«رأس بيروت» المنفتحة على العرب والعروبة

«رأس بيروت» المنفتحة على العرب والعروبة
        

          نشأتُ في عائلة لبنانية عروبية، لا تعمل إلا في السياسة أو مشتقاتها، كالصحف والكتابة والنوادي السياسية. هكذا كانت عائلتي لجهة أبي، ولكنّي كنت أحفظ لأمي التركية المتحدرة من عائلة عثمانية ملكت حتى أمس قريب ملكاً في بقاعنا اللبناني، نصرتها الحماسية لمصطفى كمال العلماني، فالمرأة التركية من دون أن تتنكّر لتاريخ تركيا الطويل تعصّبت لأبرز علماني أخرجه الشرق.

          تأثرتُ أثناء دراستي الابتدائية بجو رأس بيروت منذ دخولي مدرسة السيدة أمينة الخوري المقدسي الإنجيلية الراقية, المنفتحة على العالم والتقدم، لكن العروبية أيضاً. فأخوها أنيس الخوري هو مَن قال في قصيدة:

كفّوا البكاء على الطلول الهمد
                              ليس القضاء على البلاد بمعتد.

          درست كذلك سنة في المقاصد، ولكن بعد أن كنت قد طردت من الكلية الثانوية العامة (أي سي) القسم الفرنسي لمشاركتي في نشاط سياسي، لأعود فأتخرّج في الجامعة الأمريكية بشهادة أستاذ آداب MA.

          في باريس درستُ على يد المستشرق الفرنسي غاستون فييت الأستاذ الجامعي في الكولج دي فرانس، التابعة للسوربون ومدير المتحف المصري في القاهرة لمدة طويلة من الزمن. وهو شخصية ثقافية فرنسية لا تُنسى.

          ترعرعتُ في منطقة رأس بيروت المنفتحة، حيث قضيت كل عمري تقريباً. هذه المنطقة المنفتحة على العرب والعروبة وعلى نوع متقدم من البشر هو ذلك الصنف الراقي من الغربيين الذي وهب نفسه للتعليم. كان جو رأس بيروت بسبب الجامعة الأمريكية وكثافة طلابها العرب وكثافة الوافدين إليها من البلدان العربية، سوريين ومصريين وعراقيين وفلسطينيين نقطة التقاء، ووصل بين عربي وعربي طليعيين من كل الأقطار، وبينهم قادة فكريون وصحافيون وزعماء مجددون يأتون إلى رأس بيروت، ولاسيما الجامعات والمقاهي والمطاعم المحيطة بها، وكأنهم يتعرّفون من خلالها ومن فيها إلى صورة زاهية من المستقبل العربي. وقد عقدت بسبب هذا المكان والجو صداقات

          لا تُنسى مع سادة ومفكرين، هم صانعو الفكر في بلادهم.

          كان الكاتب والصحافي المصري أحمد بهاء الدين عندما يزور بيروت ولاسيما مطعم فيصل في رأس بيروت التي يصفها بالحي اللاتيني في باريس، يشعر أنه اتصل بأمته العربية كلها بلا تمييز، وهكذا فكل الأسماء التي تظهر في مصر والعراق وسورية كقادة تيارات مثل كامل زهيري وميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وكامل الجادرجي وغيرهم. كنا نلتقي بهم في المقاهي المحيطة بالجامعة متبادلين معهم الآراء والأفكار وآمال الحاضر والمستقبل. بل كثيراً ما كان يحصل أن المصري يتعرف إلى مصري آخر، والعراقي إلى عراقي آخر في جو رأس بيروت.

          وكان قادة الفكر السياسي العربي الجديد يرون في مَن يتصلون به من شباب صورة المستقبل العربي الجديد والقادر ودور لبنان في نهضة العرب، وهو المفتوح على المستقبل، وكثيراً ما كانوا يتحدثون عن مقالات كتبها أحرار لبنان والعرب في «حوادث» المرحوم سليم اللوزي و«حوادث» ملحم كرم، و«نهار» غسان تويني بتوقيع أو غير توقيع.

          ومن هذه الكتابات ما كتبتُهُ على سبيل المثال في كراريس منها «الإسلام وحركة التحرر العربي»، و«الانعزالية الجديدة في لبنان»، و«الكيان والثورة في العمل الفلسطيني»، وغيرها مما مثل ويمثل دلائل المستقبل اللبناني والعربي عند أجيال الشباب المثقف. وقد كتب أحدهم أن لا أحد نظّر للشهابية ثم ضدّها كمنح الصلح، ولا أحد نظّر للإنسان العربي وقلبه على لبنان وفلسطين مثل منح الصلح.

