إلى القيام بذلك السلوك أو النشاط.

          من هنا نشأت فلسفة العلوم : فلسفة التربية، فلسفة الفنون، فلسفة القانون، فلسفة العقيدة والأديان، فلسفة السياسة ... ونتدرج في هذا الإطار إلى أن نبلغ فلسفة الحياة التي ستقودنا بدورها إلى فلسفة السعادة وهي الغاية التي ينشدها الفلاسفة من اشتغالهم بالتفكير في العلوم العقلية الفلسفية، فهم في سعيهم هذا كانوا ينشدون السعادة الروحية والفكرية التي تتوق إليها أرواحهم وتهفو إليها نفوسهم يدفعهم إلى ذلك قلب يخفق بمحبة الخالق، فسعوا إلى معرفته من خلال التفكر والتأمل في جميع ما خلق ولنا في رائعة المفكر والفيلسوف ابن طفيل (قصة حي بن يقظان) أروع وأجمل مثال على أن الفلاسفة كانوا ينشدون السعادة الروحية من أجل ذلك أرهقوا العقل وأنهكوا الفكر ليرتاح الفؤاد.

          وفي ظني واعتقادي أن أصحاب الفلسفة الإشراقية وأهل التصوف هم من أدرك هذه الغاية. ولا أعني بأهل التصوف هنا أهل التكايا والخلاوى أو ذوي اللحى والسبح ... إلى آخره من مظاهر التدين المظهري أو الشكلي، وإنما عنيت بالمتصوفة أولئك الذي تعمقوا وتبحروا في البحث عن معرفة كنه الأشياء وأصلها ونذروا لذلك أرواحهم وأجسادهم ونسوا أنفسهم حتى أنهم لم يعودوا يأبهون بشيء في هذه الحياة إلا البحث والبحث فقط ليقدموا لنا أرواحهم وهي تضيء لنا مسالك الحياة لنسير بهديهم ونهتدي بنور أرواحهم المشتعلة والمشتغلة دوماً بالبحث، كل يبحث في مجاله فهم النجوم التي نهتدي بها في ظلمات البر والبحر وهم حداة البشرية إلى السعادة الدائمة إن شاء الله تعالى. وأمثال هؤلاء لا نجدهم في اللعب واللهو، وإنما نجدهم يقضون الليل ويصلون ليلهم بنهارهم وهم يتأملون ويتفكرون ويتدبرون في الإبداع والابتكار وخلق الجديد مما يفيد الناس في حياتهم فتجد منهم العالم في معمله ومختبره والمفكر في صومعة أفكاره والمبدع في لوحاته وأشعاره ... أمثال هؤلاء هم من أدرك فلسفة الحياة ووجد لذة السعادة الحقة التي تكمن في العطاء بلا حدود.

عبدالله أحمد الباكري - السعودية