          ولا أذكر أنني فرقت في طفولتي، أو ميّز أهلي بين سورية ولبنان.

          أما المشهد الأقدم والأبقى في ذهني طفلاً من ذكريات العمل ضد الانتداب الفرنسي، فهو تلك المعركة ضد «شركة الجرّ والتفوير» التي شارك فيها، بل قادها، صغير أعمامي عماد، الأقرب إلى نفسي والطالب في اللاييك. والمعركة كانت ناجحة. وكانت حافلات الترامواي تمرّ فارغة من الركاب أمام بيتنا في البسطة، فلا يصعد إليها أحد احتجاجاً على ارتفاع أجرتها. وكانت الكهرباء مقطوعة في الليل وفقاً لمطالب لجنة العم الأصغر المتأثرة بمبادئ غاندي، والكل مبتهج بأن لا ضوء ينبعث من أي نافذة قريبة أو بعيدة، والجميع يعيش على الشموع والفوانيس.

          وقد كان لي الحظ وأنا بعد طالب في باريس في أن أحضر الدفاع عن الأطروحة التي كان قد قدمها عمي عماد لنيل شهادة الدكتوراه، وكان الموضوع الذي اختاره، هو مؤسس إحدى أهم المجلات في الزمن العثماني وهي «جوائب» أحمد فارس الشدياق ألمع كتّاب وباحثي عصره من اللبنانيين.

          آمنت دائماً بمركزية مصر في العالم العربي وعلاقتها النهضوية بلبنان منذ مجيء مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده منفياً إلى لبنان، وصداقته مع مؤسس مدرسة الحكمة المطران يوسف الدبس، في ما يوحي من سياق ما كان يدور بينهما بأنه بذور أولى للفكر الذي قام عليه، فيما يعد الميثاق الوطني اللبناني. فمصر بالمناسبة قامت بنهضتها في العصر الحديث وهي تنادي يحيا الصليب مع الهلال.

          عمي تقي الدين كان لبنانياً عروبياً مندمجاً في المحيط اللبناني التعددي، أستاذاً في اللاييك وعمي كاظم كان رئيس حزب النداء القومي ذي الأثر في زمانه.

          أبي كان من مؤسسي حزب الاستقلال الجمهوري مع الشيخ عزيز الهاشم الذي كان رئيس الحزب. وكان معه الدكتور إلياس جبر ونجيب الصايغ ونصري معلوف وغيرهم.

          سُمّي الحزب «حزب الاستقلال الجمهوري» أسوة بـ«حزب الاستقلال العربي» الذي أسّسه الرعيل الأول السوري والعربي التابع لفيصل الهاشمي، ولكن ذاك كان ملكياً، قال لي أبي، فزادوا على الاستقلال كلمة الجمهوري. إنها خصوصية لبنان داخل العروبة، عروبي وجمهوري ديمقراطي في الوقت عينه.

          إن لبنان في سباق مع الزمن، فلا يكفي أن يكون أخاً لأخوته العرب وصديقاً لأصدقائه وعدواً لأعدائهم، بل ينبغي أن يتصف أيضاً بصفة التنافسية للعدو والصديق على حد سواء. وهو لا يكون كذلك إلا بالصحوة على ما هو فيه وعلى ما حوله، وعلى نبض العصر وهذا هو الأهم.

          إن لبنان في سباق مع الزمن ولم يعد يفيده لا أن يكون مع الغرب، ولا أن يكون ضده، بل المطلوب أن يكون مثل المتقدمين جدياً في قراءة قدراته مستخدماً هذه القدرات في سبيل أمنه وسلامته وخيره ونموه ودوره في محيطه، بل من السطحية تصوير الوجود اللبناني بأنه مجرد قرار من الجنرال غورو اتُخذ بعد الحرب العالمية الأولى، بينما الحق أن لبنان قام أولاً بإرادة من أبنائه وبدعم من العروبة التي عملت للوحدة العربية، ولكنها قبلت وأيّدت وجود لبنان واستقلاله ورأت في ذلك ما يفيد المنطقة ويفيده، فهو إضافة نوعية للوجود العربي. ولولا إيجابية المنطقة العربية إزاء الكيان اللبناني وحرصها على الاغتناء بتعدديته لخسر الاستقلال اللبناني وخسرت العروبة الجامعة الكثير.

          إن العدو الأساسي للبنان هو إسرائيل الطامعة لنفسها بدور لبنان في المنطقة، والصديق الأساسي للبنان هو ديار العروبة.

          إسرائيل كرهت لبنان لأنه نقيضها، فهي عدوة المنطقة أما لبنان فهو طليعي في حياة العرب.

          المرحوم توفيق يوسف عواد في آخر إطلالة له قبل وفاته على التلفزيون كان يتحدث عن الصيغة اللبنانية ناسباً إلى عمي تقي الدين أنه هو وابن عمه الكبير رياض كتبا البيان الوزاري لحكومة الاستقلال الأولى «لن يكون لبنان للاستعمار مقراً ولا لاستعمار أخواته العربيات ممراً، بل وطناً عزيزاً مستقلاً سيداً حراً». وهذا الفهم للبنان كان صحوة في وقتها شدت من بنيان هذا الوطن.

          الميثاقية والشهابية وثبتان تاريخيتان في عمر لبنان، بهما عزز ودعم ديمقراطيته، فإذا كانت الأولى، أي الميثاقية نداء لتوحيد الوطن وتنظيم تعدديته وتحقيق استقلاله، فإن الشهابية هي النداء إلى العبور من استقلال الدولة إلى دولة الاستقلال. ولعلنا اليوم بحاجة إلى وثبة ثالثة من هذا النوع.

          أذكر يوم ذهبت مع عمي تقي الدين إلى منزل صديقه الرئيس فؤاد شهاب في صربا قرب جونيه لنسلّمه الخطاب المعدّ للإلقاء بمناسبة عيد الاستقلال. بعد نظرة سريعة ألقاها الرئيس على البيان قال: «يا ليتني أستطيع أن أتكلم بالعربي الدارج لقلت «إن الدولة والإدارة صار لازمها خراطة»، وبالفعل كما تبين في ما بعد كان هذا هاجس الرئيس فؤاد شهاب، وقد استقدم الأب لوبريه الفرنسي على هذا الأساس طالباً منه إجراء هذه «الخراطة» فالديمقراطية بشكل الحكم لا تكفي.

          ما أذكره أيضاً من تلك الجلسة أنه أضاف متحدثاً إلى العمّ وإليّ، «إن هذا لا يتمّ (أي الخراطة) إلا بأخذ رأي المسلم ومشاركته»، مضيفاً: شرط أن يكون مثل أفضالكم أنتما الاثنين. لم أفهم بالضبط ماذا كان يقصد بشرط أن يكون المسلم مثل حضرتكم، وقلت ذلك للعم، فأجاب أنه يقصد المسلم الذي لا ينظر إلى لبنان من زاوية عددية رقمية صرفة، فإذا كان أكثرية ارتضى لبنان دولة سيدة وإذا كان أقلية نادى بعدم ضرورته.

          إن لبنان لم يقم بالأساس لأن أكثريته مسيحية ولأن المسلمين أقلية فيه تريد ولا تقدر على الإطاحة به، بل إن لبنان المستقل السيد خيار حر لأهله من المسيحيين والمسلمين على حد سواء، ولأن عروبة المنطقة ارتضت ورأت في قيامه وديمومته ضرورة لشعبه ولها.

          إن لبنان لولا المسيحيون ما قام ولكنه أيضاً لولا المسلمون مادام، وهذا ما أؤمن به.

          إن المنطقة كلها رأت ولاتزال ترى في لبنان ودوامه فائدة وطنية وقومية لبلدانها كافة. بل لو لم يكن لبنان موجوداً لرأت الأمة العربية، بل القومية العربية ضرورة في إيجاده وتكريسه وطناً عزيزاً مستقلاً سيداً حراً يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب كما في بيان حكومة الاستقلال الأولى.

          إن لبنان كان دائماً ضرورة للنهضة العربية بعامة، وضرورة للأمن العربي وللتقدم العربي.

          إن وجود لبنان حر وديموقراطي قرار من أهله كما هو إرادة ومصلحة لشعوب المنطقة ودولها، بل هو أقرب إلى معظم الدول العربية من أي دولة عربية أخرى.

          إنه برأي أبنائه جميعاً أكثر الكيانات العربية حقاً بالوجود والدوام المستقل، وهو ضرورة وفائدة لقضايا العرب الكبرى كالقضية الفلسطينية والعروبة الجامعة. بل هو كان ولايزال جسراً للعلاقات العربية - العربية والعلاقات العربية - الدولية.

          لم تكن الشهابية، أي نهج فؤاد شهاب بالحكم بلا أخطاء، ولكن تبقى - بلاشك - أفضل من الذين نصّبوا أنفسهم قضاة وبدائل عنها من مواقع الرجعيات والطائفيات والليبراليات المغالية.

          وحسب الشهابية والميثاقية الأولى، إنهما لعبتا دوراً في تجنيب لبنان جدلية التداول بين الليبرالية المنفلتة، والانقلاب العسكري، ذلك الثنائي الذي تسلّط على الحياة العربية مانعاً إيّاها من الوصول إلى الديمقراطية الحقّة. فإما الليبرالية المغالية والتقليد الرجعي الموروث أو الانقلاب العسكري.

          كان فؤاد شهاب يتهم معارضيه من مهاجمي حكمه واعتماده المبالغ فيه على «المكتب الثاني» بأنهم هم - أي المعارضون - الذين يخرجون على وصايا «الكتاب» أي القوانين والأعراف والأصول المتبعة حتى الدستور.

          أما المعارضون لحكم شهاب فكانوا يقولون عنه إنه معقّد إزاء طريقة الحكم في مصر ومقلّد لعبدالناصر وسورية الانقلابات العسكرية. وذلك ما اعتبرته أغلبية الناس تجنياً عليه من خصومه، وأخذ عليه أنه قال: «إن علينا أن نعرف كيف نعيش في ظل الرجل العظيم، أي عبدالناصر»، وهي كلمة أملاها عليه في زمانها حبه للبنان ليس إلا، والواقع أن الرئيس فؤاد شهاب، وإن كان عسكرياً يقدّر الأكفاء من العسكريين ويعتمد عليهم عن اقتناع بحكم نشأته وظروفه، إلا أن مرجعيته كانت الدستور وكان أميل دائماً إلى إبعاد الجيش عن السياسة، وأغلب العسكريين وغير العسكريين الذين كان يتشاور معهم الرأي ويعتمدهم، كانوا من الصنف المتفهّم للحياة الديمقراطية والمدنية، والدليل أنه رحّب، بل سعى لأن يأتي بعده الرئيس شارل حلو الديمقراطي قلباً وقالباً، والمثقف وغير المنساق في العصبيات.

          والذين عرفوا فؤاد شهاب عن قرب ودققوا في فهم طريقته في الحكم، اكتشفوا أن الأمير في شخصية فؤاد هو الذي كان يحكم رئاسته للجمهورية لا الجنرال، بكل ما في كلمة أمير هنا من سلبيات وإيجابيات. ونقول الأمير هنا، بالمعنى الشعبي، أي الرجل المترفّع غير الرخيص والمؤهل لأن يكون حكماً وليس حاكماً فقط.

          هاتان المدرستان السياسيتان، أي الميثاقية والشهابية كان لهما فضل كبير في تجنيب لبنان الآفة، التي تعرّضت لها المنطقة العربية، ألا وهي المراوحة بين الرضى بنظم الحكم المتخلفة بشكليها القديم والإقطاعي والجديد المتمثل بالليبرالية المتخلفة من جهة، أو الحكم العسكري من جهة ثانية. فضيلة النظام الديمقراطي اللبناني القائم أنه وحده بفضل الميثاقية والتجربة الشهابية، كان المستعصي على جدلية الرضى بالتخلّف بألوانه القديمة المتجسّدة بالإقطاع الموروث، والليبرالية المتخلفة من جهة، أو الانقلاب العسكري. وكأن هذا قدر كل بلد عربي.

          إننا بعيدون عن أن نرضى بالكثير من نقاط الضعف والقصور وعدم اللحاق بالعصر في حياتنا السياسية. ولدى اللبنانيين شعور بالتطلع دائماً إلى الأمام، والتحدي الذي يواجهنا اليوم هو إطلاق ركيزة ثالثة لديمقراطيتنا بعد الميثاقية والشهابية يستولدها المثقفون ورجال الفكر من بطن الحاجات. وكل ذلك لتحصين الديمقراطية اللبنانية في المستقبل، كما حصّنت الميثاقية والشهابية الديمقراطية اللبنانية في وقت من الأوقات ولو تحصينا غير كاف، وبالتالي غير قادر على الدوام.

 

 

منح الصلح   




 





رأس بيروت كما تبدو من الجو





منح الصلح: في هذه المنطقة قضيت كل عمري تقريبا